ماذا تقول المعطيات الإحصائية، وتقارير المنظمات المحلية والدولية والأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني، عن العشرية الأولى للقرن الجديد، وما شاب هذه الفترة من رياح عاصفة جعلت سفينة المغرب تتأرجح، وهي تعبر مضيق التأسيس لمفهوم جديد في ممارسة السلطة ولدولة الحق والقانون . مياه كثيرة مرت تحت الجسر، غير أن ما بقي راسخاً يتصل بثلاث مستويات سيكون لها تأثير حتى في العقد الثاني الحالي، وهذه الرهانات هي التحرر من قيود الماضي السياسي، وتجديد الحقل والخطاب السياسيين، واستكمال الانتقال نحو الممارسة الطبيعية للحياة السياسية . لا يمكن الحديث عن تقييم لتجربة العشر سنوات الماضية دون التوقف عند تجربة حكومة التناوب التي ارتبطت بحدث انتقال السلطة بوفاة الملك الراحل الحسن الثاني إلى الملك محمد السادس، فمنذ وفاة الحسن الثاني في يوليو/ تموز ،1999 عمل محمد السادس مع الفريق الحكومي الذي استقدمه والده والذي كان يقوده رئيس الوزراء عبدالرحمان اليوسفي، وزكاه في سبتمبر/ أيلول 2000 بتعديل حكومي جزئي حيث جدد الثقة في رئيس وزراء والده، والذي سيقود الحكومة إلى غاية انتخابات ،2002 حيث ستبرز أولى الخلافات بين الاتحاد الاشتراكي الذي كان يقود الغالبية الحكومية ودوائر القرار، عندما سيجري تعيين وزير تنوقراطي هو إدريس جطو على رأس حكومة مشكلة من فسيفساء سياسية، حينها اضطر الاتحاد الاشتراكي، الحزب الأغلبي الذي حاز أغلبية المقاعد البرلمانية إلى إطلاق ما سمي آنذاك ب”الخروج عن المنهجية الديمقراطية”، حيث اعتبر الاتحاديون أن اتخاذ قرار من هذا القبيل يعني إشارة من الدولة إلى فترة الانتقال الديمقراطي انتهت أو شارفت على الانتهاء، وأن المغرب مقبل على مرحلة جديدة بعد أن رتب الجالس على العرش أوراقه كاملة، وقام بإحلال وجوه جديدة من جيله في مناصب المسؤولية الحكومية والتدبيرية، وكان وجود التنوقراطي إدريس جطو على رأس حكومة مشكلة من أحزاب، دلالة سياسية، تلقتها نخب الأحزاب كإشارة على أن الملكية في المغرب، التي تحظى بإجماع كل المكونات السياسية، بدأت في ممارسة دورها الدستوري، من خلال رؤية إدارة للحكم، تميزت بإطلاق جيل جديد من الإصلاحات السياسية، همت في مستوى منها ما يتعلق بحقوق الإنسان، عندما صادق الملك على تشكيلة “هيئة الإنصاف والمصالحة” في أواخر سنة ،2003 واعتبرت التجربة المغربية فريدة في العالم العربي، حيث دشن بها المغرب مرحلة حقوقية جديدة تتعلق بمقاربة جديدة لقضية الاعتقال السياسي، أي ما يصطلح عليه بالتصفية النهائية للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان .
طي صفحة الماضي الأليم
لم يكن من السهل تماماً أن تنظم جلسات استماع إلى الضحايا، وتذاع مباشرة في التلفزيون ويشاهدها ملايين المغاربة . اعتبرت هذه التجربة التي كانت تريد أن تطوي الملف الدامي لما يعرف في المغرب ب”سنوات الرصاص”، مؤشراً على رغبة الدولة في تطوير مجال حقوق الإنسان، من خلال إنشاء المجلس الملكي الاستشاري لحقوق الإنسان، الذي تولى رئاسته المناضل اليساري الراحل إدريس بنزكري، قبل أن تسلم القيادة إلى المعتقل السياسي السابق أحمد حرزني . وحتى وإن كانت الآمال المعقودة على هذه الهيئات اعترضتها بعض المطبات، إلا أن المغرب الحقوقي حقق تراكماً كبيراً وأفرد ثقافة حقوقية جديدة انطلقت إلى العمل الميداني مع الناس حيث هم، ويبدو هذا جلياً من خلال عشرات الجمعيات التي تنشط اليوم في مجال حقوق الإنسان، بعد أن كان العمل الحقوقي في السابق خطاً أحمر . سياسياً، تصدرت عناوين كثيرة هذه المرحلة، غير أن أغلب الفاعلين السياسيين والأكاديميين يشيرون إلى أن “التناوب مشروع لم يكتمل”، في تنصيص على أن الآمال التي بعثها العهد الجديد، عهد محمد السادس، لم تتبلور كلها، وأن بعضاً منها أجهض في المهد . حتى إن أحد المشاركين في حكومتها الأولى والثانية، الدكتور عبدالله ساعف أستاذ العلوم السياسية ورئيس معهد الأبحاث الاجتماعية يؤكد أن الوقت الذي كان فيه وعد كبير بحصول قطيعة والمرور إلى مرحلة أخرى، فإن ما حدث، أوضح أن الإرادة لم تكن حاسمة . كما أن وزير الثقافة الأسبق محمد الأشعري، المنتمي إلى حكومة عبدالرحمان اليوسفي يشير في ما يشبه الجزم إلى أن الحصيلة كانت سلبية عندما يقول” لقد أخفق الانتقال الديمقراطي”، وهو يتكلم عن حصيلة حزبه في التجربة الحكومية . ويعتقد الدكتور عبدالله ساعف أن هذه المقولة صحيحة، حيث كان يمكن للتجربة أن تكون منعرجاً، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث . وكأنه، كما يقول، “قدر علينا أن تكون المنعرجات التي نعيشها متقطعة، وتأتي على شكل موجات” .
فشل تجربة التناوب يشير الدكتور ساعف إلى أن وجود مشروعات أخرى مزاحمة للمشروع السياسي أضعف من قوة مشروع التناوب، من قبيل، الذاكرة السياسية، والإنصاف والمصالحة، وقضية وضعية بعض الرموز، مثل “تحرير” عبد السلام ياسين، وعودة أبراهام السرفاتي إلى المغرب بعد مرحلة نفي، وهي أحداث كان لها وقع سياسي كبير .كما أن التناوب نفسه، أسهم في خلق الأجواء التي مهدت لهذه الأشياء . وإجمالاً، يقول “ تجربة التناوب كانت ثقيلة من حيث وزنها، لكنها تجربة غير مكتملة، وبالتالي تحولت إلى تجربة نسبية، ولم يحدث ذلك التحول الذي يجعل المجتمع يخرج من السلطوية النسبية إلى الديمقراطية الحقيقية، وما زالت سيرورة الانتقال طويلة وغير محدودة” . على مستوى آخر، فقدت العمليات الانتخابية وهجها، فبعد أن تحقق ما يشبه الإجماع على نزاهة الانتخابات التشريعية في ،2002 عاد الحديث عن تزييف إرادة الناخبين في ،2007 كما سجلت أدنى مشاركة للناخبين في تاريخ الانتخابات في المغرب منذ الاستقلال إلى الآن . وهذا مؤشر اعتبره المتابعون علامة على الفقر السياسي وعدم ثقة المغاربة بأن التغيير يمكن أن يتحقق عن طريق صناديق الاقتراع .
