مالك شبل واحد من الوجوه البارزة في التأليف الغزير حول «إسلام الأنوار»، الذي يحاول استقصاء جوانبه الخفية وسط ركام التحريف الذي شاب إسلامنا النقي. على امتداد سنوات طويلة، رسم لنفسه مسارا خاصا فيه كثير من الحذر تجاه غرب لا يعترف بالآخر إلا على مضض وكثير من العمل المتواصل والذؤوب. في أحد لقاءاته بالمغرب، حكى شبل قصته مع إعلام ذلك الغرب، الذي لم يكن، دائما، بريئا في تعامله مع جيل الكتاب ذوي الأصول العربية المسلمة، الذين يمثلون اليوم الموجة الفكرية الجديدة. ولعل في قصته عبرة يبدو أنها كانت باعثا آخر على المضي في تبيان ما لا يعرفه الآخر عنا. عبر مسار التميز الفكري، استطاع مالك شبل أن يسهم إلى حد كبير في تصحيح كثير من الصور عن عالم عربي إسلامي صار، للأسف، موضوع حذر وسوء فهم من قبل الجاهلين به. عن هذا المسار وعن مشروع إسلام الأنوار الذي يؤمن به مالك شبل حتى النخاع سألت «المساء» الرجل في لقاء حصري معها، فكانت أجوبته صريحة، عفوية. - المعلوم أنك ألفت كتابا حول الأدب الإيروتيقي في الشرق سميته « le Kama-sutra arabe». إلا أنك حصرت الحديث عن هذا الموضوع في المجال العربي فقط دون المجال الإسلامي. لم هذا الاستثناء؟ أليس في الإسلام أدب مثيل علما بأنك من بين أبرز الباحثين في هذا الباب؟ < أعتقد أنه ليس في الإسلام ما يميل إلى الحديث عن الثقافة الجنسية أو كشفها، بينما الثقافة العربية، قبل الإسلام، كانت تتحدث كثيرا عن الحياة الجنسية. وأقول هنا إن العالم العربي ليس هو العالم الإسلامي، كما أن كلمة «عربي» تخالف كلمة «مسلم». والعربي ليس هو المسلم تقريبا. العرب مسلمون، طبعا. لكن عندما نقول ثقافة عربية و ثقافة إسلامية، فإننا نتحدث عن ثقافة مقدسة (إسلامية) في مقابل ثقافة (عربية) مدنسة. أي ثقافة إنسانية وثقافة غير إنسانية. وبالتالي، فكلمة «عربي» تبدو لي هي الأنسب في الحديث عن قضية الجنس. ما يعني أن «كاماسوترا العربية» مفهوم مقتسم بين العالم العربي، وأحيانا تعني جميع المسلمين. فالأندونيسيون، مثلا، لن يجدوا في الكتاب ما يعنيهم، لأن هذه الأنطولوجيا التي ألفت اعتمدت فيها على النصوص العربية فقط. - تبدو في جل كتاباتك مصرا على تبليغ رسالة واحدة تتعلق بالعلاقة التي ينبغي أن تسود بين المسلمين والغرب وأن الإسلام ليس مجرد شعائر وأحكام وشريعة، بل هو سلوك حضاري وإنساني قبل كل شيء... < نعم، وأن الإسلام ليس عنفا، والمسلمون أناس لا يعادون الغرب؛ بل هو دين المسلمين الذين يريدون التعامل مع الغرب في إطار الاحترام وتبادل القيم من منطلق التساوي في القيمة الحضارية والإنسانية. لكن لابد هنا من التأكيد على ضرورة احترام الغرب للشرق، ولابد من أن تقوم العلاقة بينهما على هذا التوازن وإلا فسيظل الغرب يحتفظ بتلك الصورة السيئة عن الشرق. - ألا تعتقد أن حصر هذا الكتاب في المجال العربي قد يعني أن الإسلام يتستر على مثل هذه الأمور والحال أن الإسلام خاض فيها وشهد تاريخه وقائع تثبت انفتاحه عليها؟ < لا أعتقد ذلك. فأنا أتحدث في الكتاب عن الرسول والدين الإسلامي بكل حرية. أشير هنا إلى أن الاختلاف أو المشكل الحقيقي لا يوجد داخل الكتاب، بل يوجد خارج الكتاب، أي على مستوى الرسالة التي أريد تبليغها من خلال الغلاف وما تثيره عند المخالفين لما أكتب. أما بين دفتي الكتاب، فأنا أتحدث عن الأحاديث وعن بعض الفقهاء الذين تكلموا عن الحياة الجنسية، كما أنني أستعيد جميع النصوص القرآنية ذات العلاقة بهذا الجانب. - مؤكد أنك بقيت وفيا لتخصصك كباحث في قضايا الإسلام وأنطربولوجيا الأديان... لكن ألا يمكن القول إنك صرت تكتب من منطلق الكتابة الطارئة والكتابة للآخر على ضوء ما يقع من أحداث؟ < هذا غير صحيح، لقد بدأت الكتابة قبل 25 سنة عن الجسد في الإسلام. ولم يسبق أن واجهت أي مشكل لا مع المسلمين، ولا مع العرب، ولا مع الاندماج في أوربا، ولا مع العنف الديني. حينها ألفت كتابا، في إطار أطروحتي الجامعية؛ بعدها اهتممت بمواضيع أخرى من قبيل الاستمالة والرغبة في الإسلام والجنس والحب... وشيئا فشيئا اتسع هامش اهتماماتي الأكاديمية إلى مجالات الرمزية والمخيال والهوية والدين. وفي مسألة الدين، لامست العديد من المجالات، منها القواميس والرعية في الإسلام والعقل والإسلام... المسألة، إذن، مسألة توسع فكري طبيعي طال ميادين فكرية متنوعة. ما يعني أنني لا أكتب تحت إكراه معين، كما لم تمل علي أحداث 11 شتنبر ما كتبت. ويمكنك أن تعود إلى كتاباتي قبل هذا التاريخ. فقد أصدرت كتاب «قاموس الرموز الإسلامية»، مثلا، سنة 1995؛ كما أن تقديمي (120 صفحة) لكتاب «القرآن» لإدوار مونتي صدر ثلاثة أسابيع قبل أحداث 11 شتنبر. وهو ما يعني أنني اشتغلت على قضية الدين منذ فترة بعيدة، وأن لا علاقة لما أكتب بأية مناسبة معينة... لقد بدت كتاباتي كما لو ضربت موعدا مع تلك الأحداث، لتكمل المجهود المبذول في اتجاه توضيح القضايا الإسلامية! وهذا لا يعني أنني غير معني بما يحدث حولي. بل إن ما حدث، مثلا، في السنين الأخيرة بما في ذلك أحداث 11 شتنبر زاد من الطلب على قراءة قضايا الإسلام، فزاد كذلك الإنتاج المعرفي. وستلاحظ أنني حاولت في كتبي الأخيرة أن أنوع كتاباتي، فألفت في حكايات الأطفال والإسلام من داخل الإسلام، وفي تفسير القرآن للأطفال على شكل ألبوم؛ وهي أعمال تدخل في إطار التأليف التربوي، وفي التفسير اللغوي للقرآن. وفي العام المقبل سأصدر كتابا حول حكايات ألف ليلة وليلة؛ وسيكون مختلفا عن كتابي الأول في الموضوع نفسه من حيث إن الكتاب المقبل لن يكون مبالغا في التنظير كما الأول، بل سيكون في متناول الجميع. قد يقول البعض إنني مريض بالكتابة. لكنني أقول إن السر يكمن في تنظيم الوقت وفي حب العمل ليس إلا؛ كما أنني قد أشتغل بدون مقابل لو تطلب الأمر ذلك. المهم هو أن أنظم حياتي. - هل تعتقد أن الغرب يعرف الشرق والإسلام معرفة صحيحة؟ وهل يعرفك أنت، شخصيا، ويعرف كتاباتك بعد كل سنين البحث والتأليف؟ < لا أعتقد. الغرب لا يعرف الشرق معرفة حقيقية؛ وبالتالي لا يعرفني المعرفة الكافية رغم أنني أقيم فيه وأتكلم لغته. لنقل إنه يسمعني ويراقبني. ويحاول أن يرى في أي اتجاه تجري الرياح. في لحظة معينة، شعرت بأنني أتجاوز هذا الغرب وإدراكه لنا كشرق من خلال دفاعي عن إسلام الغد. ولنقل إن مصداقية ما أكتب تبقي نسبية بينهم. إسلام الأنوار الذي أتحدث عنه يستميلهم ويجذبهم لأنه الإسلام الذي يرونه منسجما مع تصورهم؛ لكنهم، في الوقت نفسه، يعتبرون أنه إسلام الأقلية على خلفية ما يجري، مثلا، في أفغانستان وفي مناطق إسلامية أخرى، ويجدون أن الإسلام الذي أتحدث عنه يتجاوز الحقيقة كما هي معاشة في هذه المناطق، خاصة ما تعلق منها بمعاملة المرأة والتطرف الديني... لكنني أصر على أن أكشف ما يوجد خارج التلفزيون الذي يشاهد فيه الغرب مظاهر التطرف الديني الإسلامي في تلك المناطق. لأن حقيقة الإسلام ليست هي ما ينقله التلفزيون من مشاهد عنه. فالإسلام فيه جمال، ومتعة، ورغبة في الحياة... إنني أقول للغربيين من خلال أعمالي: وسعوا زاوية رؤيتكم للإسلام! فالإسلام ليس هو أفغانستان، وليس هو العنف، وليس هو باكستان؛ وأن الأمريكيين ليسوا هم من سيحدد أولوياتنا، فأولوياتنا تختلف عن أولوياتهم. - هل كتابتك عن إسلام الأنوار عن قناعة، أم أنها وليدة حساب أو إملاء معينين؟ < إنها قناعة؛ بل قناعة عميقة. لأنني أؤمن بأن الإسلام يتوافق والتقدم الإنساني، وأن علينا، كمسلمين، أن نجتهد لكي نجد طريق الخلاص بأنفسنا. ولو عدنا إلى عصر النهضة واستحضرنا العمل التحليلي السوسيولوجي الذي يُنجز حاليا، ولو استغلينا كما يجب الطاقات والإمكانات الهائلة التي يتوفر عليها العالم العربي الإسلامي، وآمنا بالتطلعات والآمال التي تسكن الشباب العربي المسلم الذي يطمح لعالم أفضل، ويرفض العنف والانغلاق الفكري والأوليغارشيات والفكر الرجعي... لأدركنا أنه بإمكاننا إحداث التغيير وإيجاد طريق الخلاص بأنفسنا. - أين تموضع كتاباتك مقارنة مع كتابات مفكرين آخرين من قبيل محمد أركون وهشام جعيط وغيرهما؟ ألا ترى أن الإغراق في المجرد والنظري يمنع من تبليغ الرسالة التي نحتاج إليها في الوقت الحالي اعتبارا لأهمية بعض الأولويات دون أخرى؟ < لا أعتقد ذلك. كل واحد له مكان في مجال الاجتهاد الفكري. يجب أن نخلق بناء فكريا متعدد التخصصات أو الطوابق، بحيث يمكن أن نجد فيه مختلف أصناف التفكير: المجرد، النظري، المادي... بالنسبة لي، يمكنني أن أكتب مثل ما يكتبه أركون وجعيط. فكتبي الأولى تنتمي إلى مجال الكتابة الذي يكتب فيه هذان المفكران. عد مثلا إلى كتاب « Le Sujet en Islam »، فستجد أنه مشابه في مضمونه لما يكتب أركون وجعيط، مثلا؛ إلا أنني أختلف عنهما اليوم من حيث إنني أضع أهدافا لكتاباتي. أنا أريد أن أصل إلى خلاصات، أريد أن يصل خطابي إلى جميع الناس من أجل تغيير العقليات. أعتقد أن هذا هو ما يجعل كتبي تلقى إقبالا كبيرا وأعداد سحبها ترتفع. وعلى هذا المستوى أجدني أبذل جهدا كبيرا في الكتابة كي أبسط المفاهيم أمام الجميع وأبلغ رسالتي بسهولة. - ألم تعرضك كتاباتك للتهديد من قبل الإسلاميين المتطرفين الرافضين مشاريعك الفكرية؟ < هذا موضوع لا أتكلم فيه، لأنك بمجرد خوضك في الموضوع تعطي لخصومك فرصة التأكد من صواب أو خطإ رؤيتهم. يطرح علي هذا السؤال دائما، إلا أنني لا أجيب عنه. هي مسألة تكتيك مني... ترجمة القرآن يصدر مالك شبل، مع متم شهر ماي المقبل، ترجمة جديدة للقرآن الكريم. ومما لا شك فيه أن الإصدار الجديد سيشكل إضافة أخرى إلى إضافات الباحث الكثيرة في مجال اشتغاله. يقول الناشر، فايار، في تقديمه للعمل الجديد: «القرآن، هذا النص المقدس لأزيد من مليار مسلم، يبقى صعب القراءة عند الكثيرين بيننا. تتميز هذه الترجمة الجديدة عن الأخريات بوضوحها وصرامتها ووفائها للنص الأصلي». حرص مالك شبل على تبليغ المضمون العربي للقارئ الناطق بالفرنسية دون أن يسيء، أبدا إلى المعنى. فالمقاربة التي تحترم النص أساسية، بل هي الضامنة لمصداقية هذا العمل.» مدافع الإسلام الليبرالي يعد مالك شبل من أبرز أنطربولوجيي الديانات في أوربا. كتاباته، الغزيرة، تجمع بين العديد من مجالات المعرفة، التي شكلت إضافة جديدة لعالم الفكر، خاصة ما تعلق منها بقضايا العالم العربي و الإسلام. وُلد مالك شبل سنة 1953 بسكيكدة في الجزائر، وتابع دراسته الأولى في الجزائر قبل أن يلتحق بباريس حيث درس التحليل النفسي ومارسه لمدة قصيرة. عُرف شبل، على نحو خاص، بعبارة «إسلام الأنوار»، ودافع عن المفهوم الذي تحمله هذه العبارة في كتاباته العديدة وفي محاضراته الفكرية عبر العالم. إذ يعتبر الباحث من أكثر المحللين العرب حضورا في الجامعات الأجنبية. اجتهد في البحث في الجوانب غير المكشوفة من الإسلام، وفي تاريخه وإضافاته الفكرية المتميزة. إلا أنه ركز في أعماله الأخيرة على مقاربة قضايا أخرى في الإسلام تلامس الخطاب الإيروتيقي، مثلا، والثقافة الجنسية العربية وقاموس الحب في الإسلام... وموازاة مع هذا الاجتهاد المعرفي النوعي، يعمل شبل على الدفاع عن فكرته الأصلية، فكرة الإسلام الليبرالي، أو الإسلام المتنور الذي لا يعرف عنه بعض المسلمين الشيء الكثير، ويجهله الجزء الأكبر من الغرب. حصل شبل، سنة 1980، على دكتوراه أولى في علم النفس من جامعة باريس7، قبل أن يحصل على الثانية في الأنطربولوجيا والإثنولوجيا وعلم الأديان سنة 1982، ثم الثالثة، سنة 1984، في العلوم السياسية من معهد الدراسات السياسية بباريس. مكنته كفاءته العلمية من تبوؤ مكانة متميزة على الساحة العلمية والفكرية الأوربية؛ وسرعان ما أصبح أحد الأساتذة المشرفين على البحث العلمي في جامعة السوربون وأحد أبرز المحاضرين عبر العالم. كما أنه صار أحد المستشارين الكبار في ما يتعلق بقضايا الإصلاح الديني والإسلام عند عدد من الجامعات الأجنبية. ولا غرابة في أن يُمنح، في وقت سابق، مقعدا ضمن مجموعة الحكماء لدى رئيس اللجنة الأوربية رومانو برودي.