أخنوش: فقدنا 161 ألف منصب شغل في الفلاحة وإذا جاءت الأمطار سيعود الناس لشغلهم    طنجة.. توقيف شخص بحي بنكيران وبحوزته كمية من الأقراص المهلوسة والكوكايين والشيرا    عمره 15 ألف سنة :اكتشاف أقدم استعمال "طبي" للأعشاب في العالم بمغارة الحمام بتافوغالت(المغرب الشرقي)    "المعلم" تتخطى مليار مشاهدة.. وسعد لمجرد يحتفل        الإسبان يتألقون في سباق "أوروبا – إفريقيا ترايل" بكابونيغرو والمغاربة ينافسون بقوة    انعقاد مجلس الحكومة يوم الخميس المقبل    أخنوش: حجم الواردات مستقر نسبيا بقيمة 554 مليار درهم    الجديدة.. ضبط شاحنة محملة بالحشيش وزورق مطاطي وإيقاف 10 مشتبه بهم    استطلاع رأي: ترامب يقلص الفارق مع هاريس    هلال يدعو دي ميستورا لالتزام الحزم ويذكره بصلاحياته التي ليس من بينها تقييم دور الأمم المتحدة    النجم المغربي الشاب آدم أزنو يسطع في سماء البوندسليغا مع بايرن ميونيخ    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا الخميس والجمعة المقبلين    حصيلة القتلى في لبنان تتجاوز ثلاثة آلاف    سعر صرف الدرهم ينخفض مقابل الأورو    البحرية الملكية تحرر طاقم سفينة شحن من "حراكة"    استنفار أمني بعد اكتشاف أوراق مالية مزورة داخل بنك المغرب    الجفاف يواصل رفع معدلات البطالة ويجهز على 124 ألف منصب شغل بالمغرب    المعارضة تطالب ب "برنامج حكومي تعديلي" وتنتقد اتفاقيات التبادل الحر    «بابو» المبروك للكاتب فيصل عبد الحسن    تعليق حركة السكك الحديدية في برشلونة بسبب الأمطار    في ظل بوادر انفراج الأزمة.. آباء طلبة الطب يدعون أبناءهم لقبول عرض الوزارة الجديد    إعصار "دانا" يضرب برشلونة.. والسلطات الإسبانية تُفعِّل الرمز الأحمر    الجولة التاسعة من الدوري الاحترافي الأول : الجيش الملكي ينفرد بالوصافة والوداد يصحح أوضاعه    رحيل أسطورة الموسيقى كوينسي جونز عن 91 عاماً    مريم كرودي تنشر تجربتها في تأطير الأطفال شعراً    في مديح الرحيل وذمه أسمهان عمور تكتب «نكاية في الألم»    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    مصرع سيدة وإصابة آخرين في انفجار قنينة غاز بتطوان    عادل باقيلي يستقيل من منصبه كمسؤول عن الفريق الأول للرجاء    الذكرى 49 للمسيرة الخضراء.. تجسيد لأروع صور التلاحم بين العرش العلوي والشعب المغربي لاستكمال الاستقلال الوطني وتحقيق الوحدة الترابية    أمرابط يمنح هدف الفوز لفنربخشة    الجيش المغربي يشارك في تمرين بحري متعدد الجنسيات بالساحل التونسي        متوسط آجال الأداء لدى المؤسسات والمقاولات العمومية بلغ 36,9 يوما    "العشرية السوداء" تتوج داود في فرنسا    إبراهيم دياز.. الحفاوة التي استقبلت بها في وجدة تركت في نفسي أثرا عميقا    بالصور.. مغاربة يتضامنون مع ضحايا فيضانات فالينسيا الإسبانية    أطباء العيون مغاربة يبتكرون تقنية جراحية جديدة    مدرب غلطة سراي يسقط زياش من قائمة الفريق ويبعده عن جميع المباريات    عبد الله البقالي يكتب حديث اليوم    تقرير: سوق الشغل بالمغرب يسجل تراجعاً في معدل البطالة    "فينوم: الرقصة الأخيرة" يواصل تصدر شباك التذاكر        فوضى ‬عارمة ‬بسوق ‬المحروقات ‬في ‬المغرب..    