الحرب على الإرهاب
في الوقت نفسه ومنذ أحداث نيويورك ،2001 دخل المغرب في شبه حالة تأهب للتصدي للحركات الإرهابية، وشكلت أحداث الدارالبيضاء الإرهابية الدامية في ،2003 ضربة موجهة للحس الاستباقي للأمن المغربي، ما دفع إلى نهج سياسة تعقب واسعة للخلايا الإرهابية، ضمن ما يعرف بالحرب على الإرهاب والسلفية الجهادية، التي لا تزال مستمرة إلى اليوم . على مستوى حريات التعبير وحرية الصحافة، ازداد المغرب نزولاً في مؤشراتها، والتقارير الدولية تشير إلى نزوله إلى الرتبة ،135 في الوقت الذي كانت فيه البوادر الأولى للعشرية الأولى تشير إلى حالة من الطفرة النوعية في مجال الحريات، خاصة حرية الصحافة، التي بلغت في السنوات الأولى مستوى قياسياً من الانفتاح، انتهى في السنوات الأخيرة من الانكماش، وبرهن على مقدار التردد في الحسم في هذا الموضوع، فإما صحافة مفتوحة أو صحافة على المقاس وتحت الضبط . العشرية الأولى من الألفية الثالثة شكلت بالنسبة للمغرب مرحلة غنية، عرف المسار التاريخي للمغرب، خلالها، تحولات كبرى، إذ طبعها التجديد في مشروع المجتمع المغربي الحداثي الديمقراطي . كما طبعها أيضاً الطموح الجديد والكبير، الذي يغذيه المغاربة اليوم، من أجل تنمية وإشعاع بلادهم، وأخذهم بزمام مصيرهم . وتعكس العشر سنوات الماضية الملامح الأساسية لأوراش العشرية الثانية، التي بدأت تتشكل بوضوح، وتتأسس على إصلاحات هيكلية، تجعل المغرب في وضع أكثر تقدماً، من خلال الاستمرارية والتطور في توطيد المكتسبات الديمقراطية والسوسيو اقتصادية، وتعزيز ثقة المغاربة في أنفسهم، وفي كفاءاتهم، وفي مستقبلهم . إن الخلاصة الأساسية للسنوات العشر الأخيرة، تؤكد أن المغرب لا يكف يتحول، ويتجه قدماً إلى التحكم في تنميته ومصيره . وسواء في الميدان الاجتماعي أم الاقتصادي، ورغم الإكراهات والصعوبات المتعددة، فإن المبادرات ما فتئت تتطور، ضمن دينامية تحفز المجتمع على المزيد من تحرير إمكاناته . وبذلك، فبالنسبة لبلد لا يتوفر فيه موارد من قبيل البترول والغاز، فضلاً عما يتحمله باستمرار من تقلبات الظرفية العالمية، فإن تحرير الطاقات والمبادرات والرأسمال البشري، يظل عاملاً حاسماً في تنميته . ومع استمرار جوانب النقص في الميدان الاجتماعي، وعدم كفاية النمو الاقتصادي للمغرب، فإن الرهانات كبيرة والتحديات أكبر .
الرهان على المستقبل
السنة الأولى من العشرية الثانية تمضي قدماً في تكريس وتثمين هذه التحديات، بإصلاحات ترسخ مبادئ الديمقراطية والمواطنة، وتستكمل مسلسل الإنصاف والمصالحة، بالتعرف إلى مصير ضحايا الاختفاء القسري، ورد الاعتبار للضحايا، وجبر الضرر الجماعي، وتواصل تأهيل الحقل السياسي الوطني، بأفق يرمي إلى تحديث المشهد الحزبي، وتكريس مصداقية العمليات الانتخابية بصفة نهائية، إضافة إلى تجديد الالتزام بإصلاح القضاء، وهي مهمة حيوية وجوهرية في هذه السنة، تندرج في تعزيز أوراش التحديث المؤسسي والتنموي . في مجال القضاء يخوض المغرب كفاحاً مريراً من أجل تأهيل هذا القطاع الحيوي لترسيخ الديمقراطية وتعزيز جو الثقة في مناخ الاستثمار في البلاد . هناك أيضاً محور التأهيل السياسي من خلال العناية القصوى بورش الإصلاحات السياسية المستقبلية، من ضمان شروط النزاهة والشفافية للاستحقاقات الانتخابية، واحترام مواعيد الانتخابات، وتكريس ثقافة الولاية الانتخابية الكاملة، فضلاً عن أن تعيين وزير أول من الهيئة السياسية الحائزة على المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية، فتح الطريق نحو ممارسة ديمقراطية أكثر حداثة، قوامها إعطاء الأولوية لمبدأي الاقتراع العام، والأغلبية السياسية . لابد من التذكير، هنا، بمعطى أساسي ميز العشرية الأولى، إذ برزت إرادة الدولة لتقوية الأحزاب السياسية، بوصفها مؤسسات لتأطير المواطنين، وفاعلين أساسيين في الممارسة السياسية، وأن وجود أحزاب سياسية قوية ومتجذرة، يتوقف على تجديد نفسها، وسهرها على توطيد ديمقراطيتها الداخلية .
