لا يكفي أن نلعن التكنولوجيا الجديدة للمعلومات والتواصل، وندين العولمة، وما يتصل بهما، وننسب كل البلاوي التي نتخبط فيها، والتي تولد بعضها، بصورة خاصة، مع منجزات هذه الثورة التكنولوجية. إن هذا تملص من المسؤولية، وموقف سلبي من التطور الذي يتحقق في عصرنا. هذا التطور نتاج تاريخ من الأحلام التي عمل الإنسان منذ القدم على التفكير فيها، والعمل على جعلها واقعا حقيقيا. وما دمنا غير قادرين على تمثل طبيعة العصر الذي نعيش فيه، ونرتقي إلى توفير المستلزمات التي يفرضها لا يمكننا إلا نتبرأ منه، وندعي أنه المسؤول عن كل الأمراض والمخاطر التي بتنا عرضة لها بسبب ما تجره هذه الوسائط الجديدة التي أدت إلى بروز ظواهر وممارسات لم يكن أحد يتصورها قبل عشرين سنة. لقد انتقلت البشرية في تاريخها الطويل من الشفاهة إلى الرقامة. وفي كل مرحلة من مراحل تطور الوسائط كانت تظهر أشكال جديدة من التفكير، والتواصل، ورؤية العالم مختلفة عن المرحلة السابقة عليها. وحتى انتقال الفيسبوك، مثلا، إلى الميتافيرس انتقال طبيعي فرضته طبيعة التطور الذي تعرفه الثورة الرقمية، وما يمكن أن توظفه لخلق عوالم جديدة لم يكن لنا بها عهد، أو تصور مسبق. لقد صار الواقع الافتراضي واقعا كائنا، له خصوصيته وطبيعته ووظيفته. إنه صورة أمينة عن واقعنا لأن الإنسان هو الذي أوجده. وإذا كان الواقع الحقيقي وليد تاريخ من تطور البشرية من البادية إلى الحاضرة، فإنه ظل محملا بكل التمايزات التي انطبع بها التاريخ الإنساني في صيرورته. وصورة هذا الواقع آخذة الآن في التحول حتى على المستوى الواقعي. كان التمايز بين المدينة والقرية. وداخل المدينة نجد اختلافات بين المركز والهوامش، سواء تعلق الأمر بالسكن أو الأمكنة التي يشغلها في حياته اليومية. فالسوق الأسبوعي، مثلا، في البادية، ليس هو المركز التجاري في المدينة. لذلك كان الفضاء الذي يشغله الإنسان تعبيرا عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتفاوتة والتي تعرفها الفئات الاجتماعية المختلفة باختلاف أصولها الثقافية والاقتصادية. هذا الواقع الحقيقي المتعدد، وغير المتجانس، بدأت الثورة الرقمية تعمل على إزاحته بخلق واقع جديد، قوامه الهجانة والتداخل، والتفاعل، والتواصل غير القائم على الحدود القديمة والتقليدية. فحتى اللغة التي كانت تختلف بين الأقوام والأجناس، وتفرق بينهم باعتبارها عائقا يحول دون التواصل، صارت شبه موحدة في العالم الافتراضي، ليس فقط بسبب هيمنة لغة الصورة التي هي مشتركة بين الناس، بل حتى اللغة صار بالإمكان تجاوز إكراهاتها بحضور إمكانات الترجمة، صوتيا ونصيا، من أي لغة كانت إلى لغة المستعمل المتعامل مع الفضاء الافتراضي. لذلك لا غرو أن نجد هذا الفضاء تتساكن فيه كل اللغات والثقافات وأشكال التواصل المختلفة. كان حلم الإنسان منذ القدم، أن يتعرف على ما يجري في العوالم البعيدة والمنعزلة. وكان طموح تشكيل المكتبة الإنسانية يراود الإنسان في كل زمان ومكان. مع الثورة الرقمية يمكننا الحديث عن تلك المكتبة الإنسانية، لكنها مختلفة عما كان يراود الإنسان القديم الذي انبنى وعيه وتصوره للعالم على أساس التمايز الاجتماعي والثقافي والطبقي. كان التصور السائد لتلك المكتبة الإنسانية يتأسس على ركيزة أن المعرفة العالمة هي المعرفة الحقيقية لأنها ثقافة البحث والاستكشاف. أما ثقافة العوام فبسيطة ولا تتعدى الحس المشترك. مع الفضاء الشبكي زالت هذه الحدود لأن الوسيط الجديد وبرمجياته المتاحة صارت ملك يد أي شخص كيفما كان جنسه أو نوعه. فصار كل إنسان يرى نفسه مؤهلا لاحتلال موقع في هذا الفضاء، ولكل زرع كيال. عندما