هدير الثورات في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية يجلجل بقوة في قلوبنا نحن العرب، ليوقظ كل مشاعر الترقب والتوجس والألم والخوف والغبطة والروع والاستثارة المستفزة. حركة مائجة من الأحاسيس تداهمنا، تختلط وتمور، لكنها سرعان ما تتآلف وتتدفق بانسجام عميق في نهر واحد هو نهر الأمل. وإن أريقت الكثير من الدماء بسبب تصرفات هوجاء وأفعال مجنونة لحكام لا يرون أبعد من أرنبة أنوفهم، فهي ثورات تعيد هندسة الحياة، وتقترح معنى آخر لوجودها. هي ثورات تحمل معاول الهدم الإيجابي، هدم أوتاد نظام سابق ورموزه الفاسدة، ممن ظلوا جاثمين على صدور الشعب لسنوات طوال، ورغم ما صاحب هذا الهدم من فوضى و«بلطجة» لأعداء التغيير، وما تطلبه من جسارة وصلادة تجابه الصخر، فإن ما بقي هو الأعظم، وهو خلق عمارة جديدة منفتحة لهذه الحياة، وعدم انجرافها في دوامة التسيب والفوضى والارتجال وتصفية الحسابات وسياسة الترقيع والأسقف الواطئة. شرارات اشتعلت بعدما كانت فتيلا يحرق ببطء صدور العرب بمشاعر الخوف واللاأمان والظلم والقمع، شرارات طالما أخمدت قبل انقداحها، وأطفئ نورها بعنف ووحشية في السجون والمعتقلات، في عز بهائها وألقها. ثورات ظل صمتها ونضجها وألمها وفقرها وإحساس الذل والمهانة لديها، يكبر رويدا رويدا ككرة الثلج، بعدما كانت هادئة مهادنة، لكن لا أحد ينصت بعمق وجد لنبضها: «من يمنعون الثورات السلمية يجعلون الثورات العنيفة حتمية»، كما قال الرئيس الأميركي الأسبق كيندي، وها هي اليوم قوية وجسورة كجلمود صخر حطه السيل من عل، لتسحق كل متاريس الخوف والضعف والاستكانة واليأس والخضوع. لم تكن تحلم الا بكسرة خبز هانئة، وحرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية، وعدم الاستخفاف والاستهانة بقدراتها، والإحساس بقوة الانتماء لهذا الوطن الذي شابته اللاثقة واللاأمان والخوف والإحساس بالتهميش بشكل أوهن تلك الشحنة العاطفية التي تربط المواطن بوطنه، وعمق الإحساس بالظلم، وإن كان الظلم شرطا سابقا على كل ثورة، كما يؤكد عبد الرحمن الكواكبي. حركة 20 فبراير في المغرب، هي تكريس لهذا الانتماء للوطن العربي، ولصوت انبجس في تونس لكنه سرعان ما اخضورر وأزهر في باقي الدول، وعلى أكف شباب يافع لا يحمل شارة حزب أو تنظيم سياسي، بل أحلام وشعارات وقصاصات لنسج خيمة وطن أجمل؛ حركة فتية تعيد للحلم خصوبته وطراوته، تقول لا للفساد، والجمع بين السلطة والثروة، ونعم للعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ولا تمارس العقوق على الملكية بل بنضج ووعي سياسيين تؤسس لثقافة النقد والمواجهة. حركة تعيد إصلاح علاقة الحاكم بالمحكوم، وتطالب بالمصالحة الوطنية بعيدا عن أي فتنة أو تشويش على مطالبها، وتدافع عن ملكيتها بكل ما أوتيت من قوة وحقيقة، تأمل تلاحم الملكية بمطالب الشعب، لم تتنكر للحركية الإصلاحية التي سنها «ملك الفقراء» منذ عشر سنوات، ولا للمفهوم الجديد للسلطة ومدونة الأسرة ومبادرات التنمية البشرية، ولا لهيئة «الإنصاف والمصالحة»، كمبادرة حضارية أبدعتها هذه الهيئة للكشف عن جوانب من الحقيقة. هم مواطنون شباب يتأبطون حلم التغيير بنضج وتحضر، وبكل جرأة وجسارة، وينددون بكل السياسات التي تختلس من الإنسان حقه في الإنسانية وفي الوجود السوي. حركة 20 فبراير وحدت أوتارها الصوتية، وتوجهت إلى ملكها بصوتها المبحوح المغمور بكل أحاسيس التهميش والتحقير والظلم، وكان الجواب منفتحا متحضرا ومتفهما في خطاب جلالة الملك يوم 9 مارس (آذار) 2011.. خطاب أشاد به القرضاوي والمجتمع الدولي، خطاب عمل على سن ميثاق جديد بين الملك وشعبه، وأعلن عن ميلاد عهد جديد من الإصلاحات السياسية والدستورية، بتوسيع مجال الحريات ومنظومة حقوق الإنسان، وكذا تعزيز استقلالية القضاء، وتقوية دور الأحزاب السياسية، وإخضاع السلطة للمراقبة والمحاسبة، والتكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية، وحماية الحريات وحقوق الإنسان، وتوسيع صلاحيات البرلمان، والحرص على انبثاق الحكومة من صناديق الاقتراع، وتكريس الجهوية المتقدمة. «إن الثورة مثل الرواية، أصعب ما فيها هو نهايتها»، حسب السياسي الفرنسي توكفيل.. فالخوف والقلق من الآتي، لكني أعود لأهدهد هاته المشاعر القلقة، وأمني نفسي بسكرة الأمل، فقد نصبح على وطن أجمل، فالثورة بكل آلامها وأحزانها ودمائها هي ثورات التغيير، ومن حملها هم شباب أكثر وعيا ونضجا، فالثورات قد تهدم لكي تبني، تجرح وتؤلم لتضمد جراحات إنسانية وتاريخية أعمق وأغور، لكن بانفصال جنوب السودان عن شماله يوم 9 يناير (كانون الثاني) 2011، أحسسنا بكل معاني التفتت والتشرذم والتشظي، أحاسيس من الألم والخيبة تصعب هدهدتها أو التفاؤل بعدها. لأول مرة تمنيت التزوير في صناديق اقتراع تمنح للجنوبيين في السودان دون الشماليين حق تقرير مصيرهم في استفتاء محسوم سلفا لصالح الانفصال، بعدما حلمنا بنزاهة الانتخابات الرئاسية العربية ولسنوات طوال.. انفصال ظلت تسقيه وتشذبه وترعاه الدول الغربية وإسرائيل وأميركا والفاتيكان منذ استقلال السودان.. انفصال استقبل بزغاريد أهل الجنوب، وبنحر الجمال، وبالصمت العربي المطبق.. انفصال تم حين ظنت القيادات أن السودان بكل شموخه وأصالته ورحابته غير قابل لاستيعاب كل الأديان والثقافات والهويات. يقول الدكتور فانسيس دينق في كتاب «صراع الرؤى»: «لا شك أن الوحدة هدف سام ونبيل، لكن الضمان الأفضل لتحقيقها على الصعيد الوطني هو أن تسمو القيادات فوق الشقاق الحزبي، وتطرح للوطن بكامله رؤية تلهم قطاعا عريضا من السودانيين بغض النظر عن العرق، أو الإثنية، أو الإقليم، أو الدين»، وقد تنبأ الطيب صالح بهذا المآل المأساوي، حين قال إن الخلافة الإسلامية السودانية التي يتوهم أهل الإنقاذ أن إرادة الله اختارتهم كي يقيموها في هذه الأرض، لن تكون سوى «جثة السودان المسكين».