«دخلنا عصر الشاشة بوصفه ثورة تقنية وأخلاقية لا تشكل ذروة "مجتمع الفرجة" وإنما تعلن عن نهايته»ريجيس دوبريRégis Debray موضوعة "السينوغرافيا" ما تزال موضة الملتقيات الفكرية حول المسرح؛ لكن فقط في العالم الناطق بالعربية؛ حيث غالبا ما تقدم باعتبارها الاختراع الأخير للمسرح بعد النص والإخراج. والمفارقة أن ذلك يحدث في وضع عالمي يتسم بموت الواقع (بودريار) ونهاية الفرجة (دوبري). هذا أمر طبيعي بالنسبة لثقافة عربية تزداد تقوقعا على الذات، وممارساتها الفنية التي تزداد الهوة اتساعا بينها وتحولات العصر. والمحصلة دوما ما تمس العارض دون التعمق في الجوهر، وليس الجوهر سوى مفهوم التمثيل نفسه؛ باعتباره خريطة، أو تصميم لإظهار الواقع، بغية تحديد طريقة عمل الحدث (المعنى). التمثيل مثلما يتحقق في الفن فهو متحقق أيضا في كل مجالات الحياة الأخرى؛ من سياسة واجتماع واقتصاد. وفي الفن ظل التمثيل الذي عماده اللون وسنده السطح يتحقق ضمن تسطيح من خطين: طول وعرض، مع خلق إيهام بالعمق. غير أن تطور مفهوم الخشبة المسرحية منذ عصر النهضة هو ما سيتيح للفنان استغلال الأبعاد الثلاثة للمساحة، ومن ثم، الانعتاق بالفن من حدود السند التقليدي الذي طالما افتقد لعنصر التزمين. كانت المساحة الفارغة هي ملتقى أشكال التمثيل الفني بامتياز، وخير تجسيد لانحلال السطح (اللوحة) ضمن المساحة (الخشبة). من هذا المنطلق كان طبيعيا أن تنوجد العلاقة بين الفنان التشكيلي ومصمم المناظر المسرحية ضمن مجال تقاطع حقول عديدة؛ القاسم المشترك بينها هو التمثيل، أي: كيفية صناعة الصور: معمار- هندسة- تخطيط- تأثيث داخلي Décoration..؛ بحيث لم تولد مهنة مصمم المناظر المسرحية إلا من التزاوج بين المهندس والرسام؛ صورية المعمار وإشارية التشكيل. ومع نشوء المجتمعات الصناعية في القرن التاسع عشر، سيقع التمثيل الفني تحت إغواء فتنة التطابق مع الواقع الصناعي الجديد، ما سيحكم على الصورة الذهنية بالتواري نهائيا لصالح ما هو مرئي بالأساس، ومن ثم، فالعلم ومنجزاته هو من سيضفي على العلاقة بين التشكيل وتصميم المناظر طابع الواقعية، الوظيفية والمنفعة؛ حتى قبل ظهور السينوغرافيا بقرن من الزمان. في نفس اللحظة التي بدأ فيها المنظر الطبيعي Le payasage في الرسم الزيتي يتهاوى أمام ضربات المدرسة الانطباعية الجديدة التي نجحت في فك انغلاق البصري؛ كانت الخشبات المسرحية بدورها في طريقها لدحض النزعة الطبيعية والحسم مع التصورات الموغلة في الواقعية لكل من المسرح الحر Le Théâtre libre لمبتكره أندري أنطوان؛ أو ما عرف قبله بمسرح الصالون. ثم جاء القرن العشرون ليعلن عن العصر الذهبي للفنان الطليعي الذي وسع من مفهوم الفراغ عبر تكسير الحدود بين الأشكال؛ وهذا ما جعل من الطليعة الأوربية ملتقى لكل الأشكال والممارسات؛ كما كان السبب الأساس في التمهيد لظهور السينوغرافيا فيما بعد؛ باعتبارها التنظيم السمعي- البصري للعرض الحي. وقد