الخلاف إن شئنا تسميته، بحسب تطورات وتصاعد حدته، بالصراع بين الدعوة السلفية وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، ليس هو مجرد اختلاف أو صراع حادثة أو ناشئ، وإنما هو خلاف تاريخي ومنهجي قديم معروف، قدم العلاقة ما بين الجماعتين، فالدعوة السلفية لم تقبل ولم ترضَ على مدار أكثر من أربعة عقود في أن تكون تابعة أو منظوية تحت عباءة الإخوان المسلمين، وظلت عصية في تحويل رأس مالها الاجتماعي والدعوي إلى صالح الإخوان. ولم يعد الخلاف كما كان في الماضي مجرد موقف فكري ومنهجي، بل تطور ونما في ظل الوتيرة المتسارعة للأحداث بعد ثورة كانون الثاني (يناير) 2011، وازياد توجسهم وقلقهم من هيمنة الإخوان على المشهد السياسي، فهم لم يكونوا حلفاء استراتيجيين حتى تعتبر مواقفهم خيانة أو خذلاناً، وقد أشار الشيخ ياسر برهامي المنظّر الأول والرجل الأقوى في الدعوة السلفية في الإسكندرية إلى صورة مختصرة تحكي وجهاً من أوجه وآثار هذا الخلاف أو الصراع، وهو أن الإخوان في إحدى ندواته الدينية التي كان يلقيها، قاموا برميه خارج المسجد، وأن ذلك هو طبعهم، وأنهم بالتجربة لو تمكنوا، فسيقضون على الدعوة السلفية! إن الكل يدرك أن الدعوة السلفية وذراعها السياسي حزب النور السلفي، هو حزب يميني محافظ جداً في برنامجه ومشروعه السياسي، وآراؤهم تجاه بعض القضايا صادمة لقطاعات واسعة من الرأي العام، ولكنهم في الوقت ذاته وفي منظور شريحة واسعة، ينظر لهم إلى أنهم يطرحون أفكارهم بوضوح، ويتفقون أو يختلفون معك بوضوح، ومن غير مراوغات واستغلال للدين، مما جعل لمواقف وأخلاقيات رجال «النور» احتراماً واسعاً في أوساط السياسة المصرية. نعم، لقد شهدت الساحة لحظات توافق والتقاء بين الإخوان والدعوة السلفية، كان أهمها استفتاء آذار (مارس) 2011، إلا أن مثل ذلك التوافق أو الاصطفاف لم يكن نابعاً من تبعية الدعوة أو النور للإخوان، وإنما عند التأمل، نجد ثمة مصلحة أكيدة لحزب النور في ذلك الاصطفاف، فالخوف على هوية مصر الإسلامية، ومركزية قضية تحكيم الشريعة لديهم، كانت الدافع الأساسي لذلك الاصطفاف في بعض المحطات، وما عدا ذلك فقد اهتمت الدعوة السلفية، وحرصت على تحقيق التمايز الدائم عن الإخوان، والحرص على تجنب أن تحسب عليهم مواقف الإخوان، وحديثنا هنا متعلق فقط بالدعوة السلفية في الإسكندرية، تمييزاً عن بقية الكيانات السلفية. لقد حرص «النور» طرح نفسه منذ البداية على أنه ند للجماعة، وليس حليفاً لها في العمل السياسي، بدءاً من الانتخابات الرئاسية، فهم لم يدعموا مرسي في الجولة الأولى، بل دعموا القيادي المنشق وغريم الإخوان عبدالمنعم أبوالفتوح الذي تتعارض آراؤه كثيراً في الوقت ذاته مع الدعوة السلفية، ولم يساندوا ويؤيدوا مرسي في ما بعد إلا اضطراراً، خشية من رجوع نظام مبارك في حال فوز شفيق، ومع نجاح مرشح جماعة الإخوان بالفوز برئاسة الجمهورية بدعم «سلفي»، وتفاقم الاتهامات بعد ذلك من «النور» تجاه الجماعة بسعيها في الاستئثار بالسلطة، وسيطرتهم على قطاعات أساسية في ما يعرف بملف «أخونة الدولة»، تمت ترجمت ذلك واقعياً بطرح حزب النور مبادرة تتفق في كثير من مطالبها مع مطالب جبهة الإنقاذ وقوى المعارضة، وشرعت في حوار وجلوس مباشر معها، وكل تلك التطورات التي شهدتها العلاقة بين الفصيلين كانت كفيلة بألا يستمر الخلاف ناراً تحت الرماد. وفي المقابل، نجد أن الإخوان قد أداروا ظهورهم لأهم فصيل إسلامي لعب دوراً كبيراً في دعم مرشحهم للرئاسة، وكان تكتيكهم في التعاطي مع هذه الأزمة بأحد أمرين، إما «بالتهميش والتحييد» أو الاعتماد على سياسة أحداث الانقسام، وتفتيت الكتلة المعارضة الأكبر لهم في أوساط الحركة الإسلامية والهيمنة، واحتواء كيانات سلفية لسحب البساط من الدعوة السلفية، كالهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح، وهو ما دفع جماعة الإخوان وبعدم وعي سياسي إلى وضعها في مصاف العدو وتخوينها، والتصعيد بمنع أحد رموزها من إلقاء خطبة الجمعة، وتوقيف الشيخ ياسر برهامي في المطار، وتعرضه لمضايقات أمنية إلى غير ذلك. ومع تصاعد الأزمة، انتهجت الدعوة وحزب النور استراتيجية مستقلة إلى حد كبير عن حال الاستقطاب الحاد بين «التيار الإسلامي» الحاكم وبين التيار «المدني»، فلم تشارك رسميًّا في أية تظاهرات لهذا الطرف أو ذاك، بل عمدت إلى تجميد عضوية أحد أهم مؤسسيها لمشاركته منصة رابعة، وتجميد مجلس إدارة أحد فروعها، بسبب عقد مؤتمر لدعم مرسى، وطرح الحزب نفسه كوسيط لإنجاح المبادرات والحوار الوطني، واعتبرت الدعوة السلفية أن الإخوان لم يقابلوا دعوات الحشد ضدهم إلا بخطاب فيه تلويح بتكفير وعنف! وأن الحشود التي خرجت في 30 حزيران (يونيو) كانت تفوق قدرة الإسلاميين على الحشد، وتتميز إضافة إلى ذلك بالتنوع الذي يجعلهم ممثلِين لعموم الشعب، وانتهى المشهد واقعيًّا بتأييد الحزب علنيًّا لمواقف القوى المعارضة للإخوان في بيان 3 تموز (يوليو) الذي ألقاه وزير الدفاع الفريق عبدالفتاح السيسي، لينهي حكم محمد مرسي، ويعلن بدء خريطة الطريق للمرحلة الانتقالية، وانتهج «النور» في ما بعد ممارسة «نهج المراوحة»، على رغم أن الحزب رفض فضّ الاعتصام بالقوة، وأدان ما سماه ب«القوة المفرطة»، واعتبر أن من الضروري الحفاظ على مؤسسة الجيش متماسكة، ولقد كانت لدى الدعوة السلفية وحزب النور مخاوف حقيقية من جراء تلك الأحداث، ترتبط وتتعلق بالقلق من النفور الشعبي العام من «التيار الإسلامي» بعد الفشل الذريع لحكم جماعة الإخوان، وهو ما قد ينعكس أثره في العديد من التيارات «الإسلامية»، وهذه المخاوف هي ترجمة لما عناه الشيخ ياسر برهامي، بقوله: إن استمرار الإخوان في الحكم كان سيضر بالدعوة الإسلامية، وأن يكفر الناس بالإخوان خير من أن يكفروا بالدين! فبدا الحزب السلفي الناشئ سياسياً من خلال مواقفه السياسية أنه يمتلك قدرة حقيقية على المناورة والعمل لمصلحته، وقدرة على تطوير وتغيير الخطاب السياسي بصورة مفاجأة وغير متوقعة، والسير في طريق البراغماتية السياسية التي كان يظن البعض أن السلفيين جامدون إزاءها، وأنهم لا يلعبون بذات القواعد السياسية. "الحياة"