نتابع جميعاً مجريات الأحداث في الوطن العربي، من مظاهرات واعتصامات وتصادمات بين المواطنين وقوى الشرطة والأمن، على امتداد الوطن العربي من المحيط الى الخليج، ونرى بأم أعيننا، المواجهات، بين مواطنين عزل وقوات أمن مدججة بالسلاح، حيث يقف المواطن العربي، في مواجهة هراوات لا ترحم، ورصاص مطاطي وحي، وقنابل مسيلة للدموع، وسيارات مصفحة، يُضرب ويُسحل ويُجر ويُركل، ويقتل في الشوارع، على مرآى من العالم عبر الفضائيات، ويساق المواطنون بالمئات والالاف الى حيث لا يراهم أحد، وحيث تمارس ضدهم كل وسائل التعذيب بوحشية وسادية. وذنب هذا المواطن العربي، أنه يتمرد على جلاديه ويحتج على الفساد، ويطالب بحقه في العيش الكريم والحرية والتعبير عن الرأي، إنه يعلن للعالم كله، أنه لم يعد يحتمل كل ما هو فيه من مهانة وقهر وإذلال، ويحمل الأنظمة السياسية مسؤولية ما هو فيه من جوع وفقر وبطالة ومرض وتخلف ومهانة. نحن نرى هذا كله، ونقف باستهجان وألم، أمام مشهد يتكرر باستمرار، وفي جميع هذه المظاهرات والاحتجاجات، وهو المواطن العربي الأعزل من أي سلاح سوى الارادة وما تبقى لديه من كرامة... يقف في مواجهة رجل أمن يضع خوذته السوداء ودرعه ويحمل هراوته وسلاحه الأبيض والأسود، وينظر بقسوة وصرامة، وبدون أي رحمة، لهذا المواطن الذي تجرأ على الخروج الى الشارع، ورفع صوته مطالباً بحقه، وكأنه ارتكب جريمة لا تغتفر. ويقف ذاك الشرطي وكأنه يواجه مجرماً خطيراً، وعدواً لدوداً، أربك الحياة الامنة والمرفهة، لأسياده، الذين وضعوه في مواجهة أهله ومجتمعه، لكي يحفظ وجودهم ويحمي مصالحهم ويبقى حارساً أمينا لهم في مواجهة كل من تسول له نفسه الاقتراب من جنات أسياده ونعيمهم وقصورهم وعزبهم، والتي هي أصلا منهوبة ومسروقة من ثروات البلاد وأرزاق العباد. تساءلت وأنا أرى هذا المشهد - مواطنا أعزل في مواجهة شرطي مدجج بالسلاح - من هو السيد؟ ومن هو صاحب الحق؟ وما هي وظيفة الشرطي؟ أليست هي في جميع القوانين حماية المواطن والدفاع عن أمنه وحقوقه؟ هل يحق للشرطي ان يحول بالقوة والسلاح دون استعمال المواطن الأعزل لحقه الطبيعي والمشروع في التظاهر والتعبير عن رأيه والمطالبة بحقوقه التي كفلتها جميع الشرائع والمواثيق الدولية والقوانين والدساتير الوطنية؟ ويأتي الرد بالطبع من النظام الرسمي العربي، بأن الأمن والنظام وسيادة القانون، تعطي الحق للشرطي ورجل الأمن في أن يمنع المواطن من التظاهر، وان يضربه ويسحله ويسجنه وحتى ربما يقتله إذا لزم الأمر، لماذا؟ لأن النظام الرسمي العربي يعتقد أنه سيد نفسه، وأن لا مرجعية شرعية او قانونية او دستورية لديه، سوى قوته وهيمنته واستبداده. ورغم أن جميع دساتير الدول العربية، تؤكد ان السيادة للشعب، وأنه مصدر السلطات، وأن القوانين تصدر باسمه، إلا أن عقودا طويلة من الاستبداد، أنست النظام الرسمي العربي، ان هناك سيدا أصيلا، وهو صاحب المرجعية والقرار، وهو الشعب وأن الشعب، طبقاً لجميع الشرائع والدساتير والمواثيق الدولية والوطنية، هو صاحب السيادة، وهو من يصدر القوانين وينشئ السلطات، ويراقبها ويحاسبها ويقيلها حيثما وكيفما شاء. وباعتبار أن الشعب هو السيد، كان منطق الأمور يقول ان الشرطة في خدمة الشعب، وبالتالي يجب أن يقف الشرطي أمام سيده المواطن، مصدر السلطات وصاحب الشرعية والقرار، باحترام وتقدير، لا أن يقف المواطن أمام الشرطي بخضوع وإذلال وخوف. ويضيف المنطق المقلوب الذي ترسخ على مر السنين، أن الحاكم العربي هو السيد المطاع، الذي بيده الأمر كله، دقيقهِ وجله، يعطي ويمنع، يخفض ويرفع، يحيي ويميت، ولا يُسأل عما يفعل، ولكنه والحمد لله، لا يستطيع أن يأتي بالشمس من المغرب. ولترسيخ هذه الأوضاع المذلة المهينة، التي تترك الأمة في آخر ركب الحضارة المعاصرة، إن لم يكن خارجها، يخوف النظام الرسمي العربي، شعوب الأمة من الفوضى وفقدان الأمن كبديل له، مروجاً أن الانتفاضات والمظاهرات والثورات، تكبد الاقتصاد الوطني والقومي خسائر فادحة، وكأن هناك اقتصادا وطنيا او قوميا لم يدمر بعد؟ ونسى النظام الرسمي العربي أو تناسى، حقيقة أن الفوضى وفقدان الأمن، كانت من سماته وأدواته في الهيمنة والاستبداد، وأن الاقتصاد الوطني والقومي العربي، لم يدخل مرحلة التنمية الحقيقية حتى الان، وان خسارة الاقتصاد العربي المفترضة، بسبب هذه الانتفاضات والثورات، تقل كثيرا عما يسرق وينهب ويبدد من ثروات في ايام او فترات مماثلة، عادية وهادئة بلا ثورات او انتفاضات. ولو قام خبراء المال والاقتصاد والتنمية في العالم العربي، بعملية حصر وجرد للعائد القومي العربي على امتداد اخر خمسين عاماً على الأقل، ، لوجدوا أن ما لا يقل عن تسعين في المائة من الناتج القومي، قد ضاع وسرق وتبدد، وان التنمية على امتداد هذه السنين، لم تنل منه شيء يذكر، وأن المواطن العربي ازداد فقراً وتخلفاً وجهلاً. لقد خرج العالم الغربي، من القرون الوسطى، بعد معاناة ومخاض طويل، فكانت الثورة الفرنسية، التي أنارت بمبادئها معالم الطريق نحو الحرية والتقدم، وجاءت الدساتير والقوانين الغربية، بعد ذلك، باسم الشعب تحمي وتصون حقوق الانسان، تقدس الحرية والكرامة الانسانية، خاصة حرية الرأي والتعبير، فبنت دول ديمقراطية حرة ومستقرة، تقوم على فصل السلطات، واحترام حقوق الانسان، وان السيادة للشعب وحده، ولا سلطة لسواه، وكانت النتيجة السريعة والمذهلة، هي التقدم الحضاري والتقني والازدهار الاقتصادي والامن الاجتماعي. أما في عالمنا العربي، فقد أضعنا حقوق الانسان التي قامت عليها حضارة إسلامية لمئات السنين، وأصبحت هذه الحضارة اليوم، تاريخاً مجيداً نتذكره بألم وحسرة ومرارة. عندما قامت الثورة الفرنسية، لم نأخذ منها كعرب شيئاً، فكأنما كانت الثورة الفرنسية، بمبادئها وأهدافها درساً تلقته أوروبا واستوعبته، بعد مرحلة طويلة من المعاناة والنضج، أما العالم العربي، وفي تلك المرحلة من عصور الانحطاط العربي، لم يكن مؤهلاً معاناة ونضجاً، لتلقي مبادئ الثورة الفرنسية وأفكارها، التي هي أصلاً مبادئ وأفكار قامت عليها حضارة إسلامية عم نورها العالم قروناً طويلة. وعندما انطلقت الثورة العربية من تونس الخضراء، كان العالم العربي، قد أصبح مؤهلاً معاناة ونضجاً، لصنع هذه الثورة واستقبالها واستيعاب ما تنادي به من مبادئ وأفكار، ثم ترعرعت هذه الثورة واشتد ساعدها في مصرنا الكبرى، وبلغت اوجها صلابة وإصراراً في اليمن الذي كان يفترض أن يكون سعيدا. أما في ليبيا، فقد واجه الثوار أعتى وأشرس حرب في التاريخ يشنها طاغية ضد شعبه، مستعملاً بوحشية وبلا حدود، كل ما في ترسانته من أسلحة القتل والدمار. وفي سورية ما زالت الثورة تقدم الشهداء، وتواجه وحشية وقسوة نظام يصر على تكميم الأفواه وخنق الأنفاس، من أجل معركة وهمية صوتها مازال يجلجل في وسائل إعلامه. لقد أعادت الثورات العربية بشبابها شباب هذه الأمة، وعزتها وكرامتها، ونفضت عنها تراكمات قرون وعقود طويلة من المهانة والخضوع والتبعية. لقد أعلن المواطن العربي، أن الشعب هو السيد ولا سيد سواه، وأن النظام الرسمي العربي، في أغلب أقطاره، ليس سوى مجموعة من تنظيمات غير شرعية وغير دستورية، فرضت نفسها بالقوة، وجثمت على صدور الشعوب العربية عقوداً طويلة، صادرت إرادتها، ونهبت ثرواتها، وانتهكت حقوقها، وسرقت أرزاقها، وباعت أوطانها ومزقت كياناتها. لقد ارتكب النظام الرسمي العربي، خطأ فادحاًً ومميتاً، عندما ركن إلى قناعاته واعتقاده، متوهماً أن وضع اليد واغتصاب سلطة الشعب، وسلب حقوقه وسيادته، لعقود طويلة، يمثل تقادماً قانونياً، يعطيه الحق ويمنحه الشرعية، ويحميه من المساءلة ويفلته من العقاب. إن الحديث اليوم عن الشرعية والدستور والقانون، في مواجهة الشعوب، هو حديث مراوغ، ليس له أي سند او أساس، لأن الشعب أصلاً هو صاحب الشرعية، وهو من يضع الدساتير ويعدلها ويلغيها، وهو من يسن القوانين ويراقب تنفيذها مباشرة، ومن خلال من يختارهم بتفويض محددٍ، اختصاصاً ومكاناً وزماناً، وهو من يعين ممثليه ومفوضيه، من أعلى الهرم إلى أدناه، ويقيلهم ويعزلهم متى شاء وكيفما شاء. ولا يستطيع أي كان، فرداً او تنظيماً او مؤسسة او مجلساً، أن يواجه الشعب او يعترض مطالبه او يطعن بها باسم الشرعية او الدستور، لأنه ليس هناك من يملك الشرعية ويضع او يلغي الدستور سوى الشعب، والشعب وحده.-