في خرجة، سابقة، تحمل الكثير من الدلالات الوطنية، نوه رئيس النيابة العامة الأستاذ محمد عبد النبوي بنجاح نظام العدالة في استرجاع السيادة الوطنية، من خلال تنزيل المبادئ الثلاثة لإصلاح القضاء ( التوحيد، المغربة، التعريب)، و ذلك مكن من إنهاء نظام الحماية الذي كان متحكما في القرار القضائي بالمغرب. و إذا كان إنهاء نظام الحماية قد تحقق تنظيميا مع مبدأ التوحيد، و تحقق على مستوى الموارد البشرية مع مبدأ المغربة، فإنه قد تحقق كذلك على مستوى لغة المداولات و المرافعات و إصدار الأحكام مع مبدأ التعريب . و يعود هذا النجاح، في الحقيقة، إلى توفر الإرادة السياسية للدولة التي عبر عنها الملك الراحل ( الحسن الثاني) من خلال إدراكه الفكري العميق لمبدأ تعريب القضاء، ف " التعريب ليس معناه الترجمة فقط، و لكن التعريب هو، قبل كل شيء، تحضير القوانين أولا، ثم ثانيا طبعها بالطابع العربي في اللغة، و بالطابع العربي في تأويل القانون" . الخطاب الملكي المؤرخ 28 أبريل 1965 بمناسبة استقبال اللجان المكلفة بتعريب القوانين – منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية، سلسلة نصوص و وثائق " القضاء و القانون في الخطاب الملكي" العدد 16 ط: 1 ، 1997 . و لعل هذه الإرادة السياسية التي عبر عنها قائد الدولة، هي التي وجهت الفلسفة القانونية المؤطرة لمبدأ تعريب القضاء، سواء في علاقة بالنص الدستوري الذي نص على الطابع الرسمي للغة العربية منذ أول دستور 1962 و إلى حدود دستور 2011 ، و كذلك في علاقة بالنصوص القانونية و التنظيمية التي ترجمت النص الدستوري على أرض الواقع. هذا التأطير القانوني، ساهم في توفير بيئة ملائمة لتنزيل مبدأ تعريب نظام العدالة بالمغرب، بحيث يفرض القانون، وجوبا، توظيف اللغة العربية، في المداولات و المرافعات و الأحكام، و أي خرق لهذا المنطق القانوني ينزع الشرعية القانونية عن كل ما يدور في المحاكم من مداولات و مرافعات، و عن كل ما يصدر عن المحاكم من أحكام. و هذا يوفر للأشخاص و الهيئات المدنية و السياسية و كذلك للمؤسسات، حق الطعن، قانونيا، في كل الإجراءات و الأحكام الصادرة عن محاكم المملكة بغير اللغة العربية . و قد صدرت مجموعة من النصوص القانونية و التنظيمية التي تحصر لغة التقاضي في العربية : * من جهة أولى هناك الترسيم الدستوري، كأسمى قانون يحدد التزام الدولة و مسؤوليتها القانونية في حماية و تطوير اللغة العربية . * قانون 3/64 المؤرخ 26 يناير 1965 الذي ينص على توحيد المحاكم و مغربتها و تعريبها، حيث يؤكد في الفصل الخامس : "إن اللغة العربية هي وحدها لغة المداولات والمرافعات والأحكام في المحاكم المغربية". * قانون المسطرة المدنية الذي ينص في الفصل 431 منه، حول مرفقات الطلب الرامي إلى تذييل الحكم الأجنبي، على الترجمة التامة إلى اللغة العربية عند الاقتضاء للمستندات مع المصادقة على صحتها من طرف ترجمان محلف . * اتفاقية التنظيم القضائي بين دول اتحاد المغرب العربي الموقعة بنواكشوط بتاريخ 11 نونبر 1992 و تنص في مادتها الخامسة على ما يلي : " لغة المحاكم هي اللغة العربية، و تسمع المحكمة أقوال المتقاضين و الشهود الذين يجهلونها ( اللغة العربية) بواسطة مترجم " . * قرار وزير العدل