ارتفاع أسعار النفط بعد تأجيل "أوبك بلس" زيادة الإنتاج    استعدادات أمنية غير مسبوقة للانتخابات الأمريكية.. بين الحماية والمخاوف    الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي: للفلسطينيين الحق في النضال على حقوقهم وحريتهم.. وأي نضال أعدل من نضالهم ضد الاحتلال؟    عبد الرحيم التوراني يكتب من بيروت: لا تعترف بالحريق الذي في داخلك.. ابتسم وقل إنها حفلة شواء    الجينات سبب رئيسي لمرض النقرس (دراسة)        خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدكتور علي الإدريسي ل"التجديد": أحداث تونس ومصر أسقطت سياسة التخويف من الإسلاميين
نشر في التجديد يوم 22 - 02 - 2011

يركز علي الإدريسي المؤرخ والدبلوماسي السابق، على العامل الحضاري والثقافي في إحداث ثورة تونس ومصر والاحتجاجات التي تندلع في بعض البلدان العربية. وأكد الإدريسي أن ما حدث ويحدث كان متوقعا، لأن الوضع القائم لا يستفيد منه إلا المنتفعون الكبار، وأضاف أن الشعوب العربية لم تعد تخشى أحدا، وأن الرهان على القوة البوليسية تأكد فشله، وأبرز الإدريسي أن ما يحدث يؤكد أن مخزون الحرية عند الحرية لا يقل عنه عند غيرهم من الشعوب. واعتبر الإدريسي أن الأحداث الجارية تكتب تاريخا فاصلا بين مرحلتين، حيث فزاعة الإسلاميين تكاد تسقط وحيث إنها ثورة أصيلة تعبر عن انبثاق عصر جديد يرفض مرحلة الدولة الوطنية غير الوطنية، بكل شعارات النصب والاحتيال، وممارسات أحزابها الحاكمة أو المتواطئة مع السلطة. فيما يلي نص الحوار:
بعين المؤرخ، هل ما حدث في تونس ومصر كان متوقعا؟
في اعتقادي أن ما حدث في تونس ومصر كان متوقعا، بل تأخر قليلا. فكل من طمح وعمل من أجل عصر عربي جديد كان يتوقع وينتظر حدوث ما حدث، لأن الوضع العربي ما قبل 14 يناير 2011 لم يكن يقبل به إلا المنتفعون الكبار، ومنهم سياسيو المرحلة الذين كانوا ذاهلين عن مقاصد السياسة المدنية وعن حركة التاريخ، غير أن العقلاء والحكماء، الذين كانت الحكومات المنحرفة عن إرادة شعوبها ترفض الاستماع إليهم، فكانوا يرون في ذلك الوضع أحد الأمرين: إما التمرد والثورة لاسترداد الكرامة المهدورة، وإما الانسحاب من خريطة الإنسانية الفاعلة والانزواء في الأركان المظلمة للتاريخ. فقد رفض النظام العربي باسم شعارات الخصوصية، وباسم شعارات أخرى لا تنتمي إلى زمن الحرية والعدالة أن يؤبد سيطرته وتحكمه في مصير الشعوب بلا حسيب ولا رقيب.
لكن هل كنت تتوقع أن يسقط ابن علي وحسني مبارك بتلك السرعة التي سقطا بها؟
إن سقوط نظام بن علي ومبارك أكد أن القوة الغاشمة التي وظفها ويوظفها بعض الحكام العرب باللجوء إلى التسلط والقهر والقمع ضد شعوبهم لن تدوم إلى ما لانهاية، إلا إذا تحولت تلك الشعوب إلى مجرد أجداث وأرماس وغبار في قدر الاستبداد. غير أن ثورة الشباب في تونس وفي مصر برهن أصحابها أن مخزون الحرية عند الشعوب العربية لا يقل عن غيره عند الشعوب الأخرى في أفريقيا الجنوبية وفي أمريكا اللاتينية التي لطالما عانت من ويلات الأنظمة الدكتاتورية المحمية من الغرب. كنا نتمنى ألا يستسلم رؤساء النظام لغواية السلطة ومآثر الكرسي العجيبة التي أعمت لهم البصيرة قبل البصر.
