في مدخل كل إدارة، كل مؤسسة عمومية أو خاصة، هناك ملصقات تحسيسية، تقول بخط عريض غليظ أحمر: لا للرشوة، وهو ما حول هذه الحملة إلى ما ينسبه الحملات الاشهارية، التي تبدعها الشركات الصناعية لترويج منتوجاتها. فهل حققت هذه الحملة أهدافها..؟ هل قضت على داء الرشوة..؟ الرشوة وبشهادة كل الفاعلين الحقوقيين والسياسيين المغاربة، أصبحت وباء متناسلا في الإدارة المغربية، يتعاظم حضورها في ظل منظومة الفساد التي باتت تهدد كيان المجتمع المغربي في أمنه وعدله واقتصاده وقيمه وأخلاقه، بعدما أصبحت مقرونة باستعمال النفوذ والسلطة. ويعود تفشي داء الرشوة في شرايين الجسد الإداري المغربي، إلى عدة أسباب منها القانونية التي تعود لعدم نجاعة الجهاز القانوني نتيجة قلة النصوص الزجرية أو نتيجة تعقيدها أو تعطيلها، أو لغياب الرقابة أو ضعفها، أو لعدم وجود استراتيجية متكاملة ضدها، وتبعا لذلك ظلت المتابعات القضائية التي تمت أمام المحاكم العادية أو محكمة العدل الخاصة، نهاية القرن الماضي، ظلت متابعات استثنائية وانتقائية، بل أن حملات التطهير التي شهدها المغرب في بعض الفترات، كانت تستهدف محاربة المخدرات والتهريب وليس محاربة الرشوة، رغم كون هذه الأخيرة شكلت دائما أداة مشتركة للعاملين السابقين. هكذا ظلت الرشوة من الجرائم المسكوت عنها، والتي لا تنفع معها الحملات التحسيسية الموسمية ولا التعبئات الظرفية ، لأنها اعتبرت دائما أداة لممارسة السلطة وللتعاطي السياسي، الذي يرتبط بمسلسل للاندماج الوطني إزاء محيط وتقسيمات اجتماعية، وخصوصيات عرقية أو جهوية أوسياسية. وفي قراءات المحللين والباحثين لمعضلة الرشوة، في بلادنا، أن أسبابها اقتصادية وإدارية متعددة: 1/ الأسباب الاقتصادية: تنشط الرشوة في ظل السوق السوداء الناجمة عن تدخل أجهزة الدولة في دورة النشاط الاقتصادي، كما تطرح ذلك المدرسة النيوليبرالية، والتي ترى أن تقوية ظاهرة الرشوة يرتبط بتقوية نفوذ الدولة وبتنامي سلوكات البيروقراطية المعدلة لخروقات مسطرية، في حين يرى المناوئون للتصور النيوليبرالي، بأن بروز مشكل الارتشاء يكمن في تصدع القيم الأخلاقية واندحار الحس الوطني في تدبير الشأن العام، وتآكل شرعنة الدولة، علاوة على انهيار القيم الجماعية، في ظل تنامي الأنانية والفردانية والبركماتية، أي انتشار ظاهرة الرشوة بسبب ضآلة الأجور أو جمود الترقيات. 2/ الأسباب الإدارية: وتكمن في لجوء المواطن إلى الرشوة ليجعل الإدارة رهينة في يده، أو على الأقل ليتقي شرها، فلولا وجود راشون لما كان هناك مرتشون كما يقول المثل العربي "فالذئب لم يكن ذئبا لو لم تكن الخرفان خرفانا" أو في الاستبطان الفكري أو التشبع العقلي باللجوء إلى الرشوة وهذا ما حذا بالبعض إلى القول بان الرشوة قبل أن تأخذ شكلها النقدي تبدأ برشوة الفكر، بسبب تناقضات لا يمكن تجنبها بين ما يمليه الضمير الفردي وما تمليه المصلحة. -2- هكذا بدأت الرشوة تنعكس على مختلف مناحي الحياة، بتراكم السلبيات الاقتصادية والإدارية والأخلاقية والقانونية، حيث أدت في نهاية المطاف إلى فساد الطباع والانحلال الخلقي والتفسخ الاجتماعي، إذ ساعدت على تنامي ظاهرة تهريب المخدرات، وتفاحش الجريمة، وبالتالي الانفلات من مؤسسة الزجر، كما أفرزت أزمة ثقة وفقدانها في الإدارة، وعدم جدوى القوانين، وبالتالي المس بمصداقية الدولة، وطغيان التوجه المادي لدى الفرد والمجتمع. وبشهادة المراقبين والخبراء فإن الرشوة في الإدارة المغربية أصبحت عنوانا بارزا لهويتها، تمارس على نطاق واسع، حيث تحولت إلى "عملة" يحصل بها المواطن على وثيقة رسمية، أو شهادة أو رخصة، أو ليستفيد بها من خدمة قانونية... أو من هضم حقوق الدولة أو العدالة. فالرشوة لا تؤدي فقط إلى هضم حقوق الآخرين، ولكنها تؤدي إلى اغتصاب موقع انتخابي/ إلى الحصول على وظيفة عالية خارج شروطها/ إلى الحصول على قرض/ أو الحصول على صفقة خارج القانون. ويعتبر الخبراء أن الأموال التي تروج في الزمن الراهن، في قطاع الرشوة، تفوق الأموال التي تروج في بعض القطاعات المنتجة. وبشهادة "المنظمة المغربية لحقوق الإنسان" أن الرشوة بالإدارة المغربية أصبحت تعيق التمتع بحقوق المواطنة المتأصلة، كيفما كانت هذه الحقوق مدنية أو سياسية، أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، وبسببها تنامت آفة التهريب والاتجار في المخدرات والعهارة والتملص الضريبي، إذ أصبح الإفلات من العقاب يرتبط بالرشوة وبأساليبها المختلفة. وفي نظر العديد من الباحثين والخبراء، أن الرشوة في القطاع الإداري المغربي، لا تعمل فقط على إعاقته ولكنها أيضا تحرف التعبير الحر عن الإرادة السياسية الجماهيرية، وتحول دون الممارسة الحرة للمشاركة السياسية، تصويتا وترشيحا، وتمس المشروع الطموح للديمقراطية، وتمس بحميمية حقوق الإنسان ودولة الحق والقانون ودولة المؤسسات. وفي نظر العديد من الخبراء، ان الرشوة في القطاع الإداري تفضي إلى خلق أولويات غير معقلنة لخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأنها تستجيب لإطماع الأفراد، وتؤدي إلى ضرب مبدأ المنافسة الاقتصادية واغتيال روح الابتكار، كما تؤثر على سير جودة المنتوجات وتكلفة انجازها ولا جدوى الخدمات، وبالتالي تعمل على التأثير السلبي في قيمة العمل، بسبب تمركز الثروة وسوء توزيع الدخل. وقد اعتبرت الجمعيات المغربية المحاربة للرشوة، في إعلاناتها ودراساتها المتعددة، أن وجود الرشوة في الإدارة المغربية، يعتبر اضطهادا للإنسان/ للمواطن. لأنها (أي الرشوة) تؤخذ بالإكراه المادي والمعنوي وتكرس عدم المساواة في الفرص بين المتنافسين والمتبارين،أفرادا وجماعات ومؤسسات. واعتبرت هذه الجمعيات، أن الرشوة مسا سافرا بحقوق الإنسان، تعمل على تحويل الخبرات العمومية لجهة مصالح خاصة، وتشكل عائقا للتنمية، ومسا بحقوق الشعب والتحكم في موارد عيشه. إن الرشوة في نظر هذه الجمعيات، بانسيابها داخل آليات الاقتصاد والإدارة والسياسة والقضاء، تحل المحاباة محل المساواة، والامتياز محل الحق، فتخرق مبادئ المساواة وعدم التمييز في المعاملات العمومية، كما في المبادلات الخاصة. وترى العديد من التحقيقات الإعلامية، أن الرشوة بالإدارة المغربية، لا تمس فقط الأخلاق والقانون والعدالة، بل تعمل على تدمير البناء الاقتصادي والنظام السياسي والهيكل الإداري. وعموما تزرع فتيل التوتر ما بين الإدارة والمجتمع، وتمتد آثارها إلى البيئة والصحة العامة وسلامة الأفراد والمجتمع. وترى العديد من القراءات العلمية/ الاقتصادية/ القانونية، حول ظاهرة الرشوة في الإدارة المغربية أنها "في الصفقات العمومية" تؤثر بشكل بين وواضح على اختيار الأطراف الخاصة التي تقوم بتوريد السلع والخدمات العمومية، إذ يصبح معيار الاختيار بين هذا المورد وذاك، هو من يدفع أكثر وليس من ينجز أفضل. أما في مجال الضريبة العمومية فترى هذه القراءات، ان الرشاوي تستخدم للتقليل من مبالغ الضرائب أو الرسوم الجمركية التي تدفعها الشركات والأفراد إلى الدولة