على شاهدة أحد القبور في مقبرة سان جينيفييف دي بوا في ضواحي باريس مكتوب بطاقة إهداء : إلى الإنسان الدي شاهد الملاك .تحت الشاهدة ينام روسي وضع بموهبته وأحاسيسه الفنية المتوهجة ورؤيته العميقة للفن أروع الأفلام الخالدة في تاريخ السينما. جيرانه الموتى ربما لا يعرفون أن المستلقي الذي ينام بمحاذاتهم هو نفسه المخرج أندريه تاركوفسكي , ذلك الإنسان الذي كتب أجمل القصائد الشعرية العالمية بالسينما واستطاع أن يفرض أسلوبه وفلسفته الخاصة في المجال . وربما أيضا جيرانه الموتى يكترثون له الآن كما لم تنتبه إليه الأوساط الإعلامية والمؤسسات الثقافية عندما كان يتجول بينهم . تلك اللامبالاة التي تفسر يومياته التي جاءت طافحة بالمعاناة وأفلامه القليلة ,وهو الذي حلقت في رأسه بجنون أحلام مشاريع أخرى كإنجاز فيلم حول دوستويفيسكي , بل تلك اللامبالاة تمتد لتتجاوز الجمهور السطحي ورقابة الجهاز القمعي الروسي المعادي للحرية الذي ألصق كل شيء بالإيديولوجيا من جهة والصدمة التي لازالت تنتاب المتلقي من حين لآخر وهو بصدد الرؤى الحداثية للفن من جهة ثانية لتصل إلى حد التشكيك في قدراته ومهاراته وفي الجوائز التي كان يحصدها في المهرجانات العالمية .لقد كان يتحدث بمرارة عن ذلك وبكثير من الألم في يومياته التي دونها في الفترة الممتدة من 1970إلى 1986سنة وفاته . وإن كانت أفلامه الروائية السبعة منسوخة في قرص رديء لا تساوي أكثر من 100روبليه في روسيا اليوم أي ما يقارب 3أورو وفي أقراص بجودة عالية 600روبليه فهذا لا أظنه يثير في حفيظته شيئا من الأسف لما يحدث بخصوص القيمة الفنية الحقيقية لأعماله خاصة وأنه يعرف جيدا أنني اشتريت كتبا قيمة لكتاب ومتقفين من العيار الثقيل من الخردة بأقل من ربع أورو . هو من كتب في كتابه النحت في الزمن يشرح رؤيته للفن بشكل عام وللسينما بشكل خاص وكذا علاقته بالجمهور بالتفصيل يعرف أشد المعرفة - أكثر مني - العلاقة المتوترة التي تحدتها مثل هذه الإنفجارات الإبداعية .كان ذاهبا في اللامهادنة إلى أقصاها مشييدا مساحات جديدة من الجمال والجنون . كان يقول :ليس كافيا الرغبة في التقاء الجمهور في منتصف المسافة. كان مؤمنا بالفن اكثر من أي شيء آخر. لقد أكمل فيلمه الأخير القربان وهو يعرف أنه مصاب بالسرطان. قالت زوجته لاريسا أنه عمل حتى اليوم الأخير,وأكمل كتابه النحت في الزمن 9أيام فقط قبل وفاته. في اليوم الأخير كي لا يتألم أخذ المورفين وقال:أنا أسبح .. لكن كان دماغه واضحا. في الساعة الأخيرة قبل وفاته كان واعيا في انتظار القادم الذي لم يكن ليخيفه. ولد في 4أبريل 1932. ابن آرسيني تاركوفسكي أحد شعراء روسيا المعروفين ,لم يكن نجيبا في المدرسة لكنه كان مبدعا . درس مند سن السابعة البيانو , وبعد سبع سنوات من ولوجه المدرسة ذهب إلى معهد للتشكيل . لم يتمكن من إكمال دراسته الجامعية . اشتغل في العمل الجيولوجي واختار بعدها الانتقال لدراسة السينما .كان تلميذ ميخائيل روم المعروف بتشجيعه للإبداع الفرداني وذاتية الحقيقة . كتبت عنه العديد من المقالات والكتب ككتاب : العالم واندريه تاركوفسكي , وكتاب صديقه كانتشلوفسكي الحقائق الوضيعة. كما صورت دانتيلا باليفو فيلما وثائيقيا حوله.. أفلامه غير منطقية , متداعية , مكثفة , تنتظر المستحيل , مؤلمة , مغتربة , قاسية بشكل فادح .. مواضيعها مختارة بعناية فائقة محورها الوجود الإنساني منذ فيلمه القصير الأول القتلة المأخود عن قصة لأرنيست همنغواي وفيلمه الروائي الأول طفولة ايفان الحائز على جائزة الأسد الذهبي في فينسيا للكاتب باجامولوف مرورا بأندريه روبلوف الفيلم الدي يدور حول رسام روسيا الشهير مبدع لوحة الأيقونات التلاث,وسولاريس المأخود عن ستانسلاف ليما وسيرته الذاتية فيلم المرآة والمقتفي للأخوين أركادي وبوريس ستروكاتسكي , ونوستالجيا الذي يدور حول الشاعر إليك يانكوفسكي الذي هاجر إلى ايطاليا ومات هنالك و أخيرا فيلمه القربان . أخرج مسرحيتين طيلة حياته هاملت لشكسبير وبوريس كادونوف لبوشكين. كان مولوعا بمشاهدة أفلام كوروسافا , ميزوكوتشي , بونيويل , بريسون , بنغمار...