حوار مرايا بريس مع الصحفي مصطفى حيران-الجزء الثاني -صرحت الباحثة هند عروب في أحد حواراتها بأن المغاربة رعايا وليسوا مواطنين، وأنه لا يوجد مواطنون في ظل الحكم المطلق... نريد أن نعرف وجهة نظر مصطفى حيران في هذه الفكرة؟ الصديقة الدكتورة هند عروب، تُعتبر برأيي واحدة من أهم الباحثين الجامعيين بالمغرب، في الوقت الراهن، فهي تتحلى بالجدية والكفاءة، والنزاهة الفكرية والأخلاقية، وهذه مُميزات تعز إلى حد الانعدام تقريبا، في الوسط الجامعي المغربي، لذا فإن لكتابات د هند عروب أهمية بالغة لإضفائها نقطة ضوء على الإنتاج الفكري الجامعي ببلادنا. أتفق مع د هند في وصفها للمغاربة أنهم رعايا وليسوا مُواطنين، فهي لم تبرح في ذلك واقع حال المغاربة من المنظورين السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. فنص الدستور الذي وضعه الحسن الثاني منذ سنة 1962، مرورا بكل التعديلات التي طرأت عليه شكلا، حتى سنة 1996، يُركز كامل السلطات في يد الملكية، بما يُلغي صلاحيات "السلط" الأخرى البرلمانية والحكومية، فالملك مُخول له دستوريا تعيين الوزير الأول، وباقي الوزراء، وكل الموظفين السامين في الدولة، وحل البرلمان.. والحال أن المُواطنة الحقة تمر عبر مُمارسة الحقوق المدنية من خلال الاقتراع الحر والديموقراطي، لاختيار مسؤولي الدولة من الأعلى إلى الأسفل، فكيف يستقيم الحديث عن مُواطنة في ظل هذا "التسوير" (من السور) الدستوري، الذي يتجاوز في كثير من الأحيان حتى منطوق الدستور نفسه، فمثلا ينص الدستور على مجموعة من الصلاحيات للوزير الأول، منها الإشراف على عمل الولاة والعمال، غير أن هؤلاء يقعون تحت إشراف وزير الداخلية، وهذا الأخير وزير سيادة، مرورا بباقي القطاعات الأخرى الحيوية، مثل الخارجية والدفاع، إلخ. الحكم في المغرب مشروط بالبيعة وبما يُسميه بعض الباحثين المُختصين ب "العرف الدستوري" وحيث يحضر هذا النمط من الحكم تطير المُواطنة. فهذه الأخيرة تستقيم بممارسة الحقوق والواجبات وليس بالتخلي عنها. - هل ترى أن نظام الملكية المخزنية في المغرب لا يزال قادرا على حكم مغرب القرن الواحد والعشرين وما بعده؟ هذا سؤال يجدر توجيهه للباحثين في العلوم السياسية، لذا فجوابي سيكون عَرضيا نوعا ما، أعتقد أن الملكية المخزنية ما زالت أمامها أيام جميلة في المغرب، ما دامت شروطها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية قائمة، فشكل ومضمون الحُكم في المُحصلة، ليس سوى انعكاس للأرضية التي يوجد فيها، ويقوم عليها. فبالرغم من كل التحفظات التي يُمكن أن تُوجه للنظام الملكي في المغرب، في قرننا هذا الذي طوى عبر أغلب أنحاء المعمور صفحات أنظمة مُماثلة، إلا أن وجود واستمرار هذا النظام ببلادنا له مسوغاته الواقعية، وبهذا الصدد أعتقد أنه علينا أن نستحضر عنصر "التحديث" الذي يُواكب النظام المخزني بما يجعله سابقا، في كثير من الأحيان، على المُجتمع بمكوناته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية.. وفي نفس الوقت يحتفظ بذات الجوهر التقليدي للحكم المخزني، أي الملكية الشمولية، التي يحتفظ فيها الملك، بكامل السلطات التنفيذية والتشريعية والدينية والقضائية والأمنية.. مما يُلغي كل المُكونات الأخرى، ويجعلها مُنفذة للقرارات والاختيارات الملكية، فمثلا منذ القرن التاسع عشر ارتفعت دعوات نخبوية مُطالبة بالتحديث السياسي (جماعة لسان المغرب سنة 1908 مثلا) مرورا بالنقاش الذي كان دائرا في الكواليس بين زعماء ما يُسمى بالحركة الوطنية، قبل وبعد الاستقلال، والملك محمد الخامس، وصولا إلى الصراع الذي نشب بين الحسن الثاني وبعض قادة نفس الحركة، على مدى عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لنفس السبب، فإلى ماذا أفضى كل ذلك؟ إلى مزيد من مَرْكَزَةِ السلطة، في يد الملكية، منذ دستور سنة 1962 إلى اليوم. وبما أن الملكية تستحوذ على مركز القرار، فقد عرفت كيف "تمتص" مطالب التغيير، وتقلبها ظهرا لبطن، لتخدم نوع "التحديث" الذي يُناسبها. واليوم ما زال الأمر على ما كان عليه، بل إن الملكية أقوى مما كانت عليه من قبل، من خلال "مشروعية" الأمر الواقع، وتواري مطالب التحديث بشكل تام، والفراغ المُجتمعي المُهول، العاجز عن بلورة قِوى سياسية واقتصادية واجتماعية حديثة، قادرة على إنتاج البديل وفرضه على النظام الملكي. -كيف ترى شخصية محمد السادس مقارنة بوالده؟ وكذا الفرق بين حكميهما؟ لم يبرح الحقيقة الحسن الثاني، يوما، حينما قال في حوار مع صحافي فرنسي، جوابا على نفس السؤال تقريبا: "هو هو وأنا أنا".. هناك اختلاف كبير بين الرجلين، وهذا يُمكن أن يؤكد عليه الناس البُسطاء في المغرب، فالحسن الثاني كان حريصا على "طبع" حُكمه في المغرب والمغاربة، وهذا برأيي عائد في جزء كبير منه إلى طبيعة المرحلة التي وجد نفسه مُطالبا بتدبيرها، ناهيك عن نوع شخصيته المُحبة للسلطة، حيث لم يكن يقبل أن يُنازَع في التفكير والتنفيذ بمملكته، وقد أبان عن ذكاء فطري في "فن" انتزاع وتدبير الزعامة، بالطريقة الفردية المُطلقة، ولم يسمح لغيره "بالحضور" لمُنازعته في ذلك، كما أنه كان شديد الاعتداد بالنفس، إلى حد اعتبار الآخرين غير جديرين بالرِّفعة المعنوية والدنوية التي كانت لديه، وهو ما يفسر القسوة الرهيبة التي واجه بها مُعارضيه، والمُنقلبين عليه، وهنا تحضرني واقعة طريفة، نقلها إلي مصدر كان مُقربا من الحسن الثاني، فقد حدث مرة أن جاء الجنرال عروب إلى الحسن الثاني، في بداية سنوات الثمانينيات، مُقترحا تدعيم خط للدفاع بأحد المواقع بالصحراء، فما كان من الحسن الثاني إلا أن أجابه بغلظة: "أنت في مكانك لتُنفذ ما يُطلب منك، وليس لتقترح" ولم يكتف بصرفه بجفاء، بل ألحقه ب"ثلاجة" إدارة القيادة العامة للجيش لعدة سنوات. الاختلاف بين شخصيتي الحسن الثاني ومحمد السادس، بيِّن، فالأخير ليس حريصا على الحضور الطاغي الذي كان لوالده، فهو مثلا لم يمنح حوارات صحافية كافية لتفسير أفكاره، كما كان يفعل الحسن الثاني، كما أن كثيرا من الأحداث المهمة خلال فترة حُكمه "مرَّت" دون تفسير تاركة أسئلة كبيرة وكثيرة مُعلقة، مُعتقدا أن جولاته عبر أنحاء المغرب، أي الحضور الجسدي كاف، قد يكون هذا صحيحا في مُجتمع لا يُقيم أغلب سكانه قيمة للأفكار، بل للسلوكات، لكن مع ذلك، فإنه على المستوى السياسي، والإعلامي، ثمة دور مهم للطروحات والشروحات، حيث توضع الأمور في سياقاتها بلا التباسات، وفي هذا الإطار يُمكن وضع أزمة العلاقة بين جزء من الصحافة والقصر حاليا، حيث "اجتهد" بعض الصحافيين في ملء الفراغ الحاصل في التواصل بين القصر والمجتمع، وهو ما لم يُعجب الملك، ومُقربيه، كما أسلفتُ جوابا على سؤال سابق. ثمة مسألة أخرى بهذا الصدد أعتقد أنها مُهمة، وهي أنه في إطار الاختلاف البيِّن بين شخصيتي الحسن الثاني ومحمد السادس، وجد هذا الأخير إرثا ثقيلا، لصورة الملكية "المطبوعة" في المغرب والمغاربة، وقد عمد في البداية إلى التخفيف من تلك الصورة، مثلا، من خلال إلغاء ما كان يُسمى بالأغنية الوطنية التي كانت تتغنى بشخص الحسن الثاني و "إنجازاته".. وسمح بالظهور العلني لزوجته.. هل كان ذلك كافيا؟ هذا أمر قابل للنقاش، لكن ثمة مُفارقة جديرة بالذكر، فالحسن الثاني كان يُحيط حياته الخاصة بأسوار فولاذية من الكتمان، في حين عمد بإسهاب إلى طرح أفكاره وشرحها، للخاصة والعامة، وبذلك كان واضحا وصريحا إلى حد ما، في حين أن محمد السادس منح صورة "عصرية" لحياته الخاصة، مُقابل تكتم على شكل ومضمون تدبيره لشؤون الدولة، فباستثناء مشروعي مخطط الحكم الذاتي للصحراء، و الجهوية المُوسعة اللذين وُضعا أمام أنظار الأحزاب السياسية، لم يتم طرح أي من المشاريع الأخرى للمناقشة على أنظار الأحزاب والبرلمان والمجتمع المدني، وهذا لغز كبير، لم يشرحه محمد السادس، لأنه لا يحب التواصل. هناك أيضا ملاحظة شكلية، الحسن الثاني كان يُدخن سيجارته علنا، وريثه محمد السادس لا يفعل! -هل مصطفى حيران يناضل من أجل مغرب علماني دون إمارة مؤمنين ودون دسترة الدين؟ لا أعتبر نفسي مُناضلا، فلستُ منخرطا في أي حزب أو تنظيم سياسي، لأنني كما أسلفتُ صحافي مغربي، وهَمِّي الأساسي مِهني، أي الحصول على أخبار مُفيدة للقراء، وإذا ساهمتُ في منحهم أخبارا وتحليلات جيدة، تُمكنهم من فهم تعقيدات الواقع، وبالتالي تكوين وجهات نظرهم حوله، فذلك غاية المُنى، أما إن فشلتُ فأطمع على الأقل في أجر الاجتهاد. إن النضال من أجل مغرب عَلماني من دون إمارة المؤمنين ليست من مهامي، فذلك مطلب كبير تُحشد له الإمكانيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. ويتطلب أجيالا لتحقيقه، وإن كُنتُ آمل أن يتحقق مغرب عَلماني لا يحتكر فيه أي طرف، سواء الدولة أو حزب أو أي فرد الشأن الديني، فإن هذا الأمل لن يحجب عني مُعوقات الواقع التي يقف دونها شق القتاد، بما يتجاوز قُدرات الأفراد مهما أوتوا من قوة.. التغيير مسألة تراكم تصنعه أجيال تصب في الاتجاه الإيجابي، والأفراد ليسوا سوى ذرات، منها الإيجابي والسلبي، تعمل على تغذية أو قتل مطامح التغيير. -ماذا عن مصطفى حيران الأديب؟ أوه إنك تذكرينني بأجمل أيام الحُلم بعينين يقظتين، بدأت علاقتي بالكتابة من خلال كتابة القصة والمقالة النقدية الأدبية، والترجمة، وهي مُبعثرة بين الجرائد والمجلات على مدى عشرين عاما، أحتفظ من الذائقة الأدبية بحس أسلوبي وجمالي، هو نتاج قراءاتي للشعر والقصة والرواية والمقالات الراقية، لجيلين من أفضل الكتاب والأدباء المغاربة والعرب والأجانب. ما زالت علاقتي بالأدب مُستمرة من خلال قراءة أعمال أدبية مُتميزة، إنني أقرأ حاليا، الأعمال القصصية الكاملة للروائي والصحافي الأمريكي المتميز "إرنِست همنغواي" وكذلك من خلال نصوص قصصية أكتبها بين الحين والآخر، وأنشرها في مجلات أو مواقع إلكترونية مُتخصصة. - ماهي مشاريعك المستقبلية؟ حاليا أوجد في وضع توقف اختياري عن الكتابة للاعتبارات التي ذكرتها لك من قبل، ويُمكن أن أضيف إليها أن وضع المهنة أسُن بشكل كبير، أرى شخصيا ضرورة اتخاذ مسافة معه، للتفكير في مدى القدرة على توفير شروط للاستمرار في مُزاولة مهنة الصحافة، هنا والآن، هناك بعض الزملاء يعيشون نفس الوضع، ولستُ أدري ما إذا كانت قد نضجت لدينا جميعا، فكرة خلق شروط نظيفة إلى حد مقبول، لمُمارسة مهنتنا. =========================