إن الشعب المصري شعب كبير، ليس بتعداد سكانه فقط، بل بتاريخه الطويل وبدوره الخلاق في الانبعاث العربي الإسلامي منذ القرن .19 ومصر البلد الذي شهد ثورة عرابي سنة ,1881 وثورة ,1919 وهو البلد الذي عرف ازدهار الطباعة والصحافة والفكر والمفكرين في وقت مبكر، وأنجب كبار العلماء المصلحين، وكبار الأدباء والفلاسفة في النصف الأول من القرن العشرين. إنه الشعب الذي أنجب محمد عبده، وطه حسين، وعباس محمود العقاد وأحمد حسن الزيات، وطلعت حرب، ومصطفى عبد الرازق، وسلامة موسى، وغيرهم كثير... لا يمكن أن يقبل بأن يصبح تقرير مصيره ومصير أمنه القومي في يد أمريكا كما أعلن السادات بعد حرب 73 ، أو يقبل أن يختار رئيسه من قبل واشنطن وأن يكون مرضيا عليه من قبل إسرائيل، كما صرح بذلك مستشار مبارك السابق، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان المصري مصطفى الفقي قبل سنة وبعض السنة. وهذا غيض من فيض المهانات.
إني أريد أن أصل إلى خلاصة مفادها: أن الحدث التونسي والمصري وراءه تراكم ثقافي وثقل حضاري، وغيرة على ضياع المكانة الثقافية والحضارية للتونسيين وللمصريين. وبفضل ذلك الثقل والتراكم الثقافي والحضاري لم يستطع أقوى نظامين أمنيين وبوليسيين في المنطقة أن ينتصرا على إرادة الشباب الثوار. لذا يمكن أن ننظر إلى التغيير من زاوية أخرى، من غير زاوية الأحزاب التي برهنت على أنها أفلست منذ الاستقلال إلى الآن، وأنها لم تكن أكثر من مستفيد من كنز مغارة علي بابا، ومن تزوير الانتخابات، والإسهام في التأسيس لثقافة الفساد، وإبداع أساليب الارتماء في أحضان الغرب. ونتيجة لذلك فإن ما وقع في تونس ومصر قام به تيار ثالث وهو الشباب، وهو تيار ضد السلطة وليس ضد الدولة، وضد الأحزاب الحزبية وليس الأحزاب السياسية؛ الأحزاب التي ظلت تزيّن للأنظمة المخلوعة عن شعوبها سلوكها وسياساتها البعيدة عن الحد الأدنى من طموحات المواطنين. ولذا فهي أحزاب يجب أن تتبدد ما دامت لم ترد أو عجزت عن أن تتجدد. وهذا ما نادى به شباب الثورة في تونس ومصر...
هناك اختلافات في توصيف ما حدث هل هو ثورة أو انتفاضة أم انقلاب أم شيء آخر جديد تماما عن كل ذلك؟
عندما قلت إن ما حدث يوم 14 يناير يختلف عما حدث قبله، بل هو تاريخ فاصل بين مرحلتين، ما دام النهر يسير إلى وجهته، مستعصيا عن تحويله عن مجراه مرة أخرى. إني أنظر إلى ما حدث بأنه ثورة أصيلة تعبر عن انبثاق عصر جديد برفض مرحلة الدولة غير الوطنية، بكل شعارات النصب والاحتيال، وممارسات أحزابها الحاكمة أو المتواطئة مع السلطة. ومن هنا يمكن القول إن ما حدث في مصر وتونس ثورة شعبية بكامل المعنى وتمامه. لقد شاهدنا ثورة على الأنظمة وعلى الأحزاب التي ظلت تزين للحكام أفعالهم، وقامت في الوقت نفسه بدعوة الجيش إلى التلاحم مع الشعب كي لا ينهار الدفاع الوطني، أو فتح ثغرة لتدخل قوة أجنبية وانهيار الدولة كما حدث في العراق.
ما هي الأسباب أو السبب الجوهري الذي أدى إلى ثورة الشعبين التونسي والمصري؟
هناك أسباب كثيرة مطروحة في سوق التعليلات والمسوغات من قبل هذا الجانب أو ذاك، ولكني سأركز على أسباب ثلاثة، نظرا لأهميتها القصوى في نظري، وهي: غياب الحرية، وانعدام العدالة، وإهدار الكرامة الإنسانية.