رقم 65-414 بتاريخ 29 يونيو 1965 الخاص باستعمال اللغة العربية أمام المحاكم، حيث نص في الفصل الأول منه على ما يلي: " يجب أن تحرر باللغة العربية، ابتداء من فاتح يوليوز 1965 جميع المقالات و العرائض و المذكرات، و بصفة عامة جميع الوثائق المقدمة إلى مختلف المحاكم . * منشور وزير العدل عدد 278/1966 بتاريخ 10 فبراير 1966 الذي يفرض على القضاء ألا يقبل أي مذكرة أو وثيقة من لدن المتقاضين متى كانت محررة بلغة أجنبية . * قانون تنظيمي للقضاء رقم 15/38 المتعلق بالتنظيم القضائي للمملكة والذي تمت المصادقة عليه من طرف المجلس الحكومي. و جاء في مقتضيات مادته 15 ما يلي: " تظل اللغة العربية لغة التقاضي والمرافعات وصياغة الأحكام القضائية أمام المحاكم، مع العمل على تفعيل اللغة الأمازيغية طبقا لأحكام الفصل 5 من الدستور، ويجب تقديم الوثائق والمستندات للمحكمة باللغة العربية أو مصحوبة بترجمتها مصادق على صحتها من قبل ترجمان محلف كما يحق للمحكمة ولأطراف النزاع أو الشهود الاستعانة أثناء الجلسات بترجمان محلف تعينه المحكمة أو تكلف شخصا بالترجمة بعد ان يؤدي اليمين أمامها." * و قد سبق للمجلس الأعلى، بمناسبة نزاع ذهب فيه قضاء الموضوع إلى تطبيق النص القانوني المنشور باللغة الفرنسية في قراره الصادر بتاريخ 12 يناير 1984 تحت رقم 321 في الملف الجنائي عدد 10615، أن أوضح ما يلي : " حيث من جهة أولى، فإن النصوص التشريعية الصادرة باللغة العربية هي الواجبة التطبيق، و لا يعيبها أن تحرر أول الأمر بغير العربية، و لهذا فإنه لا يتأتى القول بالأخذ بالنص الفرنسي و إعطائه الطابع التشريعي، بدعوى وجود غلط في الترجمة، طالما أنه من الممكن إدخال تعديل أو تغيير لتلك النصوص ، بنصوص تشريعية لاحقة ". قرارات المجلس الأعلى، المادة الجنائية 1961-1997 منشورات المجلس الأعلى في ذكراه الأربعين، 1997 ، ص: 69 . * من التحصين القانوني لمبدأ "تعريب العدالة" إلى التوظيف السياسي لمبدأ "تعريب التعليم" من خلال العودة إلى الأدبيات الفكرية و السياسية و القانونية الخاصة بمبدأ التعريب في نظامي العدالة و التعليم، نجد أن الرؤية الإصلاحية التي قادت نظام العدالة، بعد الاستقلال، هي نفسها التي قادت نظام التعليم. لكن، نجاح تنزيل مبدأ التعريب في نظام العدالة لم يتحقق في نظام التعليم. و السبب لا يرجع إلى صلاحية مبدأ التعريب لأنه نجح في نظام العدالة، بل يرجع إلى غياب النص القانوني الواضح/الزاجر الذي يفرض، بلغة قانونية صريحة، مبدأ تعريب التعليم، مع ترتيب الجزاء القانوني في حالة خرق منطق القانون. في نظام العدالة تحكم منطق القانون، بينما في نظام التعليم تحكم منطق التوازنات السياسية. لذلك، نجح تعريب نظام العدالة، و فشل تعريب نظام التعليم . فمنذ أول لجنة ملكية لإصلاح التعليم، شكلها الملك الراحل محمد الخامس و عقدت أول اجتماع لها بتاريخ 28 شتنبر 1957، و إلى حدود القانون الإطار، المثير للجدل، الذي لم يتحقق التوافق حوله لحد الآن. استمر الجدال حول تنفيذ مبدأ التعريب المعزز بالترسيم الدستوري، و بدعم الرؤية الإصلاحية التأسيسية التي اعتمدت التعريب ضمن المبادئ الأربعة لإصلاح التعليم . و لعل العودة إلى مسار الإصلاحات التعليمية المتتالية، منذ مرحلة ما بعد الاستقلال و إلى حدود اليوم، لتؤكد أن مبدأ تعريب التعليم، بالمغرب، لم يكن رهانا بيداغوجيا، كما تجاوز التأطير القانوني، ليكون أكثر ارتباطا بالتوازنات السياسية بين التيارات الإيديولوجية. فهناك التيار الوطني الذي ربط مبدأ تعريب التعليم بترسيخ السيادة لوطنية و الاستقلال عن المرجع الاستعماري، و هناك من جهة أخرى التيار الفرنكو-عِرقي الذي قدم نفسه كوكيل للمشروع الاستعماري، و لذلك سعى إلى ترسيخ مبدأ "فرنسة التعليم" على نهج المدارس الفرنسية-البربرية، من أجل الحد من النزوع الاستقلالي الوطني الذي يهدد مصالح المترويول الاستعماري و وكلائه . فخلال أول لجنة للإصلاح سنة 1957 حضر مبدأ توحيد البرامج وتحديد سنوات الاسلاك الدراسية، و إلى جانبه تم التنصيص على مبدأ التعريب. لكن، لجنة الإصلاح لسنة 1958 التي سميت "اللجنة الملكية لإصلاح التعليم" صدرت عنها قرارات تعارض القرارات الصادرة عن اللجنة الأولى، في علاقة بهيكلة الأسلاك التعليمية، و العودة إلى تدريس الحساب و المواد العلمية باللغة الفرنسية. و قد كان الشعار المرافق لهذه الردة الإصلاحية هو، كما العادة دائما، عقلنة نظام التعليم. و كأن ترسيخ العقلنة لا يعدو أن يكون عملية نسخ و لصق ! مع أن التصور المعرفي الصحيح لترسيخ العقلنة يمر عبر ترسيخ مبادئها من داخل النسق الثقافي و اللغوي الأم . هذه الردة الإصلاحية، حاولت حكومة عبد الله إبراهيم إيقافها من خلال تشكيل لجنة إصلاحية جديدة تحت اسم "لجنة التربية والثقافة" و ذلك ضمن مخطط تنموي و اجتماعي شامل صدر سنة 1959. و هكذا، تم فصل نظام التعليم عن الرؤية القطاعية التجزيئية، و تم ربطه، في المقابل، بمخطط عام وهو ما يتجلى من خلال التوجه الاستراتيجي القائم على أساس ربط التعليم بمشروع المدرسة الوطنية المنسجمة (انسجام الأسلاك و الثقافات و الكتب المدرسية و عصرنة التعليم الأصيل : التوحيد و التعريب المعقلن). و ضمن هذا المشروع تم التنصيص على جعل اللغة العربية لغة البحث و العمل، من خلال إحداث مدارس و كليات و معاهد وشهادات جديدة، منها معهد الدراسات والبحوث حول التعريب و المدرسة الغابوية بسلا ، و إعادة تنظيم التعليم العالي الأصيل، و البحث العلمي في الشريعة الإسلامية واللغة العربية. لقد امتلكت حكومة عبد الله إبراهيم رؤية إصلاحية، تجمع بين المشروع الوطني و بين تحقيق الأهداف التنموية، و ضمن هذا المشروع حضر مبدأ تعريب نظام التعليم كمدخل أساسي لتوطين المعرفية العلمية، نظريا و تطبيقيا. لكن، مصير هذا المشروع التعليمي الوطني الطموح كان نفس مصير حكومة عبد الله إبراهيم، التي تم الانقلاب عليها، سياسيا، من طرف ما سماه الأستاذ محمد عابد الجابري ب" القوة الثالثة" التي تشكلت من النخبة الفرنكو-عِرقية التي تمثل، في معظمها، المشروع الاستعماري الموؤود. و قد تجسدت القوة الثالثة، حزبيا، في حزب "الفيديك" الذي أسسه أحمد رضا كديرة، مدعوما بنخبة عسكرية مخلصة للمشروع الاستعماري يقودها الجنرال محمد أفقير، بالإضافة إلى نخبة اقتصادية وليدة النموذج الريعي الاستعماري. محمد عابد الجابري- في غمار السياسية: فكرا و ممارسة (الكتاب الأول) – الشبكة العربية للأبحاث و النشر – ط: 1- بيروت – 2009 – ص: 185 باحث