بدأ هذا العالم الافتراضي، مع الشبكة العنكبوتية، يتشكل منذ ثمانينيات القرن الماضي كان يقتصر ولوجه والتعامل معه على فئة خاصة يحتل فيها رجال المال والأعمال المكانة الأولى. وبدأت دعوات بعض المثقفين إلى دفع بعضهم البعض، وتحفيزهم على دخوله، وفرض وجودهم فيه كي لا يبقى حكرا على من وظفوه لخدمة أغراضهم ومطامحهم في فرض الهيمنة. في الدول الغربية التي سبقتنا إلى التعامل مع الثورة الرقمية كان النقاش والحوار، وتكونت رؤيات وتصورات كثيرة، مختلفة ومؤتلفة حول هذا الفضاء، وكانت نتاج ذلك أدبيات لا حصر لها. في الوطن العربي تأخر ولوج هذا الفضاء، وكان المثقفون أكثر ترددا وإحجاما. ومع الجيل الثاني من الفضاء الشبكي، ومع ظهور «وسائل التواصل الاجتماعي»، وانتشار الهواتف الذكية، واللوحات الإلكترونية، بشكل غير متوقع، وجدنا كل فرد يريد أن يكون له موقع في هذا الفضاء. وهو لا يكتفي بأن يكون له موقع فحسب، بل وأن يفرض وجوده فيه. لا يمكننا أن نصادر حق الأشخاص، كيفما كانت هوياتهم، أو أصولهم الاجتماعية والاقتصادية، في أن يمارسوا وجودهم، وحقهم في التعبير، والتواصل والتفاعل مع غيرهم من خلال استثمار ما يتيحه لهم هذا الفضاء الافتراضي من إمكانات للوجود والحضور. إن من يتابع ما يزخر به الفضاء الشبكي العربي لا يمكنه إلا أن يتساءل عن العوامل التي سمحت له بأن يكون على الصورة السلبية التي هو عليها. لقد استوطنه الدجالون والمشعوذون والأميون وأشباه المثقفين. صاروا يتباهون بما يراكمونه من أرقام الإعجاب، والأصابع المرفوعة للسماء، والأجراس التي تقرع صباح مساء. وصاروا يتراشقون فيما بينهم، وكل يفتخر بعدد متابعيه والمشاركين في موقعه، بل ويتفاخر بذلك أمام الملأ. صار الفضاء الشبكي العربي، سواء من خلال ما يجري فيه، أو ما ينقل من أخباره في الصحف الورقية، وفي أحاديث الناس في المقاهي هو الموضوع الذي بات ينشغل به الجميع. صار ما يجري في هذا الواقع موضوعا، بل وبديلا عما يجري في الواقع الحقيقي. لقد أصبح انشغال الناس بما يجري من رداءة في هذا العالم الافتراضي شغلا حقيقيا يغطي عن المشاكل الحقيقية التي يعانيها الناس في حياتهم اليومية. أن يصير الواقع الافتراضي بديلا عن الواقع الحقيقي ليس سوى هروب من الواقع الذي أدى إلى بروزه. وبدل أن يكون ذاك العالم فضاء للارتقاء بالواقع الحقيقي، عبر الحوار والنقاش، والتفاعل، والتواصل، بات هو الفضاء الذي تدور فيه حروب وصراعات أخرى تحل محل ما يفرضه الواقع الحقيقي من مشاكل حقيقية. صار الكل مقتنعا بأن يكون له موقع يتصيد منه الإعجاب، وكسب الزبناء، وقراع الأجراس. ولا عبرة بما يقدمه هذا الشخص أو ذاك في هذا الفضاء. تكفي العناوين المثيرة، والأيمان الغليظة، والصور الفظيعة... والحضور الدائم. لا مراء في أن الفضاء الافتراضي تتجاور فيه أصناف الثقافات المختلفة. فللثقافة العالمة موقع هام فيه، وللمعرفة مكانة لا يستهان بها. لكننا حين نقارن حضور الثقافات الجماهيرية والشعبية، بحمولتهما السلبية لا الإيجابية فيه، نجد لهما الحظوة والهيمنة والسلطة. وحين نقارن الجد فيه بالهزل، والعلم بالشعوذة، والمعرفة بالدجل، نجد الغلبة للدجل والشعوذة، والتشهير، والزيف، والكذب، والادعاء، والجهل على ما يناقضها. فكيف يمكن لفضاء كهذا يلجه، ويقضي الساعات الطوال فيه من لا عدة له، ولا تمييز، ولا قدرة على النقد والتمحيص وطرح الأسئلة من كل الأعمار والأجناس أن يستفيد منه، ويدفعه إلى تطوير مهاراته وقدراته، وشخصيته لمواجهة تصاريف الحياة ومشاكلها؟ أسئلة نطرحها على المثقفين والمؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية.