هل أفسدت الجوائز الأدبية التي انتشرت من الماء إلى الماء الأدب العربي وجنت عليه كما جنت "براقش" على أهلها؟ هذا هو السؤال الذي بات يتردد صداه في كل مرة يتم الإعلان فيها عن فائز بجائزة من الجوائز. إلى درجة صار الكثيرون لا يثقون فيها ويصورونها مجرد «ماكياج» يزين به الداعمون لها صورهم الفاسدة. هكذا بقدر ما صنعت بعض الجوائز أسماء وأكدت على جدارتها وساهمت في انتشارها عبر أطراف العالم، بقدر ما ساهمت أخرى "مشبوهة" في تمييع الأدب واللعب بشرفه واصطياد بعض المهووسين بها إلى مائها العكر. وعلى ذلك عوض أن تكون الجائزة حافزا للانطلاق ولفت النظر إلى مبدعين استثنائيين أصبحت مجرد قبر يلقى فيه من يجري وراء البريق الكاذب حتفه فيه. ما قيمة الجائزة إن كانت تصبغ السماء بلون غير لونها وتسوق لأدباء فاشلين لا يهمهم قيمة ما يكتبون بقدر ما يهمهم المال ورنينه والطنين الذي يحدث من حولهم؟ . في هذه الحال سيكون الخاسر الأكبر هو الأدب الحقيقي والأدباء الحقيقيون. في هذا الملف تسلط "المساء" الضوء الكاشف على عالم الجوائز من خلال وجهات نظر مختلفة لكتاب ونقاد مغاربة. صدوق: الهدف المادي نقمة على الأدب يقول الكاتب والناقد نور الدين صدوق بأن الحديث عن الجوائز الأدبية يقتضي «تأسيس التصور من المنطلق الذي يستدعي تحديد وضبط ملاحظات حول هذه الجوائز ، حتى يتأتى - على الأقل - إيفاء الموضوع حقه من حيث التناول الموضوعي. ذلك أن الضرورة تفرض معرفة ما إن كان الأمر يتعلق بداية بالجوائز الرسمية التي تقوم على رعايتها مؤسسة الدولة، أو الجوائز الخاصة، والتي قد تحمل اسم شخصيات وازنة تربطها علاقة وحقل الثقافة والفكر والمعرفة. من جانب آخر فإن المقام يستدعي الحديث عن الجوائز الأدبية وفق بيان ما إن كانت الجائزة فكرية خالصة، أو أنها أدبية محددة في جنس القصة، الرواية، المسرحية أو القصيدة الشعرية. على أن الملاحظة الثالثة ترتبط بالاشتراطات التي يفرضها قانون الترشح لجائزة ما من الجوائز.» ويضيف نور الدين صدوق:»والواقع أن الاستناد إلى التحديد، يجعل الموضوع دقيقا في جوهره وعمقه، وحتى لا يكون التناول مطبوعا بالصبغة العامة. فمن المؤكد ، كون الجوائز لها وضعها الاعتباري، من حيث دعمها المعنوي قبل المادي، والذي يعد رافعة أساس للتحفيز على قوة العطاء ونحو المزيد من الإبداع. إلا أن تحصيل اتفاق حول أحقية عمل ما من الأعمال سواء الفكرية أو الأدبية يظل قائما بحكم كون القراءة والتأويل يفرضان تعددا في الرأي كما في التقييم والحكم. فكم من جائزة أعطيت، وثبت فيما بعد كونها لم تكن محل الجدارة المنوطة بها. إلا أن الامتثال لمقتضيات لجان التحكيم يحتم الأخذ بعين الاعتبار النتائج المنتهى إليها، خاصة وأن المحكمين يتمتعون على السواء بوضع اعتباري، كما بمؤهلات ومرجعيات فكرية وعلمية لا يرقى إليها الشك أساسا». ويلاحظ: «وإذا كان الحصول على جائزة من الجوائز، بمثابة دعم لمسار وتوجه على السواء، فإن هذا الدعم يقتضي أن تتوسع التجربة بوفرة العطاء، وبنقلة وتحول على مستوى المنجز المتحقق، إذا ما ألمحنا لتوسع وتوسيع دائرة التلقي والقراءة، مما يجعل أفق الانتظار قويا. وهذا في الحقيقة لا يتأتى سوى في حالات الثقة الذاتية، والتمكن من مهارات الكتابة والإبداع، إلى مقدرة التجديد والإضافة. وإذا كان هذا البعد في عمقه، بمثابة تحصيل إيجابي، فإن ما يكاد يشكل جانبا سلبيا، كون بعض الأدباء والمفكرين ممن حصلوا على جوائز انتهوا إلى التوقف عن العطاء وكأن الغاية ليست الاستمرارية في الكتابة والإبداع وإنما بناء مجد لحظة والانطفاء المبكر». ويضيف أيضا: «والملاحظ في الراهن، أن العديد من المبدعين والكتاب، قد أصبحوا يبدعون بقصد الحصول - فقط - على جوائز أدبية بل إن منهم من يشارك في أكثر من جائزة وفي توجهات ومسارات لم يعرفوا بالكتابة فيها. ومن ثم فالهدف مادي أساسا، وهي نقمة أدبية ككل. والملاحظ أن توافر كم من الجوائز وبخاصة في دول الخليج، قد أسهم في إظهار العديد من الأسماء التي ظلت مغمورة في بلدانها، لعامل هيمنة الحرس القديم سواء في الأسفار أو الدعوات أو حتى الجوائز، ففي بعض الدول كالمغرب مثلا فإن هذه الجوائز فقيرة جدا، مع توافر العديد من المؤسسات التي توثر دعم الرياضة والموسيقى على حساب الثقافة والفكر والإبداع عموما. ومن المؤسف أن تكون هجرة الإبداع خارج المغرب بهدف النشر، تحوز اعترافا و دلالة وقيمة عنه داخل البلدان التي ينتمون إليها». ويختم: «ينبغي أن تتكاثر الجوائز وتتقوى، وهو حافز عميق لتوسع مسار وأفق الإبداع الثقافي العربي». حليفي:هناك جوائز لصرف الزكوات يقول الكاتب والأستاذ الجامعي شعيب حليفي: «خُلقت الجوائز الأدبية لتحقيق التنافس الأدبي والإبداع على غرار التنافس العلمي الذي يبدو أنه أكثر عطاءً وإبداعا وإنتاجا وتطورا. ولعل أهم مبدأ في كل الجوائز التي نراها اليوم هو المصداقية بخصوص الجهة المعلنة عن الجائزة ومدى جديتها، ثم لجنتي الفحص والتحكيم، وأخيرا النصوص الفائزة. فالجوائز الموجودة الآن في العالم العربي هي إما جوائز الدولة الحكومية التي تُدار بشكل كلاسيكي والقليل من الحرفية في بعض الدول؛ أو جوائز جهات غير حكومية، ذاتية أو معنوية – اقتصادية».. ويضيف حليفي: «وأعترفُ أنني لا أشارك في مسابقات الجوائز الأدبية بنصوصي داخل المغرب أو خارجه (قبل سنوات شارك بعض الناشرين بنصوصي دون علمي ). وأشهدُ أن بعض الجوائز ذات قيمة أدبية محترمة في حين توجد جوائز لا تحصى، في العالم العربي، عليها علامات استفهام» ويجمل ذلك في ما يلي: أولا: جوائز بأسماء أصحابها تدخل في سياق ثقافة الترف والتباهي وكأنها جوائز لصرف الزكوات ،يكون همُّها الأساس خلق شهرة لصاحبها عن طريق صرف المال والإعلانات والبحث عن أسماء «وازنة» في التحكيم والفوز. ثانيا: لجن تحكيم أصبحت متخصصة في الجوائز، والمعروف أنها لا تحترم قواعد التحكيم ولكنها تخضع للكثير من الحسابات، السياسية والأخلاقية والإخوانية، أما الجانب الفني فيأتي لاحقا. بل هناك جوائز تعمل لجنها، أمام إغراء التعويضات والسفريات، على التغاضي عن الترتيبات القبلية التي يهيؤها أصحاب الجائزة وذلك بالإشراف على الإعلان والفرز وترك لائحة قصيرة ومنتخبة للجنة التحكيم. ثالثا: في مثل هذا النوع من الجوائز الأدبية المشبوهة يفوز مشاركون بهوية مجهولة ونصوص ضعيفة، بل نصوص مسروقة. مشاركون من عالمنا العربي يعملون ويكتبون نصوصهم لأجل المسابقات، بل يكتبون في مجالات متباعدة ومنتوعة وأجناس مختلفة ..لذلك تجدهم يتسابقون وينبطحون وراء زكاة وصدقات تلك الجوائز المشبوهة فلا يبدعون من أجل الإبداع ويتوقف الواحد منهم عن الكتابة حينما يعجز عن حصد المسابقات. ويختم حليفي: «وأشير هنا أن أغلب تلك الأسماء نكرة وبدون قيمة تُذكر، كما أن نصوصها، في مراجعة نقدية بسيطة لها، تتضح ضحالتها وخفتها وتهافت صاحبها، وهو أمر مُنكر في جميع الأحوال. ويضيف: «الأمر في هذه الجوائز بات مسألة مادية بالأساس، وللحد من تسلطها وإفسادها للحياة الأدبية .. على لجن التحكيم أنْ تكون من أعضاء مبرزة في مجالها وصارمة في وضع الضوابط والتقييم.كما أن الضرورة تقتضي في الجوائز الرسمية ذات التقاليد الرفع من القيمة المادية وخلق خانات لأنواع جديدة. في النهاية، هناك جوائز تكون سببا في الالتفات إلى مبدعين حقيقيين واكتشاف نصوصهم وأفكارهم؛ وهناك جوائز لا تضيف لبعض المبدعين والمفكرين شيئا؛ وجوائز تكون سببا في موت الشخص/ الكاتب». إبراهيم الحجري: الجوائز لا تخلق كُتابا كبارا من جهته يعتبر الروائي والناقد إبراهيم الحجري أن: «تنظيم الجوائز الأدبية من التقاليد المحمودة والمبادرات الجيدة من بعض الجهات، سواء كانت حكومية أو قطاعية أو خاصة ببعض مؤسسات المجتمع المدني، وهو تقليد يجب أن نثمنه نحن ككُتاب ومبدعين، لما له من دور كبير في التحفيز والتشجيع والدفع بالكاتب والمبدع عموما إلى ارتكاب المزيد من الخطايا، ولعل اللغط الدائر حول الجوائز الأدبية يعود بالأساس إلى طبيعة الجائزة أو المسابقة في حد ذاتها، ما دامت ستقصي أطرافا عديدة وستتوج أفرادا بعينهم، والأكيد أن الأمر سيترك صدى سيئا وإحساسا بالنقص لدى الآخرين المشاركين، مما يولد عزوفا كبيرا لدى البعض عن المشاركة في الجوائز حتى لا يوضعوا في حرج خاصة بالنسبة لمن لديهم إحساس مفرط بالتضخم والأنا والتميز، وإلا فأمر فوز البعض وإخفاق البعض الآخر يعد أمرا طبيعيا بالنسبة لي، مثلما يحصل الأمر في جميع المسابقات الأخرى التي تخص الفنون والرياضة والغناء والطرب وغير ذلك». ولهذا يضيف الحجري: «يجب أن تكون الجوائز الأدبية مفتوحة للجميع، وأن يتقدم إليها من يهمه الأمر، حتى لا يحس بالحرج. وأن تلغى مسألة ترشيح الهيئات والمؤسسات لبعض الأسماء دون العودة إليهم. وسيكون في الأمر تحقيق لتكافؤ الفرص والانزياح عن المغالطات. وإذا كانت بعض الجوائز الإقليمية أو الجهوية أو الوطنية الخاصة ببلد معين ما تزال تعاني مشاكل عدة مادية ومعنوية مما يجعلها أحيانا عرضة للاستهجان والقيل والقال، فإن جوائز أخرى تغلبت على هاته الصعوبات بفضل ما يرصد لها من إمكانيات متاحة مما جعلها تراكم إشعاعها من دورة إلى دورة ومن جيل إلى جيل. خاصة تلك الجوائز ذات الصبغة العربية والدولية مثل جائزة الشيخ زايد وجائزة الشارقة للإبداع العربي وجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي وجازة دبي وجائزة الطيب صالح وجائزة البوكر للرواية العربية وجائزة البابطين وجائزة أبي القاسم الشابي وجائزة مفدي زكريا.. فهاته جوائز لها صيتها العربي والعالمي، ولها إمكانيات تتزايد يوما عن يوم، ومنظموها اكتسبوا تجربة متزايدة وحنكة على مستوى التنظيم وانتقاء لجان التحكيم من ذوي الاختصاص والتأهيل المناسب، ومراحل التصفيات ووضع معايير دقيقة تحتكم إليها اللجان ومنح هاته اللجان مدة زمنية كافية لتقويم العمل». ويلاحظ الحجري أنه: «وإذا كانت أحيانا تقع بعض الأمور التي يتحدث عنها الإعلام تسيء إلى هاته المبادرات وتطعن في مصداقيتها لدى الكُتاب والرأي العام، فإن التعميم مجحف في كثير من الأحيان، ويجب التريث قبل إطلاق الأحكام بشكل متسرع. إن الأساسي في هاته المبادرات ليس التفضيل بين الكُتاب أو الأعمال الأدبية وتبيان الجيد من الرديء فيها، بل الأهم هو خلق حراك حول هاته الأعمال وسجال بينها، ولفت انتباه العموم إلى ظاهرة فن الكتابة، مثلما تُصرف الملايير حول الفن التافه وثقافة التمييع وهز البطن وغير ذلك مما لا يفيد الهوية الثقافية في شيء. العكس هو الذي يجب أن يكون، وهو أن تميز الكتابة عن باقي الفنون ويكثر عدد تداول الكتاب والإبداع، وعدد التظاهرات، وعدد الجوائز، ويخصص لها الإعلام نصيبا كبيرا للترويج والاحتفاء. الأمر المحزن هو أننا بدل أن نشجع المبادرات ونطالب بالمزيد فنحن نسعى إلى هدم الموجود». ويختم الحجري قائلا: «ندعو الجهات التي تحتفل بالفن الساقط وتخصص له الملايير للترويج إلى أن تخصص جزءا من هذا المال للفن الراقي التي تعد الكتابة جزءا منه. وأن ينخرط الكتاب في خلق هذا الحراك لتشجيع الكتابة كفعل وكقيمة وتكريسها لدى العامة والخاصة، ورفع الحيف الإعلامي حول ظاهرة الكتابة والكتاب. علما بأن الجوائز لا تخلق كُتابا كبارا ولا تؤزم وضعا ثقافيا ولا تنتج نصوصا كبرى، ولكنها تسعى لحفز معنويات الكُتاب، وخلق حوار حول الظواهر النصية والتعريف بجيل الكُتاب ورفع الوضع والاعتبار لفعل الكتابة داخل المجتمع». نور الدين صدوق /شعيب حليفي /إبراهيم الحجري الدايم ربي: كثير من الكتّاب رفضوا هذه «الرشوة» تلافيا لتلطيخ سمعتهم وسمعة أقلامهم يرى الكاتب الحبيب الدايم ربي بأن: «إحداث جائزة لتشجيع الثقافة والإبداع في أي زمان وأي مكان، وبغض النظر عن الحيثيات والتأويلات، لهُوَ أمرٌ محمود وإيجابي. وهو حين يحدث في راهن مجتمعنا العربي، الذي نادرا ما يتم الالتفات فيه إلى الثقافة و«الثقافي» وسبل الارتقاء بهما، باعتبارهما صناعة استراتيجية ثقيلة بدونها لا تنهض الأمم والشعوب، قد يشكل في حد ذاته حدثا، من شأنه أن يأخذ أكثر من دلالة، خاصة وأن رعاية الثقافة والفن- في شكلهما الرفيع- في العالم العربي، وبالنظر إلى تنوعه الجغرافي وعراقة تاريخه وممكناته الديموغرافية وطاقاته الإبداعية، ما تزال دون الحد الأدنى المأمول، إذ جرت العادة أن يتم الاحتفاء بأشخاص لا وزن لهم، في مطلق الأحوال- والإنفاق على تظاهرات ومهرجانات صورية قد تسيء، في بعض الأحيان، إلى الجهات الراعية نفسها وإلى بلدانها، دون إغفال طبيعة الأعطاب التي قد تعاني منها التظاهرات المسماة- لأمر ما- ثقافية وإبداعية، التي تحتضنها بعض الدول والمؤسسات الرسمية، سواء في سبل صرف الدعم أو في انتقاء(وتعيين) أعضاء لجان التحكيم وتوجيهها، أو في إسناد الجوائز لأطراف بعينها، قصد جبر الخواطر أو شراء الذمم والولاءات، وهذه حقيقة ليس من السهل تفنيدها، ناهيكم عن المقادير الهزيلة والمهينة التي تمنح للفائزين من الكتاب والمبدعين، وهي عندما تكون مغرية فإنما لأغراض لا تدخل الثقافة في حسابها ولا الفن، أو على الأقل لا يكونان ضمن أولوياتها المصرّح بها، حتى أن كثيرا من الكتّاب رفضوا هذه «الرشوة»، لهذا الاعتبار أو ذاك، تلافيا لتلطيخ سمعتهم وسمعة أقلامهم، معرّضين أنفسهم لتبعات هذا الرفض (نذكر، للتمثيل، رفض الكاتب المصري صنع الله إبراهيم لجائزة المجلس الأعلى للثقافة بمصر سنة 2003، ورفض الكاتب المغربي أحمد بوزفور لجائزة الكتاب، التي تمنحها وزارة الثقافة المغربية، سنة 2004، ورفض الكاتب الإسباني خوان غويتسولو لجائزة الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي سنة 2009، وغيرهم، علما بأن جائزة «نوبل» نفسها- وعلى جلال قدرها- لم تنجُ من الرفض والانتقاد). لهذا فغالبا ما وجدنا أدباء كبارا ومفكرين، لهم رصيدهم من التقدير والاحترام، فضلوا الخلود إلى عزلتهم القاسية موثرين الانزواء في الظلال بدل التعرض إلى أضواء الجوائز، الحارقة والمشبوهة، تاركين المجال للطفيليين والانتهازيين الذين كانت فقاعاتهم سرعان ما تنطفئ بمجرد تسلمهم شيكاتهم أمام وسائل الإعلام.» ولكن وفي ظل هذا الواقع، الذي لا يرتفع، يضيف الدايم ربي: «وُجِدَت ْهناك استثناءات، تضمر طوايا حسنة. لكنها ظلت تصطدم بعراقيل جمة، في إنشاء جوائز تليق بالثقافة والمثقفين، وتخفف من حدة الصور النمطية التي ترسخت في الأذهان عن أي مبادرة قد تأتي من جهات تنتمي إلى عوالم السلطة أو المال والأعمال، ولعل من بين هذه التحديات تلك التمثلات التي رافقت تاريخ العلاقة المتوترة بين السلطة- بمختلف تمظهراتها المادية والرمزية- من جهة، وبين المثقفين من جهة أخرى، خاصة في الوطن العربي. والحق أن ظهور جوائز رسمية وأهلية، مؤخرا، في العالم العربي، من قبيل جائزة خادم الحرمين، وجائزة سلطان بن علي العويس، وجائزة السلطان زايد، وجائزة السلطان قابوس، وغيرها من الجوائز، لا يمكن إلا أن ينظر إليها، مبدئيا، بعين الرضا. وهي، في كل الأحوال، وعلى أهميتها، غير كافية لخلق حراك ثقافي وفكري يستجيب للتطلعات المنشودة، فما أحوج ساحتنا الثقافية المعطاء إلى مزيد من الاستثمار في الخيرات الرمزية ورسْمَلة العنصر البشري المبدِع في أفق الإسهام في بناء مجتمع المعرفة والفنون. من ثم فإن إنشاء جائزة(بَلْ جوائز) جديدة يبقى مفيدا ومطلوبا على الدوام. شريطة أن تصاحبه رؤية استشرافية تضمن له جدواه ومغزاه. حتى لا يغدو الأمر مجرد تضايُفٍ كمّي للجوائز- وهو مسعى محمود مع ذلك- وإنما فائض قيمة له أثره المباشر على الثقافة عظيم». الحبيب الدايم ربي معمار الرواية وعمران المدينة في «ممر الصفصاف» للمديني حكاية الكلب «جاك» القادم من سيدي يحيى الغرب إلى حي الرياضبالرباط حين انتهيت من القراءة الأولى للرواية الجديدة لأحمد المديني "ممر الصفصاف" (الصادرة عن المركز الثقافي العربي 2014)، شعرت مباشرة بالحاجة إلى إعادة قراءتها مرة ثانية، وتذكرت حينئذ ما أشار إليه الكاتب الإسباني خوان غويتسولو في إحدى مقالاته اللافتة، التي اعتبر فيها الشعور بالحاجة إلى إعادة قراءة نص انتهينا للتو من قراءته الأولى، مؤشرا دالا على عدم قابليته للقراءة السهلة والمريحة، السريعة والمستهلكة، أي عدم قابليته لنوع القراءة التي تتخلص من مقروئها فور الانتهاء منه، فلا تلبث أن تنساه لكونه لم يخلف بصمات غائرة في وجدان القارئ أو في إدراكاته وتمثلاته. لكي يكون النص الروائي كذلك، يفترض أن يتحدر بدوره من صدع مكين، أو ينبثق من انفلاق غائر، يجعل الكاتب محمولا أو»مرغما» على كتابته، أي مدفوعا إليها بقوة عمياء لا ترد، وبإغراء لا يقاوم. حينئذ لا يعود الكاتب سيد نفسه أو مالك قراره، بل يصير منتزعا من ذاته ومن اكتفائها المزعوم، مشدودا إلى نداء يلح عليه، يأتيه من «خارج»، يخترقه كالسهم الحاد، فيصير مداهما بغيرية تباغته وتجتاحه، تخل بتماسك ذاته وتفلق صلابتها المتوهمة. أما في سياق رواية «ممر الصفصاف»، فإن ما استدعى الكتابة، وحمل الكاتب عليها، هو حدث اشتباك عيني الكاتب بعيني كلب شريد وتائه في نظرة كثيفة، مشحونة بإدراكات وأحاسيس لم يقو الكاتب على مداراتها أو تجاهلها، إذ احتوته لوعتها وداهمه إلحاح ندائها، فدفعت به رأسا، ومن حيث لا يدري، إلى الكتابة، مخالفا بذلك الوعد الذي سبق أن ضربه مع نفسه في إحدى رواياته السابقة «رجال ظهر المهراز» (منشورات أحمد المديني 2007) بالكف عن الكتابة والتوقف عنها بسبب يأسه من وضع القراءة في بلاد لم تعد تعير للكتاب أدنى قيمة. الأمر الذي يؤكد فرضية الكتابة التي لا يصدر الإقبال عليها، أو العدول عنها، عن قرار ذاتي محض، بل يصدر عن لقاء استثنائي يحمل الذات على الكتابة حتى وإن قررت الكف عنها: «وجده أمامه، قليلا على الناصية، واقفا منفرج القائمتين الأماميتين، متراخي القائمتين الخلفيتين، بادي الإنهاك، ضائعا أو كالضائع، شريدا أو كالشريد لا يتقدم، ولا يرجع إلى الوراء، هو من هذا المكان ولا منه، لأنه يوجد هنا بالضبط، تفهم أنه ليس ضالا، فلا أحد يطارده مثل كل الضالين أو لم يبق أحد حتى لينتبه إلى وجوده. أحس أن عينيه بوابتين ما تنفكان تضيقان لتنغلقا على من يحاول العبور منهما، وهو الآن، وخاصة بعد سماع قصة لعظم، في حاجة للعبور إلى الجهة الأخرى نحو حي الرياض، إذ في هذا اليوم بالذات، قرر أن يشرع في كتابة الرواية الجديدة التي تنغل في مخه منذ أشهر، وبها سيحنت، وسيدفع كفارة بعد أن أقسم أن «رجال ظهر المهراز» ستكون روايته الأخيرة». ص47. الحيوان الشريد «جاك» لقد حملت نظرة الحيوان الشريد الذي وضعت له الرواية اسم «جاك»، كل معاني الألم والخذلان، واستبطنت كل مظاهر القسوة التي يمكن أن تخبئها الحياة حين تصبح حظا عاثرا وحسب، لكائن معزول وهش، طريد ومتوحد، يمضي سواد يومه في البحث عن مأوى يؤويه ليلا، وعن فضلات نادرة يسد بها رمقه، احتوتها أكياس قمامة رمت بها ساكنة شحيحة ومقترة. وقد تداعت هذه النظرة، حين التقطتها الكتابة، الروائية تحديدا، سيرة تخييلية، لحيوان قدم من قرية سيدي يحيى بالغرب المغربي، بعد أن تخلى عنه أصحابه الذين هجروا من بلدتهم بسبب الجفاف، فيما مضى هو وحيدا في رحلة طويلة، محفوفة بالضنك والجوع، كي ينتهي المآل به إلى حي الرياضبالرباط الذي كان على وشك البناء والتشكل. بذلك، تكون النظرة، أي الرحم الذي ولدت منه الرواية، قد تفتقت عن سيرة غريبة ومدهشة للكلب جاك، الذي تحول في الرواية إلى منظور واسع، نكتشف من خلاله، إلى جانب منظورات أخرى، مكانا ووجودا بشريا حالا به، في سيرورة تكونهما وتشكلهما. إذ يعتبر منظور الحيوان «جاك»، إلى جانب منظور بلعيد، الشخص القادم من دوار هامشي، دوار الحفرة بضواحي مدينة الرباط، للعمل حارسا بورشة بناء مسجد كبير، قبل أن ينتهي مطرودا من عمله رغم خضوعه وتمسحه بصاحب المشروع؛ ثم منظور غانم، الكائن المتوحد الذي هو في الآن ذاته كاتب الرواية (كاتبها التخييلي)؛ أقول تعتبر هذه المنظورات وغيرها، منافذ تسمح بمعاينة المكان في أطوار تشكله الأولى، وأطوار تعاظم بنيانه وتنامي عمرانه، وتدفق جموع بشرية على مساكنه وعماراته، هي أصناف خليطة ومتنوعة من فئات وسطى (موظفو الإدارات)، وفئات مضاربة في العقار وانتهاز فرص الربح السريع، وفئات المتدينين الزائفين، فضلا عن فئات البدو التي أشاعت سلوكات البداوة في أحياء المدينة، تحتل أرصفتها وشوارعها لتمارس مهنا صغرى تؤمن بها حياتها الفقيرة. ومن هذه الزاوية، يمكن القول إن رواية «ممر الصفصاف» قد أعادت لحم كتابة الرواية (معمارها) بجسد المدينة، وبعمرانها الحي، يمثلها هذا الحي الكبير، حي الرياض الذي أنشئ بعيدا عن المدينة القديمة، ليصير حيا عصريا يحمل معالم المدن الحديثة بحشودها البشرية الهجينة والمتنافرة، وبعمرانها الزاحف على الأراضي الخصبة والملتهمة للمساحات الخضراء. والرواية بصنيعها هذا، عمدت إلى رسم لوحات ناتئة ومقعرة لهذه التشكلات البشرية والعمرانية، تكشف من منظور هزلي في الغالب عن سلوكات منحطة، طافحة بالأنانية والانتهازية، والاحتراس المرضي من الآخر، والنبش في أسراره وخفاياه، و التلفع بقيم التدين الزائف. صداقات المنبوذين لقد اعتمدت الرواية من بين منظورات أخرى عديدة، منظورين أساسيين، قرنتهما بخطابات ولغات مخصوصة، منظورين لا يلتحمان ولا يتطابقان مع المنظورات السائدة والغالبة، بل يقيمان بعيدا عنها، يفضحانها ويهزآن من أعطابها السلوكية واختلالاتها القيمية. وإذا كان أحد هذين المنظورين قد جسدهما كما أشرنا سابقا الحيوان جاك، الذي اكتسى في الرواية ملامح شخصية مكتملة بنمط عيشها وبوعيها الحاد بذاتها وبما يحيط بها، فإن المنظور الثاني جسده غانم، شخص ظل برغم مخالطته لسكان حي الرياض، مستقلا بحياته الخاصة، التي لا تشبه في شيء حياة ساكنة الحي المنكفئة على ذاتها والنابذة لغيرها. ولهذا السبب، ظل مثار ارتيابها لكونها لا تطمئن إلى شخص اختار أن يعيش مختلفا عنها، وأن لا يقاسمها نمط حياتها، أو يشاطرها بلاهتها، بل إنه اختار أن يصادق بدلها، كائنات حيوانية، يعتني بها ويحنو عليها ويرأف بها. لذا أضحى غانم، شأن جاك، يحيا وضع المبعد والمنبوذ والغريب، وضعا أذكته الإشاعات التي ارتابت في تدينه بسبب انتقاده الجريء لمظاهر التدين الزائف وللسلوكات الفاضحة والجشعة لمن يدعون الالتزام به. لقد مثل غانم إلى جانب ذلك محفل الكاتب، الصنو التخييلي للكاتب الحقيقي، «أحمد المديني». لذا لا غرو أن تتهمه جهات غامضة بانتحال اسم غيره، وبالشطط في الخيال، واختلاق الأحداث وابتداع الأمكنة، فعمدت في نهاية الرواية إلى طرده من مكان إقامته، بل ومنعته من استعادة أوراق كتابته، أي من استعادة روايته المخطوطة «ممر الصفصاف». بذلك يجسد غانم فعالية الكتابة، باعتبارها فعالية منفصلة، لا تتواءم ولا تتطابق، بل تنفصل وتتغرب، إنها فعالية لا تكف عن الإخلال بالانتظام المألوف للأشياء، ولا تمتثل للحدود الفاصلة بين الواقع والخيال، ما يستعدي ضدها السلط الظاهرة أو الخفية، الحريصة على الاحتفاظ للخطابات بنظامها المعهود، وللأشياء بترتيبها المفروض. وقد عمدت الرواية إلى اللعب بمحافلها، تخييلية كانت أم واقعية، بما يبقيها متأرجحة على التخوم الواهية بين ما يعد خيالا وما يعد واقعا. فجعلت كاتبها (الواقعي)، أحمد المديني، يتسلل أحيانا إلى داخل عالمها المحكي، كي يحل بعض مشاكل تأليفها مع شخصياته، فيما أوقعت غانم في أحابيل تخييلية مطبقة، انتهت به متلبسا بتهمة انتحال اسم الكاتب «الحقيقي» للرواية. لقد مثلت الرواية في أحد جوانبها الباتوسية، سيرة صداقة بين شخصيات هامشية ومنبوذة، بين غانم والحيوانات التي تحفل بها الرواية، الكلب جاك خاصة، وقبله القط هشام. وتعد هذه الصداقة من طبيعة الصداقات التي تجمع بين الغرباء وتؤالف بين المنبوذين، تتقوى بمشاعر التجاوب والتضامن في وسط مترع بالقسوة والعنف والجحود والخذلان. ومن الدال أن لا تنشأ صداقات بين الكاتب غانم وبين غيره من البشر، بل نشأت حصرا بينه وبين كائنات حيوانية، جعلتها الرواية تتحلى وبخلاف الشخصيات الإنسية، بصفات الوفاء والإباء والكرامة برغم شظف العيش وقسوة الحياة. بل لقد أضفت الرواية على الشخصيات الحيوانية عمقا وجدانيا وحسا «إنسانيا» رفيعا، لا نعثر على نظير له في سيرة الكثير من شخصياتها الإنسية: «لا شك أنت عندي أشرف من بوجمعة، من مول البركة الدجال، من جيران متكومين على مكرهم وأخلاقهم المغشوشة، بل أصفى سريرة من خطيب يوم الجمعة.. لا أعرف من هو بالضبط، بسبب الخطب العديدة التي تصلني من كل اتجاه، لا يتقن إلا الوعيد والنذير، ويرسلني إلى يوم الحشر قبل الأوان، بينما أنا متأكد بأني صافي السريرة مثلك، بلا سيئات، أو إن حسناتي يذهبن سيئاتي، التي لا شك يتربص بها سكان الحي عدا، وفرزا وتقويما، من بينها علاقتي بك أنت على الخصوص، أنت عندهم مخلوق نجس، وعندي أنك أطهر من كثير أنا أدرى بنجاستهم» 309. نورالدين درموش عودة سينما المؤلف من خلال مهرجان «كان» يعتبر مهرجان كان من أهم المهرجانات العالمية التي تعطي لسينما المؤلف المرتبة الأولى في كل الأقسام الرسمية المعروضة، سواء على مستوى المسابقة الرسمية، التي يحلم بها كل المشتغلين في مجال الحقل السينمائي، والتي يكفي أن يرشح لها الفيلم لترفع من قدر الفيلم والمخرج معا، أو قسم «نظرة أخرى»، الذي يشبه في قيمته المسابقة الرسمية، والذي عرض ضمنه فيلم «ملح الأرض» للمخرج الألماني فيم فاندرس، أو قسم «خارج المسابقة «، الذي تعرض فيه أفلام لها قيمة عالية قد تفوق أو تساوي أفلام المسابقة مثل فيلم «العودة إلى البيت» للمخرج الصيني جانغ ايمو، الذي سبق أن فاز بالسعفة الذهبية، أو فيلم «الرجل الذي نحبه كثيرا» للمخرج الفرنسي أندري تشيني، ويوازي هذا القسم قسم «العروض الخاصة»، الذي يقدم أفلاما تتميز براهنيتها أو بجدة مواضيعها، وقد عرض خلال هذا القسم الفيلم السوري «ماء الفضة» للمخرج أسامة محمد، الذي يصور فيه تبادل الرؤية بينه وبين المخرجة الكردية الشابة وئام سيماف حول الهنا والهناك، وحول ما فعلته الثورة والحرب بسوريا، هذه الحرب التي خربت الوطن والإنسان. ومن أهم الأقسام الأخرى والتي لا توجد بالكاتالوك الرسمي، ثلاتة أقسام أخرى تنظمها مؤسسات أخرى تهتم بالحقل السينمائي وتشتغل فيه، وترعى في اختياراتها النبوغ الفني لسينما المؤلف المستقبلية لدى المخرجين الشباب، وهي قسم «الكاميرا الذهبية»، الذي يختار الفيلم الأول لمخرجين متميزين من حيث الموضوع والكتابة السينمائية والرؤية الذاتية. وقسم «أسبوع المخرجين « الذي تنظمه جمعية المخرجين الموزعين ACID، التي تتابع هذا النوع من الأفلام لإنعاشه وتوزيعه عبر قاعات خاصة، ليصل إلى جمهور نخبوي يحتاج إلى أفلام تثير النقاش والتبادل الفكري والفني . وفي الأخير هناك «أسبوع النقاد» الذي ينظمه ويشرف عليه مجموعة من النقاد السينمائيين الذين يصاحبون هذه الأفلام وينتجون حولها خطابا نقديا موازيا يرفع من قيمتها الفنية والتيمية والفنية، عبر الجرائد والمجلات المتخصصة في النقد والآداب السينمائية. إن المؤسسة السينمائية كما هو معروف آلة صناعية تنتج أفلام الفرجة والتسلية. وقد أثبتت هوليود وبوليود وهونغ كونك والقاهرة، ذلك منذ بداية القرن العشرين إلى الآن، وقد طورت هذه الصناعة أدواتها التقنية والتكنولوجية من اجل إدهاش الجمهور وإشباع رغبته في التطلع إلى الجديد في مجالي الفرجوي والمدهش، وقد استطاعت سينما التسلية أن تجعل المتفرج يندهش بالدخول وسط الأحداث من خلال تكنولوجية البعد الثالث 3D، التي خلقت عوالم وشخصيات وألعابا افتراضية، تستفز حواس المتفرج، وتشعل نهم حب استطلاعه. وإذا كان هذا النوع من السينما ضروريا لخلق سينما الجماهير التي تسعى إلى الحلم والسفر والاستيهام، فان سينما المؤلف ضرورة فنية وفكرية وجمالية وحياتية. إن تاريخ سينما المؤلف بدا كرد فعل على «صناعة التسلية» وإغراق الحياة السينمائية بأفلام كان النقاد يطلقون عليها تسمية «السينما التجارية» أو السينما الهوليودية. وقد كانت الواقعية الإيطالية الجديدة هي الحركة الفنية والسياسية التي أخرجت الكاميرا من الاستوديو، وجعلتها تصور الواقع الايطالي البئيس ،الذي حولته الحرب إلى خراب، كما استغنت عن أناقة الممثلين، وعن ترف الحياة، لتصور شخصيات واقعية أو شبه واقعية، لكسر الحاجز بين الواقي والتخييلي، وفتح عين العقل والوجدان من خلال النقد والتعرية والإدانة وتوعية الناس بأوضاعهم الاجتماعية ومصيرهم الإنساني المشترك. وقد واجهت أفلام روبرتو دو سيكا وروسيلليني وفلليني فاشية موسيليني، الذي بنى مدينة السينما «سينسشيتا» لإعادة بناء مجد روما ومجد الفاشية. وقد استطاعت جماعة من الشباب الملتفين حول مجلة «دفاتر سينمائية»، تحت رعاية اندري بازان، الأب الروحي لحركة الموجة الفرنسية الجديدة، أن يقفوا في وجه سينما فرنسية رديئة تسعى إلى التنويم والاستهلاك السلبي والإفقار الخيالي. لقد خرج ترفو وكودار وريفيت وشابرول من معطف النقد لاقتراح سينما بديلة، تدعو الناس إلى الفرجة والتفكير ومعانقة المشاكل اليومية، كما أصبحت السينما، تطرح أسئلة عميقة حول قضايا الإنسان المعاصر وحول التحولات التي تنتجها الحضارة المدنية، من خلال وجهة نظر خاصة يختلط فيها الذاتي بالموضوعي، ويصبح فيها العالم الفيلمي، عالما شخصيا ومشخصنا، يعبر عن جرأة المخرج وأفكاره ورؤيته للحياة وللعالم. وقد ظهر هذا التيار كذلك في ألمانيا مع فاسبيندر وفيم فاندرس وشلوندورف وآخرين، كما عم أقطارا أخرى، جعلت من السينما أداة لزرع الوعي والتفكير والنضال، مثل امريكا اللاتينية وبعض دول آسيا. إن سينما المؤلف الآن هي «سينما القضية» مهما كانت بساطة وهامشية، أو تركيب وضخامة، هذه القضية، يكفي أن تكون السينما، في خدمة الروح الإنسانية والوجدان الإنساني. وهذا ما أكده نوري بيلز سيلان، الذي فاز بالسعفة الذهبية الأخيرة عن فيلمه «سبات شتوي»، عندما صرح أثناء الندوة الصحفية/ «إني ابحث في أفلامي في الروح الإنسانية، وأريد أن أخاطب في أفلامي، الروح الإنسانية «، هي ذي سينما المؤلف في شكلها المتجدد، وقد كان جواب كودار حول استعماله لتقنية 3D وتبنيه للتكنلوجيا الجديدة «إن هذه التقنية ضرورية بالنسبة إلي ،لأبين أنها ليست ضرورية، وأنها مجرد وهم عابر كأوهام أخرى عابرة ... لأن التقنية ثقافة». نستنتج من خلال هذا، أن سينما المؤلف، هي سينما تبحث في كنه الوجود الإنساني كما تسعى إلى مساعدة الإنسان على الحياة بطريقة أفضل وأجمل . ولهذا، فإنها لا تحتاج إلى هذا السباق المحموم حول التكنولوجيا، لان التكنولوجيا تظل شيئا خارجيا عن الزمن الإنساني، في حين أن السباق المحموم الذي تقوم به سينما التسلية، من اجل الإبهار والغواية، يثبت الفراغ الذي تحتويه هذه السينما، والذي تحاول ردمه وتغطيته بالتجديد التكنولوجي. وعليه، نقول إذا كانت سينما التسلية تحاول، بأجوائها ومناخاتها اللعبية، أن تبعدنا عن العالم وعن الحياة، فإن سينما المؤلف تعيدنا إلى العالم وإلى الحياة بطريقة أعمق وأرقى. حمادي كيروم السفر قراءة والقراءة سفر كان الشاعر العربي على حق حين دعانا إلى السفر في بيته الشهير القائل: «تغرب وسافر ففي الأسفار خمس فوائد / تفرج نفسٍ والتماس معيشة وعلم وآداب ورفقة ماجد». وليس شرطاً أن تتحقق في سفرة واحدة كل هذه الفوائد الخمس وبعضهم يقول إنها سبع. يكفي أن تتحقق فائدة واحدة من هذه لكي تكون السفرة جديرة بالعناء. في الإقامة الجمود والرتابة، وفي الترحال الحركة والتغيير. ولكن ما العلاقة بين الكتب والسفر؟! يبدو أن ثمة علاقة من نوع ما بينهما، ولعلها أيضاً علاقة وطيدة. ولأن الصيف يعد بالسفر عادة، فهلا تساءلنا عما إذا كان السفر يعني بالنسبة لنا، أو على الأقل بالنسبة لبعضنا، علاقة مع عادة القراءة، علاقة مع الكتاب. ما أكثر ما نؤجل قراءة كتب حتى الإجازة، حتى الصيف، شعوراً منا بأننا سنكون أحراراً من ضغوط العمل والتزاماته وإيقاعه اليومي الرتيب، فنتفرغ لقراءة ما عقدنا العزم على قراءته من دون أن نشعر بأننا محاصرون بالوقت وبمواعيد الالتزامات الكثيرة. ولكننا ما أن يجيء الصيف حتى ندرك أن هذا الفصل يتطلب قراءات خاصة به، قراءات خفيفة تليق بخفة الصيف نفسه. ولأن الصيف يعني، ولو في حدود معينة، السفر فإن «قراءة» السفر يجب أن تتسق معه. بيد أن هذا ليس سوى ظاهر الأمور، ذلك أن القراءة ذاتها هي الأخرى سفر. لذلك يصدق قول الكاتب الذي قال إن الصيف يمنينا بمتعتين، متعة السفر ومتعة قراءة الكتب، والأمران يشتركان في مهمة توسيع الأفق والمدارك. السفر، خارج دائرة التسوق الأثيرة، يفتح أعيننا على الأماكن الجديدة، على التفاصيل التي لم نكن لنعيرها انتباهاً ونحن غارقون في إيقاع الحياة اليومي الرتيب، عندما نتحرر من هذا الإيقاع تنشط حاسة التأمل، وحاسة الاستمتاع بالأشياء. يقال إن دماغ الإنسان في حالة السفر يعيد برمجة أدائه ليصبح بمثابة رادار يلتقط تفاصيل الأشياء التي تمر أمامه. كأن هذا الرادار قبل السفر كان معطلاً، فدبت فيه أثناء السفر الحياة من جديد، مما يجعلك قادراً على التقاط الأشياء التي لم تكن لتثير لديك انتباهاً. يمكن للكتاب أن يؤدي دوراً مشابهاً تماماً، ومن هنا صلة القربى بين السفر والقراءة. مرة قال أوسكار وايلد: «قبل لوحة جيمز وستلر عن لندن، لم تكن هناك غيوم في العاصمة»!.. إنها جملة بديعة، ذكية وبالغة الدلالة في شرحها كيف أننا لا نلاحظ الأشياء إلا عندما يرشدنا إليها فنان أو كاتب مبدع. الغيوم كانت في لندن موجودة دائماً، ولكن الناس لم تكن ستلاحظها لو لم يرسمها وستلر في لوحاته متوخياً الدقة في إبراز تدرجاتها المبهرة. الكاتب الجيد يفعل ما يفعله وستلر في لوحاته عن لندن. هناك نمط من الكتاب الذين يتحدثون بدقة وشفافية ووضوح وتحليل نفسي عميق عن أشياء تخصنا بأكثر مما نستطيع أن نعبر نحن، لأنهم يعرفوننا أكثر مما نعرف أنفسنا، يعرفون عنا أكثر مما نعرف نحن عن ذواتنا. إنهم، ويا للدهشة، يمسكون بكل تلك الأمور التي تشغل أذهاننا وتسبب لنا الارتباك والانزعاج، فيصيغونها بأحسن ما يكون في تعبيرات ذكية، مشعة، قصيرة موحية بحيث إننا لا نستطيع أن نقاوم الرغبة في أن نمسك بالقلم ونضع خطوطاً تحت تلك العبارات، لأننا نجد أنفسنا فيها، كأن هذه المادة المختصرة هي ذاتها التي تؤرقنا وتوجعنا أو تفرحنا، فلا نملك سوى الشعور بالامتنان لهؤلاء الكتاب الذين لا نعرفهم ولم لنتقهم وقد لا نصادفهم أبداً لأنهم قالوا لنا من نحن، أو من نكون، وقد نتساءل ونحن نقرأهم: أنهم يتكلمون عنا، عن أشياء نعرفها ونعيشها ونحس بها، فلماذا لم نلاحظها قبل ذلك، ولماذا لا نعبر عنها كما يفعلون؟ السفر هو قراءة، والقراءة سفر. ثمة صلة قربى، صلة رحم وطيدة بينهما. لذلك ليست مفاجأة أننا ما أن نفكر بالسفر حتى نفكر بالكتاب الذي سنأخذه معنا ونحن نسافر، نختاره بعناية لا تقل عن عنايتنا في اختيار رفيق السفر. والحياة تعلمنا أنه ليس بعدد الكتب التي نقرأها يمكن أن نتغير، ولا بعدد السفرات التي نختارها. ثمة كتب تثري البصيرة والفؤاد هي التي تغيرنا. وثمة بصيرة ذكية تجعل من سفرنا، في كل مرة، اكتشافاً. حسن مدن * * كاتب من البحرين الزاهي: الأحزاب أشبه بفريق من الديكة يتعارك على دجاجة وحيدة الباحث المغربي يفكك ظاهرة العنف المادي واللفظي في أوساط الشباب والسياسيين وبروز ثقافة «الحومة» وأغوار المدينة السحيقة دائما، يشكل الحوار مع الباحث والمترجم المغربي فريد الزاهي، محطة من المحطات الأساسية لوضع "النقاط على الحروف"، ولأنه يتميز بنزاهته الفكرية وعمقه الثقافي وتجرده من الحلقات الضيقة، تصبح المقاربات التي يقدمها صالحة للتمعن، وأقرب إلى الاستشارات "غير مدفوعة الأجر" لمن يهمهم الأمر، من مسيري الشأن العام، أو من حفاظ أمنه، أو من سياسييه ومثقفيه والدائرين في فلكهم. انطلقنا معه من تفكيك سوسيولوجي وثقافي لظاهرة التشرميل وعرجنا على التشرميل السياسي وأداء النخب السياسية والثقافية، وفشل السياسة التعليمية ومآزق الحزب الإسلامي العدالة والتنمية، اليوم، في الحكم، وختمنا بالوجود الخطأ في المكان الخطأ، والذي ينطبق تماما على ما يقدم اليوم من حلول للمشكلات الاجتماعية في البلاد، لكن أمام تنامي الإحساس ب "الحكرة" من قبل المغاربة، تصبح تلك الجهود على أهميتها وجودتها وجها لوجه أمام واقع متمنِّع ويبدي مقاومة كبرى للتحديث ومن علاماته، الفساد والرشوة وتصلب الإدارة. - تهيمن اليوم على المجتمع المغربي، بعد انصراف الربيع العربي، ثقافة جديدة، يمكن أن نسميها «ثقافة العنف»، والذي ترجمته الأدبيات الأمنية في ظاهرة التشرميل، إلى ماذا يرجع بروز هذه الظاهرة، وتحولها السريع إلى موضة؟ ثمة حالة من العنف ومن الإحباط السياسي والاجتماعي تلي دوما حالة الثورات المهزومة وتنجم عنها. وبالرغم من أن المغرب لم يعرف الربيع العربي في شكله العنيف (باعتبار أن العنف بشكل ما ضرب من التنفيس الاجتماعي)، إلا أن هذه الوضعية نفسها تضاعف من الإحباط وتؤدي بشكل أعمق إلى ظواهر أعنف. ولا أدل على ذلك من أن المغرب من أكبر الدول تصديرا للاستشهاديين إلى سوريا، لأن الإسلاميين المتطرفين لم يجدوا مجالا هنا لتصريف عنفهم الجهادي. والتشرميل، بالشكل الذي أخذه في بلادنا، ينبئنا، بل هو ينذرنا، بأننا سائرون على طريق الظواهر الاجتماعية التي تعرفها البرازيل وبالأخص عاصمتها ريو دي جانيرو. وليس من قبيل المصادفة أن تظهر هذه الظاهرة في مدينة كبرى من قبيل الدارالبيضاء، التي تعرف مختلف أنواع المفارقات الاجتماعية والطبقية والنفسية والاقتصادية. إن التشرميل تعبير عن رفض شباب الهوامش لوضعيتهم من جهة ومحاولة خلق مجموعة بشرية communauté أشبه بالقبيلة تنبني أواصر علاقاتها لا على الدم والسلالة وإنما على العمر والانتماء الاجتماعي وعلى حس مشترك بالقهر. هذه المجموعة البشرية الجديدة تجد نفسها بالضرورة خارج الأقانيم الأخلاقية والاجتماعية، بحيث إنها تعيش إحساسا جديدا يتمثل في التنظيم الجماعي وفي المظهر الخارجي واللباس وفي استعمال أدوات معينة. وهدفها الاستيلاء على الامتيازات التي يملكها سكان المراكز من هندام وشكل حلاقة وغيرها. يتعلق الأمر إذن بضرب من الإسقاط projection، يتم من خلاله خلق كيان أشبه بالخيالي يعاش مثل سراب اجتماعي. وطابع التشرميل كموضة أو تقليعة ينبع من قدرة الظاهرة على أن تفتن الشباب وتستقطبهم للقيم الجديدة التي تدعو لها: الفحولة المتمثلة في استعمال السيوف والسكاكين الطويلة القاطعة (من حيث هي رمز للقضيب phalus)) وهي ضرب من الفتوة المقلوبة وشكل مناقض لما عرف في القديم لدى العرب بالشطار والعيارين. والبحث عن مظهرية جديدة تتأتى من الغنائم وتتمثل في الأحذية والجاكيطات والسراويل والساعات... ذات الماركات التي يتباهى بها أبناء الميسورين والمحظوظين. والتباهي بذلك في المواقع الاجتماعية بالشكل نفسه الذي يتباهى به أبناء الميسورين بلباسهم وسهراتهم وسياراتهم الفارهة وصديقاتهم الفاتنات. وبالرغم من أن أحد علماء الاجتماع نعت الظاهرة بالإجرامية إلا أن طابعها الجمعاني communautaire يغلب على طابعها الإجرامي أو هو يوجهه. فالمتشرملون ليسوا مجرمين عاديين، مثلهم في ذلك مثل «الهوليغنز» الذين يحولون المباريات إلى ملاعب قتال وتخريب. بل يمكننا الربط بين الظاهرتين باعتبار الثانية تشكل بصورة ما أصلا للأولى. ولأن الملاعب لم تعد تحتوي حاجتهم للتنفيس فقد اختاروا شكل «حرب الأغوار»، أي شرايين المدينة التي يعرفونها جيدا. - استندت ظاهرة العنف الرمزي والمادي ضد المجتمع، ممثلة في «التشرميل» إلى حامل خطير، وهو الفيسبوك، حيث تحول هذا الفضاء إلى مجال دعائي لها، هل يرمز هذا إلى انتقال في تدبير العنف ضد المجتمع، تدبير نزل من الافتراضي إلى الواقع، كما حدث في موجة الربيع العربي؟ الفضاء الافتراضي صار يتحول إلى واقع جديد تتنامى أهميته بحيث سوف يصير في العقود القادمة بديلا للواقع الذي نعيشه لأنه سيمتص هذا الواقع المادي ليصير الافتراضي هو المادي لا العكس. وإذا كان الفايسبوك مثلا مجالا للظهور والتظاهر، فلأنه يمنح شخصية جديدة كل الجدة لمن لا «شخصية» لهم ووجودا افتراضيا لمن لا وجود اجتماعي لهم. إنه فضاء يحول النقص إلى كمال ويخلق حول كل فرد مجموعة بشرية افتراضية تتابعه وتدور حوله، وهكذا دواليك. وأنت تلاحظ أن صفحة «الفايس بوك» صارت أشبه بالمرآة يناجيها الأشخاص في فرحهم وترحهم وفي متعتهم وألمهم، إلى درجة أن الصور والوضعيات نفسها تحولت إلى صور ووضعيات موسومة بالفايسبوكية. هل ثمة دعاية للتشرميل؟ لا أعتقد ذلك، لأن التشرميل ليس بعد ظاهرة منظمة سياسيا وإيديولوجيا وإنما حركة اجتماعية عفوية ذات طابع جمعاني. الصور التي تنشر تعبر أولا عن التباهي، ومنه عن الفحولة ومنه، وبشكل ضمني هي تعبير عن تحدي المجتمع بسلطاته وقيمه. إنها نوع من المراهقة الاجتماعية التي تحولت إلى استعراض للقدرة على التحدي. - فئة الشباب، هي الفئة الأكثر انفعالا ونشاطا وتبنيا للسلوك العنيف، أليس هذا إيذانا بفشل البرنامج التعليمي والتربوي الرسمي وإعلان نهاية للأسرة كحاضنة اجتماعية وعارضة وقائية؟ السياسة التعليمية بالمغرب، على عكس بلد ديمقراطي كفرنسا، لم تطور تعليما عموميا قويا. فصارت المدرسة العمومية مخصوصة لأبناء القرى والأحياء المهمشة فيما تشكل المدرسة الخصوصية مآلا للطبقات المتوسطة والميسورة. أما الأسر، فمع تناقص الدور التربوي للمدرسة وتزايد المعضلات الاجتماعية، وشيوع أجهزة التواصل والإعلام من تلفزيون وهواتف نقالة وغيرها من الحوامل التواصلية التي تروج للشبكات الاجتماعية، فإنها صارت تجد أنفسها سلطة تتناقص تدريجيا فيما تكبر سلطة تلك التواصلات الشبكية، ومعها القيم التي تروج لها. يمكننا القول باقتضاب بأن الأسرة لم تتفكك بعد بالشكل الذي نعتقد، ولكن دورها تحجَّم وصارت الأسر الافتراضية تشكل ما يشبه البديل لها. «السيبير» لا يزال لحد الآن ولو مع دخول الأنترنيت للهواتف، ملاذا للفقراء والمعوزين. والعالم الافتراضي صار يشكل بصورة ما الأسرة البديلة التي يتربى المراهق في حضنها خارج رقابة الآباء. - الفعل العنيف، لم يعد يقتصر اليوم، على ملاعب الكرة، ولا باحات المدارس، ولا رأس الدرب، بل مس حتى طبقة السياسيين، من برلمانيين ووزراء، ألا يخفي ذلك نوعا من الاحتقان الاجتماعي والسياسي والثقافي لا يجد قنواته السليمة للتصريف؟ العنف لا يتمثل فقط في السلب وإراقة الدم وإنما أيضا في الإكراه والضغط والقمع كما في العنف اللفظي. وخلو المجتمع من العنف قد يكون مؤشرا على أمراض أخرى. لقد عرفت اللغة السياسية بالمغرب مجموعة من التحولات تعبر لا فقط عن الاحتقان السياسي وإنما أيضا عن عدم القدرة على بلورة لغة سياسية خطابية إقناعية وحجاجية. لاحظْ معي أن لغة السياسة في ما مضى كانت عربية أو فرنسية سليمة إلى هذا الحد أو ذاك. أما القادة الجدد للسياسة المغربية فصاروا يستعملون اللغة الدارجة في خطبهم وتدخلاتهم وهم الداعون إلى سيادة اللغة العربية الفصحى في جميع القطاعات. ويا للمفارقة. اللغة الدارجة لغة اليومي والأحاسيس، وهي اللغة الأقرب إلى العواطف والأهواء، ومن ثم فهي الأقرب إلى التعبير عن الحب والغضب والعنف. ومن ثم عدم التحكم في الخطاب وممارسة التجاوزات التي تكون عنيفة في الغالب. من ناحية أخرى، في ظل التواصل السياسي الحالي، يبدو أن ضبابية الأحزاب وهلامية تصوراتها واستراتيجياتها يجعلها في حقيقة الأمر قريبة من بعضها البعض في العمق وإن اختلفت في الظاهر. وهو ما يدفع بها أولا إلى الدفاع عن هوية مفقودة باستراتيجية غير واضحة. إن اختلاط الأمور هو ما يضيِّق من مساحة الفكر السياسي ويجعله يتقاطع في القضايا والتصورات. الأمر الذي يجعل هذه الأحزاب أشبه بفريق من الديكة تتعارك على جماع دجاجة وحيدة. فيغدو الصراع اللفظي حادا وعنيفا وفي الآن نفسه مدخلا مشروعا للتنابز ثم للتشابك بالأيدي. ألا يشكل هذا المنظر نظيرا للصراعات القديمة بالأحياء التي تبدأ باللفظي لتنتهي بالتقاتل والعراك؟ سياسيا يمكن تفسير الأمر بكون رهانات الصراع السياسي صارت ضئيلة ولا تكفي لهذا الكم الهائل من الأحزاب، كما أن لغة السياسة صارت فقيرة فلم تعد كافية للتعبير عن الصراع السياسي الحق، فلم يبق أمام سياسيينا وبرلمانيينا سوى أن يعروا عن طبقات لاوعيهم كي ينفجر بركان المكبوت الاجتماعي والسياسي والشخصي ويمنحنا مسرحيات تنبئ بما يخفيه سياسيونا من علاقات مصْلحية وشخصية بالسياسة جاءت بهم إلى هذا المجال. فحالات التوتر خير محْرار (ترمومتر) لعدم قدرة السياسي على إنتاج صراع سياسي حق أو إعادة إنتاج صراعات الحوْمة أو الحي كما ذكرتها سابقا... - الإسلاميون الذين كانوا يتبنون خطابات التخليق في السابق وبنوا عليها مشروعهم السياسي، سقطوا في اللعبة نفسها، وتحولوا إلى منصات لإطلاق النار على الخصوم لا تستثني أي عبارة، أليس هذا مأزقا أخلاقيا مركبا تعيد الآلة السياسية إنتاجه بلا هوادة؟ الإسلاميون ليسوا كيانا خارج اللغة والتواصل والتاريخ ولعبة السياسة. والممارسة السياسية اليومية للسلطة سلاح ذو حدين: فهو يقوي التجربة السياسية لمن لم تكن لهم تجربة، وهو من جهة ثانية محكّ قادر، في حال هشاشة الرصيد السياسي وقوة تناقضاته، أن يكشف عن طبيعة أصحاب الخطاب الأهوج. فالنضج السياسي سيرورة وتجربة وحنكة. والإسلاميون العرب لم يستفيدوا اطلاعا على كتب الأخبار والسياسة التي تركتها لنا الثقافة العربية الإسلامية والتي تبين عن حنكة السياسي وحكمته ودهائه وحصافة رؤيته. بل لم يستفيدوا حتى مما يجرى من محاورات انتخابية في الانتخابات الأمريكية أو الفرنسية حتى يتعلموا منها طبيعة السجال السياسي المبني على استراتيجيات عامة كما على قدرات compétences ومؤهلات شخصية يمتلكها السياسي، سواء كان في السلطة أو خارجها. من ناحية أخرى لا يعتمد هؤلاء (ولا غيرهم) على خدمات رجال التواصل الذين يؤطرون السياسي في خرجاته وخطاباته حتى تكون في مستوى البرنامج الذي يدافعون عنه. حين كان الإسلاميون يخوضون حملتهم الانتخابية كانوا يبنونها على شعارات رنانة عن محاربة كل أنواع الفساد السياسي والاجتماعي. وحين وجدوا أنفسهم في معمعة مجتمع ظلت فيه هذه الظواهر ضاربة الجذور منذ قرون، أدركوا محدودية شعاراتهم وإرادتهم وممكناتهم فصاروا يعومون في التناقض الرومنسي بين الكائن والممكن وبين النوايا والمقاصد والواقع العنيد. والأمر يعبر عن مأزق فعلا ذي طابع أخلاقي éthique وسياسي بحيث ينسف الأسس التي يقوم عليها المشروع السياسي الإسلاموي. فتراهم في عجزهم عن تدبير ما يستجد أمامهم من قضايا وعن إيجاد الحلول الناجعة لها يخرجون عن طورهم ويدخلون في علاقة نزاعية تبين عن عنف لغوي تارة وعن نكوص إلى طهرانية تريد أن تجرد المغرب من تاريخ فرجاته وفنه كما هو الأمر في الدعوة إلى فن نظيف ومؤخرا إلى تجريد التلفزيون من طابعه كمنتج للفرجة. والحقيقة أن المرحلة التي يعيشها الخطاب السياسي بالمغرب ممتعة إلى حد ما، لأنها أفرزت لغة جديدة محقونة بالعنف من جهة ومضحكة من جهة ثانية ومثيرة للشفقة من جهة ثالثة. والأحرى بأصحاب هذه اللغة أن يتخلوا عن كبريائهم ويبدؤوا في أخذ دروس في التواصل السياسي وتقنيات الخطاب والحوار قبل أن يستفحل الأمر إلى ما لا تحمد عقباه. - في المقابل، تحترب النخب وتتراجع إلى الخلف، وكأن ما يجري في المجتمع وفي ساحات السياسة أمورا لا تعنيها بالمطلق، هل هذا دليل على موت معلن للمثقف المغربي؟ من سوْءات التاريخ المغربي المعاصر أنه يعيش مفارقة سياسية كبرى تتمثل في تراجع النخب الثقافية والفكرية والسياسية وسيادة الشعبوية. وقد كانت سياسة سنين الجمر والرصاص المسؤولة الكبرى عن تحجيم دور النخب، إضافة إلى تدمير الطبقة المتوسطة والزج بها في الصراع مع المعيش اليومي ومشكلات البقاء على قيد الحياة، بحيث صار همها نقابيا أكثر منه فكريا وسياسيا. ولا أدل على ذلك من أن النقابات صار لها دور أكبر في الضغط من المثقفين والسياسيين المستقلين وحتى المتحزبين منهم. هذا التحول تمثل في تدجين المثقف والمساهمة في احتضاره ليحل محله الكاتب المرتزق وأشباه المثقفين الذين يغذون دواوين الوزارات ومؤسسات الكتاب التقليدية. لقد صار دور المثقف في تضييق مطرد ويمكن القول إنه آيل للانقراض، وصار الصحفي يأخذ مكانه (وهو أمر ليس بالسيئ) ومعه المستشار المسمى خطأ بالخبير. فالصحفي يقدم التحليل السياسي والفكري على المدى القصير، والخبير يحرر التقارير ليرسم الخطط على المدى المتوسط والطويل. وفي الحالين معا يعبر ذلك عن الغياب الفظيع للبحث العلمي الاجتماعي، كما للنقاش الفكري والنظري والتحليلي لمجريات الأمور لا فقط في القنوات التلفزيونية وإنما أيضا في الصحافة. - من هو المستفيد اليوم، مما يجري، سواء في الجامعة أو الشارع أو في قبة البرلمان، وكيف يمكن إعادة تنظيم المشهد العام من جديد؟ ليس ثمة من مستفيد بل ثمة خاسرون. في قضية التشرميل تصبح السلطات العمومية في مواجهة استنفارية مع الشباب «المنحرف»، وفي العنف اليومي كما البرلماني كما في الخطاب السياسي تجد الصحافة مادة دسمة تحشو بها أذهان قرائها، وكأن الأمر قدر يجعل المتتبع يحتسب أنها مجرد استثناءات عابرة وأن «الدنيا بخير» والمغرب يتقدم لأن ثمة ثوابت تحميه. والحال أن هذه الثوابت نفسها تعيش صراعات بين ما يشدها للماضي وما يشدها للمستقبل وتحيا ارتباكا أكيدا في بلورة وجودها الذي به تسهر على استقرار المغرب والذي صار عبارة عن ميثولوجيا مقدسة. الخاسرون هم نحن وأبناؤنا، لأننا نعيش مفارقة كبرى بين مستوانا ومستوى مسيرينا وبين مستوى أبنائنا ومستوى المجتمع الذي يعيشون فيه. هذا بالضبط هو ما يفسر هجرة الأدمغة المغربية إلى الغرب والشرق الأوسط، لأن التطور الفعلي للمغرب هو ذلك الذي سيحتضن كافة طاقاته عوض أن يصدرها للخارج ويستورد بدلها أكثر الأفكار تخلفا من وهابية تبسيطية وإسلاموية لا تعرف إن كانت تريد أن تكون معاصرة أم تقليدية ومن سلفية جهادية تفجر جهلها للإسلام في مواجهة البشرية. - كيف يمكن إعادة صياغة جديدة للأدوار، فالدستور الجديد يرسم أدوار المؤسسات وحدودها، لكن ما يجري في الواقع هو شكل من أشكال نفي الدستور أو تجاهله، سواء ثقافيا أو سياسيا، هل هذا بسبب معضلة «ربيع مغربي لم يكتمل»؟ لا أبدا. الأمر يتعلق فقط بعدم شفافية المجتمع المغربي بحيث لا يملك بعد القدرة على تمثل الحداثة بشكل كامل ومكتمل، نظرا للمقاومة التي لا يزال يحتفظ بها في ثناياه سواء في مجال السياسة أو المجتمع أو الثقافة حتى. الزاهي: المغربي يشعر ب«الحكرة» لأنه يحس أنه لا يزال ضحية ظواهر عاش إكراهاتها في الماضي - هل يزحف المجتمع المغربي نحو حالة من السعار الاجتماعي، يسببها ثقل المعيش وقسوة اليومي وفشل مشاريع الإصلاح وضمور المعالجة الثقافية، وما هي ملامح المخارج المقترحة؟ لن أكون ذا خطاب أخروي apocalyptique وأعلن أن ما يحدث في بلدنا من علامات الساعة. بيد أن التحديات تكبر وتزداد وتتعمق كلما كان إيقاع تقدمنا أبطأ من معدل تقدم البلدان الأخرى. من ثم فإن الإيقاع الذي يتم به التصدي للمشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية إذا لم يتجاوز إيقاع تفاقمها، فإن الحلول تكون ترقيعية وإصلاحية جزئية من باب ذر الرماد في العيون. فتعود تلك المعضلات للظهور أكثر قوة وعنفا وتفجيرا. ولعمري هذا ما نحس به اليوم بالرغم من الإرادة السياسية العامة ذات النوايا الحسنة. المفارقة هي أن تشخيص المعضلات حين يكون جيدا (وهو أمر نادر) تأتي الحلول متأخرة زمنا وجزئية وفي أحسن الأحوال في غير مستوى تلك المعضلات. من ثم يأتي ما نراه يستفحل من فشل المشاريع الإصلاحية (للتعليم والصحة بالأخص) ومن عدم القدرة على تطبيق قوانين في الجوهر جيدة على واقع متمنِّع ويبدي مقاومة كبرى للتحديث (الفساد والرشوة وتصلب الإدارة...). فالمشكل إذن هو أن المغربي يعيش غبنا وإحباطا أكبر، لأنه يحس أنه لا يزال ضحية ظواهر عاش إكراهاتها في الماضي في غياب قوانين تحميه، ولا يزال يعيشها في ظل قوانين يفترض فيها أن تحميه. وذلك هو المعنى الأعمق ل»مفهوم» الحكرة» ! حاوره - حكيم عنكر