كان كما يقول بحد تعبيره أنه يرى نفسه شاعرا أكثر منه سينمائيا وقد جاء كتابه النحت في الزمن مليئا بمقابلات بين قصائد الهايكو والسينما وعن الحدود التي تربط وتفصل بين الفنون . جاء كتابه مليئا بالشعراء والروائيين والفنانين ليعكس رؤيته للإبداع والحياة.كان مهووسا حتى العظم بدوستوفسكي , وتوماس مان وبونيويل , وباسترناك ... , كان قارئا مثقفا ومطلعا بشكل جيد على كل الإبداع العميق . وكان يؤمن أن الشعراء الحقيقيين لم يقرأهم أحد بعد ,لأنهم هم فقط القادرون على قراءتها أما الآخرون فيطلعون عليها كما ينظرون إلى النجوم البعيدة ولا يستطيعون فهمها.. كانت له طريقته الخاصة في التعامل مع الممثلين حيث لم يسمح لهم بالإطلاع على أحداث السيناريو ,فمثلا عندما كانت تنتظر مرجريتا زوجها في فيلم المرآة لم تكن تعرف ما سيحدث حقيقة فيما بعد ,وهذا في نظره ما سوف يظهر توترها بشكل حقيقي ويجعل انتظارها يبدو انتظارا حقيقيا ,وهي عكس طريقة تعامل ستنسلافسكي الذي يراه اندريه لا يشتغل بالشكل اللائق . وكذلك الممثل الشاب الذي أوكلت له عملية تشييد الجرس في فيلم اندريه روبلوف في مقطع الجرس حينما كان تحت الضغط هل سوف ينجح أم سيفشل في إنجاز المطلوب منه , عمد تاركوفسكي إلى وضع الممثل تحت ضغط حقيقي وهو أنه أخبر جميع المساعدين والآخرين بأن هذا الممثل فاشل وفي الغالب سوف يعيد تصوير هذه المشاهد مع ممثل آخر وبذلك جعله يعيش الضغط الحقيقي حتى تبدو الحالة التمثيلية قريبة جدا من الحالة النفسية الحقيقية ومتطابقة. عانى مضايقات الرقابة بشكل قوي ومن تسلط المسؤولين عن الإنتاج وهو ما يفسر أيضا أفلامه القليلة وكذا قراره بعدم العودة إلى روسيا لاحقا ونسوق هنا مثالا عن صرامة الرقابة وتدخلها الفج والعنيف ضد الفن , يقول في مذكراته أن موس فيلم اقترحت كضرورات في فيلم سولاريس مجموعة من النقط ينبغي مراعاتها لقبول الفيلم: كأن يوضح في الفيلم كيف سيكون العالم في المستقبل وأن يبين الشخصية كالفن من أي نظام اجتماعي اشتراكي أم رأسمالي ,وأن يحذف كل ما يشير إلى الدين وكل من هم غير روس ,وأن يجعل اللقطات الحميمية في السرير أقل ,ويحذف لقطة كرايس وهو بلا سروال , وأضافوا أيضا أن المشاهد سوف لن يفهم شيئا من فيلمه...ويكتب معلقا: لا أفهم ماذا يريدون مني عندما يطلبون مني تصحيح كل هذه الأشياء . إنها استفزازات . أي غبي يمكن أن تكون كي تعمل مثل ذلك ؟ ويكتب في مذكراته أيضا: الفن الحقيقي يرعبهم . يدوسون على البراعم الإنسانية , ولن يهدؤوا حتى يجعلوا من المبدع بهيمة فقط... لقد كان يتفاخر دائما بأن برغمان قال عنه أنه أعظم من فلليني ويرددها في مذكراته كعزاء شخصي ربما , وذلك لقساوة التهميش التي كابدها في حياته .كان يرى العالم بأسلوب مختلف تماما عن الآخرين وعكسها في أفلامه التي كان يحرص على سيناريوهاتها بنفسه. بعد خروجه من المستشفى أخذته هو وعائلته مارينا فلادي إلى منزلها لأنه كان يعاني من أزمة مالية خانقة . ترك العالم 29ديسمبر1986ليدفن في باريس مودعا إياه على موسيقى باخ بحضور 100شخص في الكنيسة , كان يعزفها راسترابوفيتش... امرأة تنام فوق سرير من هواء . قبلة يضعها رجل على شفتي امرأة تتدلى رجليها فوق هاوية . طفل يحاول الإمساك بنجمة في الماء . مشاهد القتل الفجائي المروع . الأحصنة . السواد الممتد . الأمطار الغزيرة التي لا تعني إلا الأمطار الغزيرة . الطبيعة الممتدة . الدمار المطلق . الثلج . الموسيقى. الرياح القوية . الأشعار . الإنتقال من مشهد إلى آخر بلا خيط واضح . الصمت .. ملامح سوف تستمر كإشراقات في تاريخ السينما إلى الأبد. يقول صديقه فرانكو تريلي أنه أرسل له قبل 10أيام من وفاته ورقة رسم عليها كأسا ووردة إذ لم يتمكن من الكتابة . وبعد ذلك بأيام قليلة قبل وفاته طلبوا منه أن يهاتفه لأنه كان راغبا في ذلك وعندما فعل أخد أندريه الهاتف ولم يجب . يقول فرانكو :كنت متأكدا أنه يريد أن يقول لي وداعا بالصمت. الصمت , وسبعة أفلام روائية , وكتاب وحيد النحت في الزمن , ويوميات هي التركة التي خلفها وراءه أندريه لكل شعراء ومبدعي العالم ولكل المفتونين بالجمال شكرا تاركوفسكي.