فالحرية ليست قضية فلسفية، أو أمرا يتعلق بدين ما، أو مذهب معين. وأجد نفسي منجذبا بقوة إلى الدلالة العميقة لقول القرضاوي ''الحرية قبل الشريعة''. والإنسان غير الحر يفقد أبسط حقوقه كالحقوق الطبيعية، والحق في عبادة الله وحده لا شريك له.
وأخطر شيء في الوجود هو الاستعباد؛ سواء أكان سياسيا، أم اقتصاديا، أم دينيا، أم اجتماعيا، أو حرمان الناس من التعبير عن آرائهم وحقوقهم. وقد مورس الاستعباد في تونس وفي مصر على السواء. لقد كان نظام بن علي ونظام مبارك من أكبر الأنظمة الأمنية القمعية. فقد استعملت كل الوسائل الشرعية وغير الشرعية لدوام السلطة واحتكارها، ولو على حساب الحقوق الطبيعية للإنسان.
والمقوم الثاني هو العدالة. إذ لا يعقل أن تعيش فئة، أو طبقة قليلة في الرفاهية، وتمارس كل أنواع البذخ والتبذير على حساب عشرات الملايين من الشعب الذين يئنون في أقبية الفقر المدقع، دون أمل في تغيير أوضاعهم نحو الأفضل رازحين تحت عتبة الفقر، يسكنون حيثما كان، ويتغذون على أي شيء كان.
ومن جهة أخرى كشفت ثورة الشباب التونسي الأوضاع الخلفية للمدن السياحية التونسية، انكشف الزيف الذي كان يمجد النموذج التونسي في التنمية. لقد استمعت مرة، عبر إحدى القنوات الفضائية، جواب أحد المواطنين التونسيين من سيدي بوزيد، المدينة التي انطلقت منها شرارة ثورة الشباب، يسأل الصحافي: هل استطعتم أثناء الثورة حماية ممتلكاتكم العامة والخاصة؟ فأجاب ذلك المواطن بكل عفوية وتلقائية ''ليس لدينا ممتلكات لا عامة ولا خاصة حتى نحميها أو نخاف عليها''. وكل من يعرف العمق التونسي يعرف أن لا شيء وراء المدن السياحية سوى الفقر والتهميش. والناس في تونس إذا علموا أنك ليس تونسيا وستغادر في الحال يفتحون لك خزينة دواخلهم ولا يستطيعون التحكم في بكائهم من شدة معاناتهم والقمع المسلط عليهم.
وتشكل الكرامة قاعدة مثلث أعز ما تطلبه الشعوب لإعطاء المدلول العميق والبعيد للحرية والعدالة. فبدون كرامة تنهار القيم. وإذا انهارت القيم فأقم على الدنيا مأتما وعويلا، وارحل كما رحل الذين عجزوا عن تغيير ما بأنفسهم فانسحبوا من التاريخ.
لقد كانت مصر تحت النفوذ الإنجليزي أفضل بعشرات المرات من مرحلة الدولة الوطنية. ولا يزال المصريون يحنون إلى دستور .1923 ولم يختلف الأمر في تونس. فقد شرع بورقيبة منذ وصوله إلى الحكم في قمع كل معارض لرؤيته، وللنهج السياسي الذي فرضه على التونسيين، فألغى كل الأحزاب السياسية باستثناء حزبه هو، كما ألغى كل الهيئات الفكرية وجمعيات المجتمع المدني، وفرض اتجاهه هو كمرجع وحيد للدولة والمجتمع. وسار ابن علي على نفس المنوال والمنهج.
علق أحد علماء الاجتماع المصريين على النظام العربي لمرحلة ما بعد الاستعمار فقال: ''كان الاستعمار يملك العصا والحكمة وحين ''رحل'' لم يحتفظ ورثته في الدولة الوطنية إلا بالعصا''، وعلق الأمير الخطابي في أواخر الخمسينيات على ما آلت إليه الأوضاع في الدول المستقلة بقوله: ''كل ما حدث أننا انتقلنا من الاحتلال إلى الاحتقلال''. وفي تونس يروي التونسيون حكاية ومثلا يؤكد المعنى السابق، مفاده أن شخصا جاء إلى جاره فأخبره أنه افتك نعجته من الذئب، فنظر إليه ولم يجد معه تلك النعجة، وسأله: وأين النعجة؟ فرد عليه الشخص ''أكلتُها،'' فعلق الجار صاحب النعجة قائلا: ''وما الفرق بينك وبين الذئب''.
