بأحداق ينبلج ضوؤها هادئا ومطمئنا، وبنبرات منهكة هدها فيض المرارات والأزمات، تنشد أفقا سياسيا بديلا، يتحدث المواطن المغربي البسيط عن الحكومة الجديدة وهو يطأ أعتاب مرحلة جديدة من تاريخ المغرب السياسي، لكن في حديثه اليومي وبتلقائية ولاوعي مسبق ينطق عبارة دارجة دالة، من قبيل «الحكومة ديالنا»، التي تعني «حكومة ملكنا»، عبارة مستحدثة في القاموس السياسي للمغاربة اليوم، تبرز قوة الالتحام باللحظة السياسية الراهنة، وقوة الانتساب والتملك لحكومة انبجست من عمق الشعب ومن صناديق الاقتراع، لتنسج حبلا سُريا جديدا يجدد نسج علاقة لطالما شابتها الهشاشة والترهل والتوتر مع حكومات مغربية سابقة، و«نا» الخصوصية والانتماء والتلاحم تبرز بشكل جلي في شعارات تتسرب من بين شقوق ذاكرتي الآن، كان يرددها المواطن المغربي مباشرة بعد تولي ملك المغرب محمد السادس لكرسي العرش، وهي: «ملكنا واحد، محمد السادس»، التحام بتراب الوطن وبالمؤسسة الملكية سيظل راسخا ومتينا، وأي تغيير أو احتجاج أو إصلاح لا يمكن أن يتم في حضن ومباركة هاته المؤسسة الملكية العتيدة. فاللحظة السياسية التي يعيشها المغرب الآن، والتي تأبى بعض الكتابات نعتها بحكومة «تناوب ثان»، في إشارة إلى أن المغرب السياسي عرف تناوبا أول بين 1998 – 2002، هي لحظة سياسية ليست لقيطة، ولا وليدة الآن فقط، بل لها آباء رمزيون وروحيون، وإن كانوا من سلالات وآيديولوجيات مختلفة، فهي لحظة عانقت السجون والمعتقلات في سجون «تازمامارت»، وصودرت منها الحريات، ولطالما ارتوت بدماء شهداء مناضلين، كالمهدي بن بركة، وعمر بن جلون.. اختفوا حاملين لمشعل النضال وإن لم يمسوا كرسي الحكم، لحظة لا يمكن أن ننتزعها من صيرورة التطور الطبيعي لتاريخ ونضالات الأحزاب المغربية العتيقة، وبتياراتها الليبرالية والإسلامية، ولنضالات الحركات النسائية ومكونات المجتمع المدني، مخاض سياسي متوهج وحافل عاشه المغرب منذ أواسط الستينات إلى اليوم، وكان أهم مراحله، وكما سبق، الإشارة غير مرة، وفي مقالات سابقة لي، مرحلة التناوب أو الانتقال الديمقراطي بقيادة المناضل السياسي عبد الرحمن اليوسفي، الكاتب الأول آنذاك لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، حيث التصالح مع المعارضة ومع الماضي السياسي المؤلم، وحيث تحقق الكثير من المكتسبات التي لا يمكن تجاهلها أو تناسيها أو التغاضي عنها. ومنذ فوز حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي المعتدل في انتخابات 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، وبعد 35 يوما من المشاورات والتوجس والترقب لتشكيل الحكومة الجديدة، واستنادا للدستور الجديد ولبرامج الأحزاب وللالتزامات والاتفاقيات الدولية، وبكثير من الحكمة والمهادنة والمرونة وضبط النفس والتوافق بين الحزب الفائز بأغلبية المقاعد بشكل لم يؤهله لتشكيل الحكومة لوحده، والأحزاب السياسية كحزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية المتشبعة نسبيا بتاريخ نضالي، في حين خرج حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي كان من المتوقع مشاركته في الحكومة إلى المعارضة لإعادة ترتيب أوراقه من جديد، وبإطلالة دائمة وبشوشة لرئيس الحكومة على المواطن المغربي لرفع نسبي لستار السرية الذي يلف مفاوضات واجتماعات الأحزاب المشكلة للحكومة الجديدة، وبتكهنات وتداول لأسماء وزارية معينة في الصحافة المغربية، تنبجس الحكومة المغربية بإحدى وثلاثين حقيبة وزارية، بنخب سياسية متجددة، نحو 22 وجها جديدا. هي الحكومة الثلاثون منذ الحكومة المغربية الأولى 1955، برئاسة الراحل مبارك البكاي، مرورا بحكومة 1958 لعبد الله إبراهيم، التي