تجسدت ذروة الطليعة في تصميم العرض الأول لمسرحية (في انتظار غودو)؛ بحيث كان لقاء جياكوميتي كأشهر نحات في العصر الحديث وصمويل بكيت كأهم كاتب مسرحي ذروة اتحاد الفن الحديث وتصميم المناظر المسرحية، ليعيد تصريف هذا الفن إلى زمن المرئي؛ فكان ذلك بمثابة تحول من الانصياع للنموذج الجاهز، نحو الانتصار لنظام فني أكثر تجريدية ورمزية. وإذا كان إنجاز جياكوميتي في النحت بمثابة نموذج تمثيلي مبتكر يجب الثقل والامتلاء، لصالح الخفة والاكتفاء بالحد الأدنى؛ فإنه عندما عكس ذلك في اشتغاله على الفراغ الرمادي لعرض (في انتظار غودو) بمسرح بابليون، صار ما وراء التمثيل هو موضوع الفن وهالته في نفس الوقت، كما ارتقت المناظر المسرحية إلى قلب نظام بصري تغدو فيه الصورة هي المرجع. لكن هل يفسر ذلك حقا كيف استقلت السينوغرافيا بنفسها خلال النصف الثاني من القرن الماضي باعتبارها فنا للهجنة؟ ربما كان تحول مفهوم الفضاء في الفن المعاصر من خلال التجهيز (Installation) هو الشرنقة التي خرجت منها دودة السينوغرافيا، لتغير من مفهوم العرض الحي؛ عبر تجارب كبار مخرجي النصف الثاني من القرن العشرين، وهو ما اصطلح عليه في النهاية بالمسرح المعاصر. كان هذا هو العصر الذهبي للفنان الشامل الذي وسع من مفهوم الفضاء وجعل منه ملتقى لكل الأشكال: (صباغة/ برفورمانس/ تجهيز/ رقص/ نحت/ أقنعة/ استعراض/ هابنينج..)؛ ولم يكن كل ذلك ليتحقق لولا ثورة البوب آرت؛ بحيث أضحى لزاما بعدها أن يتحدد وضع المسرح ضمن حالة ثقافية جديدة، وتصور جذري لمفهوم الفن نفسه. استوحى كروتوفسكي Grotowski تقنياته في عروضه القليلة من الكتاكالي، ومعه يوجينيو بارباEugenio Barba الذي طبق كل تنظيراته بشكل عملي؛ ما انعكس بالضرورة على نحت مفهوم الفراغ المادي للعرض المسرحي باعتباره بديلا لفضاءات اللعب في المسرح التقليدي (الإيطالي). وسافر بيتر بروك Peter Brook مع فرقته إلى شيراز ومجاهل افريقيا باحثا عما يسعفه في تقديم شكسبير ضمن مساحات مغايرة استفاد فيها كثيرا من الفنون الإسلامية والإفريقية. وقام مسرح الشمس Théâtre de soleil بمسرحة تاريخ الثورة الفرنسية عبر استعراضات ضخمة قدمها خارج العلبة الإيطالية. لكن فقط مع روبرت ويلسون ستعرف السينوغرافيا توسيعا هائلا في المفهوم والممارسة واللذان كانا محصورين مجرد تنظيم فضاء العرض؛ لتصير هي التصميم السمعي- البصري للعرض ككل. لهذا تحول كل مجايليه مثل: (Castellucci/ Fabre/ Papaiouanou) إلى المزاوجة بين السينوغرافيا والإخراج باعتبارهما وجهان لعملة واحدة؛ حيث رسموا بالجسد، والضوء والموسيقى؛ محولين الخشبات إلى سند فني Support له واقعه الخاص. إذن أين هي المعضلة التي بسببها تم تأبين السينوغرافيا بعد استنفاذها لكل أدوارها؟ تشهد السينوغرافيا اليوم تأبينها بسبب خضوع التعبيرات الفنية المعاصرة لمدار السومولاكر Simulacre الذي تحل فيه النظائر محل الأصل؛ في عصر أصبح يمقت الشيء في نسخته الوحيدة؛ وهو الوضع الذي انتهى بنا إلى موت الفرجة. ويعني ذلك ببساطة أن الخشبات المعاصرة أضحت تكتسي أبعادا جديدة بفضل تقنية بلورة الصورة Cristallisation de l'image؛ بحيث صارت حقل ابتكار خالص للفنانين البصريين، وعرضة لهجوم آلات التصوير والإسقاط Projection؛ فكان ذلك بمثابة القوة الناسفة للدوجمات المشكلة للمسرح حتى عصره الحديث. تأسف واحد من أهم نقادنا المسرحيين منذ أيام، عبر تدوينة كتب فيها: (الممثل هو الخاسر الأكبر من تقهقر المسرح أمام صناعات الفرجة والميديا الجديدة.. المسرح يتحلل ببطء إلى أن يصبح تنويعا رقميا في مشهد فرجوي تكنولوجي تتغول فيه السينما).. ثم بعدها بأيام غرد من جديد: (يتجه المسرح بهدوء نحو حتْفِه الرقمي، سيتحول في النهاية إلى أشباح ممثلين وقد خرمَتْهم الميديا... ولكن ينبغي الحفاظ على نسخة قديمة من المسرح).. هو سعيد الناجي الذي يدرك جيدا بأن القلب كما قال شاتوبريان ينفطر فقط عندما نهجر الأوهام وليس عندما نقطع مع الأمور الواقعية، لقلة ما في الإنسان من حقيقة؛ كما يدرك جيدا بأننا نتواجد اليوم في قلب عصر ثالث؛ هو عصر الشاشات Videosphère الذي يعني تحويل المعارف إلى شيفرات تواصل سمعي- بصري/ تشاركي؛ لذلك وحدها الشاشات الوسيط القادر اليوم على تلبية حاجتنا للترفيه والتثقيف، ما يمحق كل حاجة أو حنين إلى الفرجة.. الشاشات اليوم وليس الفرجات الحية هي الوسيط، والوساطات هي الرسالة.. ألا يعرض واتساب نفسه كخشبة Scène افتراضية بديلة، وسند Support فني جديد.. ؟ من يقاوم اليوم إعراء التيك توك ليدفع مقابلا من أجل فرجة-حية تناظرية؟ ارتباطا بهذا السياق العربي؛ لا شك بان المتابع سيلمس خللا بينا في المفاهيم والتصورات العربية بخصوص تمثل صناعة الخشبات في زمن الرقمي؛ نظرا لافتقاد القدرة على تجسير الهوة مع منجزات الفن الرقمي وأشكاله الجذرية؛ وهذا بسبب التكوين التقليدي لمعظم المعاهد المسرحية العربية؛ وأيضا بسبب استمرار ثقافتنا في الخضوع لمعايير إنتاج الخطاب لا الصورة. لذلك غالبا ما يقدم المسرح العربي نفسه ضمن شروط إنتاج بائدة ومفتقرة للإبداع. ولكن المشكل يكمن في أن استمرار مثل هذا الوضع، سيعيق أية سياسة حقيقية للإصلاح؛ خاصة وأن الاكتفاء بسياسات ترقيعية للإنعاش: (الدعم المادي/ إنشاء بنيات لم تفتح أبوابها في ظل هذا التصور البائد للمسرح؛ أو فتحت وسرعان ما فشلت في التحول إلى مسارح منتجة بحيث تحولت إلى مجرد قاعات للعرض/ تنظيم المهرجانات والمسابقات الموسمية والتي تعني ببساطة تنشيطا لفن لم يرؤتق بعد على مرتبة الصناعة)؛ هذا كله يفتقد لدفق الحياة، ولا يمكنه بأي حال أن يرتقي بممارستنا الفنية إلى مرتبة الصناعات الإبداعية التي لم ندركها بعد. لنضع هذا نصب أعيننا: ما من طريقة لممارسة الفن والابتكار فيه، أكثر من الارتباط بروح العصر؛ وإلا انتهينا إلى الجفاف والإحباط؛ وهو العنوان العريض لواقع المسرح العربي اليوم.