ومن ثمة يصاب النظام الضريبي بالخلل ويتقلص الانفاق العام على القطاعات الحيوية بالبلاد. وفي القطاع القضائي، ترى العديد من القراءات الإعلامية والسوسيولوجية ان معضلة الرشوة تشتعل بشكل قوي في هذا القطاع إذ يلعب مبلغ مادي يقدم إلى القاضي دور نزع الحقوق والملكية وربما الحرية وأرواح الناس بغير حق. وفي القطاع السياسي، تلعب الرشوة وبشهادة الإدارة نفسها دورا كبيرا في إفساد الانتخابات وتشكيل الحكومات، واختيار المسؤولين. وتعمل على استعباد قيم المواطنة والإخلاص والكفاءة والاستقامة بمقاييس الثراء والوجاهة والنفوذ والتسلط، إذ اقترحت بعض الأقلام المغربية، إنشاء مرصد للوقاية من داء الرشوة على غرار ما هو موجود في بعض الدول السائرة في طريق النمو، يكلف بتنظيم وجمع ومركزة واستغلال المعلومات الضرورية، لضبط وقائع الرشوة واستغلال النفوذ والحصول على المصالح بطرق غير مشروعة، والمس بحرية ومساواة المرشحين في الصفقات العمومية ... وغيرها من التجاوزات المرتبطة بفعل الرشوة والارتشاء... ولا أحد يعرف ما آل إليه هذا المرصد. -3- في نظرنا أن وضع معضلة الرشوة في العقد الأول من الألفية الثالثة تجاوز بكثير المعطيات، التي توفرت للمنظمات والجمعيات المختصة في القرن الماضي، اذ لم تعد الرشوة تمس في الألفية الجديدة، فقط المقاولات والإدارات العمومية ولكنها امتدت بسرعة إلى مختلف الجماعات المحلية والأحزاب والنقابات وتنظيمات المجتمع المدني وهو ما أعطي الرشوة حجمها الشمولي في إشكالية الأزمة المغربية الراهنة. لربما تكون هذه الوضعية، هي ما يفسر النتائج التي توصلت إليها ترانسبرانسي المغرب مؤخرا، والتي تقول أن وضعية الرشوة تعمقت في الإدارة العامة بشكل لم يسبق له نظير، وأن الرشوة أصبحت اشكالية بنيوية تعيق التنمية الاقتصادية، وتعيق اصلاح القضاء واصلاح الإدارة العمومية. لاشك أن هذه الوضعية، هي التي تجعل "الحرب" التي تخوضها حكومة السيد عبد الإله بنكيران ضد الرشوة، بالاشهار والتحسيس، حربا خاسرة، لا نتيجة لها. نعم قامت الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة مؤخرا بتشخيص "ظاهرة الرشوة في المغرب" وبتقييم الإطار القانوني والمؤسساتي ووسائل مكافحة فساد الرشوة، وقامت بتقنين السياسات العمومية في هذا المجال... ليبقى ما تقوم به هذه الحكومة خارج شروطه الموضوعية/ أي دون تفعيل/ التفعيل الذي يجب أن تقوم به السلطات الموكول إليها محاربة الرشوة. يعني ذلك بعبارات واضحة، أن اطلاق حملة تحسيسية ضد الرشوة، في غياب استراتيجية متكاملة لاستئصالها ومحاربتها، يعني صفر على اليسار/ يعني أن الحكومة نصف ملتحية، عوض أن تحمل المسؤولية للقضاء، تحملها للمواطنين. ان الرشوة في جهازنا الإداري كما في الأجهزة المرتبطة به، استطاعت "بتنظيمها الدقيق" وبلوبياتها المسلحة، تهديد السير العادي للدولة وتهديد علاقتها بمواطنيها، ذلك لأنها تحد من مصداقية مؤسساتها، وتجعل المواطنين فاقدي الإرادة في الدفاع عن أنفسهم / مصالحهم وحقوقهم وان الرشوة كما دمرت في الماضي، مصداقية الدولة/ مصداقية القانون/ مصداقية السياسة. مازالت تدمر في الحاضر، ما يسمى مبدأ المساواة أمام القانون كوسيلة ذات تأثير كبير في يد من يملك المال، وطبعا هذه المساواة تهم الحياة اليومية للمواطن أمام الإدارة في ممارسته للأعمال التجارية، ولحقوقه الانتخابية والسياسية أو عند ولوجه للوظائف العامة وهو ما يتحول وبالا ضد المواطنة. أفلا تنظرون آثارها التدميرية؟