لأول مرة نحن أمام شعوب عربية مسلمة تخرج بالملايين وبطريقة سلمية دون أن تحمل السلاح، وبدون أن تخرب من أجل الإطاحة بنظام مستبد، كيف ترى هذا الأمر؟
أبدأ من الأخير، إن عدم الميل إلى العنف في الثورتين التونسية والمصرية هو تعبير عن تحول ثقافي في التعامل مع الاستبداد الشرقي المقيت والذي شوه القيم الإسلامية وايمان الشعوب بحقها في التوافق الاجتماعي وفي الحياة المدنية القائمة على احترام القانون وحده وتطبيقه على الجميع دون استثناء، قبل أن يكون جوابا على الغرب، الذي يصر بعض قادته ومفكريه على أن الإسلام جعل من المسلمين شعوبا تواقة للدماء وإهدار الحياة الإنسانية. وهذه الثورة أكدت فيما أكدت أن التعطش لإسالة الدماء هي عقيدة المستبدين والدكتاتوريين الذين صنعهم الغرب وحماهم بكل الوسائل خدمة لمصالحه ولأهدافه الأيديولوجية التي لا تخدم حوار الحضارات والسلم في العالم على كل حال.
إن ما قام به المصريون والتونسيون هو بلا شك إنجاز كبير عجزت عن تحقيقه كل المؤتمرات وكتابات المستشرقين والمستغربين التي قيل إنها رمت وترمي إلى تصحيح صورة الشعوب العربية والإسلامية في المخيال الغربي. وهو قيمة مضافة أيضا إلى تجربة تركيا تحت قيادة العدالة والتنمية، التي قطعت أشواطا كبيرة في الإصلاحات السياسية والتشريعية والحد من سلطة العسكر والإقلاع الاقتصادي، دون الإخلال بأسس الدولة المدنية، والحد من دغمائية العلمانية.
ومن هنا أسقطت ثورة الشباب، ولو مؤقتا، فزاعة النظام العربي للغرب الخاصة ب''الإرهاب الإسلامي''، الذي بقي ابن علي ومبارك يخوفان به الغرب إلى آخر لحظة قبل سقوطهما، لكي يساندهما. وقد أبدت فرنسا فعلا استعدادها لنجدة ابن علي لكن الرياح الأطلسية لم تكن إلى جانبها هذه المرة، لأن رسالة ثورة الشباب كانت قد كسرت حاجز الخوف وخرافة الهلع والفزع من الإرهاب الإسلامي، كما كان ليل الاستبداد قد آذن بالبلج...
ترى أن فزاعة الإسلاميين سقطت نهائيا مع الثورة المصرية
لم تسقط كلية، ولكن وقع فيها شرخ كبير، وموقف الغرب من تجربة جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر في بداية التسعينات لا يزال حاضرا في الأذهان. حيث دعت الجبهة إلى العصيان المدني. ووقف الغرب كما هو معلوم إلى جانب العسكر، بمبرر ما يسميه ''الإرهاب الإسلامي''، كما هو الشأن في غزو أفغانستان. وقد وجد له كثير من منظري الغرب عنوانا كبيرا هو ''صراع الحضارات''. لكن اليوم تغيرت كثير من المعطيات. فبالإضافة إلى تجربة العدالة والتنمية التركية التحق إسلاميو تونس ومصر بقافلة الثورة ولم يدعوا أنهم قادتها أو مفجروها وحدهم.
وعندما يعلن راشد الغنوشي أنه مع ثورة الشباب، دون تحديد هوية هؤلاء الشباب الأيديولوجية، ويعلن في الوقت نفسه أنه لن يترشح للرئاسة. ويعلن الإخوان المسلمون الشيء نفسه في مصر، بل يصرحون أنهم مع الدولة المدنية، وأنهم يريدون تأسيس حزب سياسي لا يرتضي عن النظام الديمقراطي بديلا. كل ذلك يؤكد أننا بصدد منهج جديد ليس في الممارسة السياسية فحسب، بل بإبطال مبررات الغرب في تأييد الأنظمة الاستبدادية العربية.