أولت المسألة الاجتماعية أهمية قصوى، وعملت على تحقيق العدالة الاجتماعية وضمان كرامة الإنسان المغربي، مؤمنة بمبدأ اجتثاث الضرر والخطأ من جذوره، والنزول إلى الشارع للبحث عن مكامن العطب، ومنتهجة الواقعية السياسية، وسبب وقوفي عند هاته المرحلة بالضبط، يرجع لكون هاته المرحلة عرفت استقرارا اجتماعيا قل نظيره، نأمل أن يتحقق في مغربنا اليوم، ولكون بعض ملامح هاته المرحلة تبدو واضحة على سحنة الحكومة المغربية الجديدة، التي عملت منذ البداية على تجسير الهوة بين الخطاب والممارسة، بالنزول إلى الشارع والالتحام بالمواطن المغربي للتواصل معه بلغته والتوغل في عمق مشكلاته وأزماته، لذلك فقد نسجت الحكومة الجديدة ظلالا وارفة من الاطمئنان والرضا في سماء المغاربة، وإن ظلت تلف سماءه أحيانا سحابات من القلق والتوجس، بالنظر للملفات الثقيلة التي تنتظر الحكومة الجديدة من قبيل إدارة ملف التشغيل والعجز المالي الكبير في صندوق المقاصة، ومواجهة انعكاسات الأزمة المالية العالمية على الاقتصاد الوطني، وجلب الاستثمارات في مناخ دولي وعربي متأزم، وتنزيل مقتضيات الدستور الجديد على أرض الواقع، ومحاربة الفساد وإصلاح القضاء. لكن ملف البطالة ينتصب واقفا، وبحدة، في شكل احتجاجات للمعطلين، وفي كل وقت وحين، ليجده رئيس الحكومة أمامه أينما حل وارتحل، وإن كان رئيس الحكومة في أول خطوة له على أعتاب الحكومة قد نزع ربطة عنقه التي يضيق بها إلا في اللقاءات الرسمية، ووضعها في عنق وزاراته، ليس تجميلا، وإنما نهج لسياسة التقشف ونكران الذات بخصوص استفادة الوزراء من امتيازات الدولة، ونفس سياسة التقشف نهجها رئيس الحكومة نفسه، وإن كان بلا ربطة عنق، وهناك من اعتبر هاته السياسة تسويقا إعلاميا لصورة الحكومة الجديدة أمام المغاربة، لكنها تظل على العموم خطوة مهمة في مشوار الألف ميل. لكن الحكومة المغربية الجديدة، وإن تشكلت تحت سماء الدستور الجديد الذي صوت عليه المغاربة في فاتح يوليو (تموز) الماضي، الداعي إلى تحقيق المناصفة بين المرأة والرجل في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لكنها تشكلت بصيغة المذكر، حيث التمثيلية النسائية ضعيفة بالمقارنة مع الحكومات السابقة، وبحقيبة وزارية يتيمة، وهي حقيبة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية، بشكل صعد من حدة احتجاجات الحركة النسائية معتبرة هاته التشكيلة ضربا لتاريخ نسائي نضالي مغربي ولمكتسباته الثرية، بحيث يبدو من الصعب لململة هذا التاريخ النضالي بكل زخمه وبكل آلامه ومراراته وتحدياته في حقيبة نسائية واحدة. أمر طبيعي أن تتصاعد الانتقادات للحكومة المغربية الجديدة منذ فوزها في الانتخابات، وحتى قبل أن تطأ أقدامها أرض الحكومة، فلقد انتزعت حب المغاربة بجدارة وبأغلبية ساحقة، فوضع الانتقاد يعكس وضعا سياسيا صحيا ويكشف عن الاختلالات والعثرات التي من الممكن تجاوزها في المستقبل، وإن كان من الصعب تجاوز ضعف التمثيلية النسائية في الحكومة المغربية الحالية مستقبلا. لكن ما لا يعد صحيا أن توجه الانتقادات لعرقلة مسار عمل الحكومة من طرف خفافيش الظلام، مع العلم أن المغرب في حاجة اليوم لتكاثف كل الجهود أحزابا سياسية ومعارضة وطوائف دينية ومكونات المجتمع المدني ومثقفين لاقتراح البدائل ونقد الذات. المغرب في حاجة إلى «تخليق الحياة العامة»، وهو شعار رفعته الدولة المغربية، إيمانا منها بأن التغيير الفعلي والديمقراطية الحقة لا يمكن أن يتحققا إلا بالمساواة بين الناس جميعا أمام العرف الأخلاقي، كما عبر عن ذلك روسو، المغرب في حالة تغيير وهو يحاول أن يستوعب هذا التغيير، لذا فهو ليس بحاجة لمن يشوش على لحظات تركيزه واستيعابه هاته.