اصطنع ما يسمونه الفضاء الأزرق رجال علماء فصار مرتعا لأطفال من كل الأعمار والجنسيات. تولدت فكرة الفضاء الشبكي لتجميع كل ثقافات البشرية وجعلها متاحة للجميع، وظلت حلما يراود الإنسان العاقل منذ القدم. واستبشر العالم بظهوره مع الجيل الأول، فصار وكأنه «المدينة الفاضلة الأفلاطونية» فضاء يلتقي فيه الفلاسفة والمفكرون والأدباء والعلماء على اختلاف أصنافهم ولغاتهم ليتناقشوا في الأفكار، والقيم، ويعملوا على المشاركة في تبادل المعارف والخبرات والصنائع. فكانت المواقع الرسمية للجامعات، والشخصية للأعلام، والمدونات للجماعات الثقافية والعلمية في البداية. وكان التطور وتبسيط الدخول إلى هذا الفضاء مع رخص الوسيط، وتوفر العتاد والبرمجيات، وتوسيع دائرة الفضاء الشبكي مع بروز الجيل الثاني، فصار كل من في قلبه غصة، يفتح له منصة. وصارت الألعاب الإلكترونية الموجهة للأطفال نموذجا يحتذى في توظيف الوسائط من الحاسوب إلى الهاتف. وتقوم أغلب هذه الألعاب على حبكة توفر لك كل المعدات للدخول في حرب أو مطاردة خصم، وعليك أن تحيِّده، أو حيِّد! إذا كانت الحكايات العجيبة التي كانت تربي بها الجدات، قديما، الأجيال مبنية على حبكات تدافع عن القيم الإيجابية، والتسامح، والمحبة، صارت الألعاب الإلكترونية النصوص السردية التي يقوم فيها اللاعب بدور البطولة. إنه ليس ذلك المتلقي الذي كان، وهو يستمتع بالحكاية، وينتظر نهايتها السعيدة. إن اللاعب الآن يخوض معركة، وهو مجهز بالأسلحة التي توفرها لها اللعبة، وعليه أن يوظفها بحرص وإتقان لكي يتغلب على «العدو» المفترض، سواء كان حواجز، أو شخصية وراء الستار تعاكسه وتتربص به، وعليه أن يواجهها ويقضي عليها. صار هذا هو الواقع الذي يفرض نفسه، وكأنه هو جوهر «الفضاء الأزرق» ومحدد التعامل معه من لدن الكثير من اللاعبين والمرتادين. بل إن اللاشعور الجمعي الذي يتفاعل معه صار مسكونا بأنه بشكل أو بآخر «محارب»، يوجه الضربات، أو أن عليه أن يتصيد الإعجاب مثل أي لاعب له جمهور. صار هذا هو جوهر ما تقوم عليه مختلف المنصات العربية التي يمتلئ بها الفضاء الأزرق. لم يبق الأزرق لون الصفاء والانفتاح على ما لا نهاية. صار لون زرقة الكدمات هو السائد، وما عليك سوى أن تطبعها على الأوجه والأرجل معا لأن في قلبك غصة ما، وأغلب الغصص ذات خلفية نفسية مرضية، أو سياسوية إيدلويوجية، أو طائفية عرقية. فكانت المعارك والمتنافسون من كل الجهات، والحروب على أشدها، وكل ينفس عن نفسه بما يحققه من كدمات، أو بما تجلبه عليه من لقيمات يواجه بها ما يفرضه عليه الواقع الذي يهرب مما يفرضه عليه من ألوان حمراء داكنة. وما دمنا أمام لعبة إلكترونية بشرية، فإن الجمهور الذي يرتاد هذه المنصات عليه أن ينخرط في هذا الفضاء، متفاعلا مع ما يمت بصلة إلى أهوائه ونوازعه. وما الذباب الإلكتروني سوى ذاك الجمهور المشاغب الذي ينهال على العدو بهدف النيل منه وإيقافه عند حده. يبرز لنا البعد اللعِبيّ (Ludique) من خلال هذه المنصات في كونها تحاول تعويض ما تعاني منه في الواقع، أو تستثمر «افتراضية» هذا الواقع للتعبير عن همومها وهواجسها بشكل مرضي. أتذكر أننا عندما كنا صغارا ندخل إلى المراحيض العمومية فنجدها ملطخة بالتعابير والألفاظ والصيغ الدعائية التي يستحيل إطلاقها في الواقع. ولقد كان توظيف هذه الأماكن أيضا جزءا من «اللعب» الطفولي. ليس اللعب، كما هو الأصل، فقط متعة وفنا وترويحا عن النفس. إنه أيضا صراع يتخفى وراء الخضوع لفن اللعب، أو استغلاله بدعوى أنه لعب. بل إنه يمارس كذلك للكشف ليس عن الأقوى والأذكى، ولكن أيضا عن المخاتل والمخادع والكذاب. نعاين من بين مظاهر