الغرب ظهر مترددا إزاء ما حدث في تونس، وعبّرت جهات صهيونية عن تخوفها من ثورة المصريين، هل يمكن القول إن الثورة المصرية ستعيد مصر إلى خطها التحرري المقاوم في المنطقة؟
بالنسبة للتردد، فإن عددا من علماء الاجتماع الذين درسوا المنطقة العربية أجمعوا على أن النظام الاستخباراتي غير قادر وحده على أن يتنبأ بما يمكن أن يحدث؛ لأن الشعوب والأمم لها سرها المكين في أعماقها الذي يعبر عن نفسه في لحظاتها الحرجة، وهي نفسها لا تعرف هذا السر إلا في الوقت المناسب. ومن ثمة فإن الذين فجروا الثورة لم يستطع لا النظام الأمني للاستبداد العربي ولا الاستخبارات الغربية والصهيونية معرفة قدرتهم وخططهم ففشلوا في إجهاضها. لكن ذلك لا يعني أنهم سيتأخرون عن تشويهها وتوظيفها، إذا سنحت لهم الفرصة، لخدمة أجنداتهم في الحال والمآل.
أما بالنسبة للمقاومة فهي لا تعني بالضرورة خيارا وحيدا أوحدا. لقد قاوم الشعب المصري اتفاقية كامب ديفيد بالمقاطعة، كما قاوم المهاتما غاندي الاستعمار البريطاني. للمقاومة خيارات واسعة، أخلاقية، وقيمية، واقتصادية، وسياسية، وديبلوماسية، وغيرها. وفي السياسة كما في الرياضة التنافسية، فإذا لعبت إحدى الفرق بنفس الخطة التي اعتمدها خصمها، فإنها ستخسر حتما. وكذلك الشأن في الممارسة السياسية. فكل سياسة أصيلة ستعتمد خيارات خاصة بها، وفق حالتها التاريخية وظرفيتها الاجتماعية وقدراتها الذاتية.
أما الانبطاح الذي حدث من قبل النظام العربي أمام الإملاءات الخارجية مقابل الحماية من غضب الشعوب، المطالبة بحقوقها الطبيعية والسياسية، لم يلحق الضرر بحاضر الشعوب العربية فحسب، بل بمستقبلها أيضا، وبمصير القضية الفلسطينية التي طالما تغنت الأنظمة العربية بأنها قضيتهم الأولى.
كيف تقرأ مستقبل المنطقة في ضوء الثورة المصرية والتونسية؟
أعتقد أنه مستقبل يتوقف على أفكار شبابها، لقد أكد الشباب للأنظمة التي تحكمه أنه سيقرر من الشارع، بعدما سدت في وجهه كل الأبواب واعتبرته قاصرا عن ممارسة السياسة، وحاولت إغراقه في ثقافة النسيان والمهرجانات الراقصة. هؤلاء الشباب أنفسهم يتقدمون اليوم بكل إرادة وعزيمة ليضعوا حدا للتهميش وللأنظمة التي احتقرتهم. وازعم بأنه من الآن فصاعدا لن يسكت الشباب في كل أرجاء البلاد التي تنتمي إلى جامعة الدول العربية، وكل من يزعم أنه مستثنى لأسباب يدعيها هو، أو أنه يتميز بخصوصية تحميه من الشارع، إما أنه غافل عن مقاصد التاريخ، أو أنه لا يزال يغالط الشعوب بأن نظامه نظام ديمقراطي. في حين أنه يمارس العكس في الواقع.
أما إذا كانت النيات سليمة، فإن أول ما يجب أن تفعله هذه الأنظمة هو أن تستمع إلى الناس وإلى هؤلاء الشباب، لا أن تستمع إلى الأحزاب التي ترفض إلى اليوم أن تتجدد وتتغير، كما نلح أن تنفتح على الشباب وتستمع إلى آرائهم وليس إلى الآراء التي تبتكر طرائق إلهائهم وإقصائهم من صناعة مستقبلهم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.