ممارسة هذا اللعب الحرب افتعال الصراعات حول المسائل التي لا علاقة لها بالواقع الفعلي. وحين أقارن بين المنصات الأجنبية وما تزخر به نظيرتها العربية أجد فرقا كبيرا بينهما. لا يمكن في المنصات الأجنبية ألا تخرج بفكرة، أو طرح جديد، أو معلومات متجددة تتعلق بالواقع الذي نعيش فيه. وحتى عندما يتم تناول الماضي تجد نفسك أمام تحليلات عميقة، وأفكار دقيقة مقنعة ومبنية على أساس البحث والاستكشاف، وبطريقة بسيطة لا تعقيد فيها. بينما تجد نقيضها في منصاتنا حيث يبدو لك الكذب، والجهل ليس فقط من خلال ما يُقدم، ولكن أيضا من خلال طريقة أداء اللاعب الذي يبدو لك مهزوزا ومتهافتا. ويكشف هذا الاختلاف أن من علامات تأخر الأمم والشعوب عدم قدرتها على فهم موقعها وواقعها الذي تعيش فيه، ولذلك تلفاها عاجزة عن الانطلاق منه لتشييد مستقبلها، فتعوضه بممارسة لا علاقة لها بالأسئلة الحقيقية والحارقة التي تفرض عليها تحديات خطيرة لا حصر لها، تتعلق بحاضرها ومستقبل أبنائها. أمام ندرة المنصات التي تقدم لك قراءات عميقة حول واقعنا الاجتماعي والثقافي والسياسي لا تجد سوى استنساخ بعضها البعض، وتكرار المواقف والتصورات الجاهزة التي لا تصمد طويلا أمام التحولات السريعة والمتلاحقة. وبالمقابل تجد المنصات التي لا تهتم إلا بالنبش في القبور، وتعرية الموتى الذين قضوا منذ قرون، وكأنهم لم يتوفوا إلا بالأمس، فتجد من يدخلهم الجنة، أو يقذف بهم في نار جهنم، ومن يدافع عنهم، أو يتهجم عليهم. أليست هذه لعبة إلكترونية بشرية تستعيد خلق أجساد انتهت، وتحييها «افتراضيا» وتحاربها مدعية الانتصار عليها، أو الأخذ بثأرها. وإلى جانب نبش القبور، وإحياء الموتى، نجد الذهاب إلى التاريخ البعيد متخذة إياه لعبة إلكترونية يعمل كل طرف على اصطناع «عدو» يعمل بكل ما أوتي من الحجج والبراهين، لإثبات أنه على غير ما هو معروف، أو أنه التاريخ «الحقيقي». لقد صار الدين والتاريخ مادة للعب الإلكتروني الذي يسعى كل طرف إلى جلب جمهور واسع للتصفيق له أو التصفير عليه. وعندما أقول عن هذين الموضوعين بأنهما صارا لعبة لأنهما من الموضوعات التي لا يمكن أن يتحدث عنها سوى أهل الاختصاص. إنهما معا يقدمان المادة الجاهزة التي يستغل، كل من هب ودب، ما يروقه منها ليؤوله حسب مزاجه ورغبته. وحين يتم الاستئثار بهذين الموضوعين تجد الجمهور المتعطش للعب منخرطا في التشجيع وإعلان الانتماء والانحياز والانتصار. أتذكر في حلقات زمان كيف كانت الحلقة يقسمها أبطالها قسمين. كل قسم يدعي طرف من الجوقة أنه لقبيلة. فيقول أولهم: هذه قبيلة دكالة. وعلى أهل دكالة أن يبرزوا كرمهم وعطاءهم. ومتى حصلت على مقدار من المال منكم، أركب على صاحبي. ويقول الآخر وهذا قسم عبدة، فاجعلوني أركب عليه. ويتسابق الجمهور المحلق في كل قسم من الحلقة على الانتصار لقبيلته. وتكون الفرجة، ويكون اللعب. وتنتهي الحلقة وقد استمتع قاصدوها بالضحك واللعب الحلال. أما اللعب الإلكتروني الذي يطغى على الفضاء الشبكي المقسم حسب الموقف من الدين والتاريخ فحرب إلكترونية طائفية وعرقية ومذهبية. أشبه تأخر الأمم وتخلفها بالشخص الذي يعيش فترة الشيخوخة، وهو في أرذل العمر حيث كل المصائب والأوصاب محيطة به. إن هذا الشخص لا يفكر إلا في طفولته مستحضرا ما يتوهم أنها كانت «الزمن الجميل». أما الأمم المتقدمة والمتطورة فتعيش فترة الشباب التي تفتح أعينها على آفاق مستقبلية بعيدة، وهي تتطلع إليها بدماء جديدة، وتخطيط عميق. إن اللعب الإلكتروني المبني على نبش القبور، وإحياء الموتى وادعاء صناعة التاريخ لا علاقة له بصناعة المستقبل، وسيظل يدور في دائرة الأوهام والصراعات.