الجهوية وحل لمعضلة الصحراء
من حيث الجوهر ستنطبع العشرية الجديدة بالقرارات التي اتخذها المغرب في العشرية الفائتة، وعلى المستوى السياسي، فإن إقرار المغرب لسياسة الجهوية، التي ستكشف عنها اللجنة الملكية المكلفة خلال العام الحالي، مؤشر على أن إرادة في الاقتراب من نظام فيدرالي، يكون حلاً جوهرياً لمشكلات التنمية المحلية وللتوازن بين الجهات، وحلاً سياسياً لقضية نزاع الصحراء من خلال طرح مقترح الحكم الذاتي . فعلى الصعيد السياسي، وفي جانب الحكامة والديمقراطية المحلية بشكل خاص، يأتي مشروع الجهوية ليشكل العنوان الأكبر لهذه العشرية الثانية، تتويجاً لعمل دؤوب، حتى أصبح خيار “الجهوية”، بالنسبة لمغرب اليوم، خياراً مجتمعياً حقيقياً . وهو خيار سياسي بالدرجة الأولى . كما أنه خيار اقتصادي واجتماعي وثقافي، خيار يندمج في المنحى الطبيعي للتطور التاريخي للبلاد . ومثلما هو الشأن بالنسبة للتأهيل القضائي والسياسي، أولى المغرب عناية قصوى للتحدي الكبير، الذي يواجهه المغرب في مجال الطاقة، باعتبار أن البلاد غير منتجة للنفط، وتستورد أكثر من 95 في المئة من حاجياتها النفطية من الخارج، ما يثقل كاهل ميزانية الدولة، خصوصاً أن نسبة 70 في المئة من دعم صندوق الموازنة توجه إلى المحروقات . وتأخذ هذه العناية محتواها الإصلاحي الهيكلي، بالتركيز على البعد البيئي، الذي لم يعد، اليوم، مجرد انشغالات نظرية مجردة، بل تحول إلى تحديات مصيرية، تسائل المجموعة الدولية والبشرية جمعاء، بفعل التدهور المتسارع للأنظمة البيئية، واختلال توازنها، والاستغلال المفرط للثروات الطبيعية . كما أطلق المغرب “المشروع المغربي للطاقة الشمسية”، الذي تبلغ الاستثمارات المخصصة لإنجازه 9 ملايين دولار .
التصدي للهشاشة الاقتصادية
عرف الاقتصاد المغربي، خلال السنوات العشر الماضية، تطورات عميقة . فنمو الاقتصاد الوطني اتخذ وتيرة جديدة، خصوصاً منذ سنة 2005 وخلال الفترة 1999-،2007 ورغم ثلاث سنوات من الجفاف، فإن النمو كان أقل تأرجحاً، مبيناً عن استقلالية تدريجية للنشاط الاقتصادي إزاء التقلبات المناخية، في سياق تطبعه تقوية القطاعات غير الفلاحية . ومكن هذا الاتجاه من فتح بعد جديد في وجه الاقتصاد الوطني، كما ينم عن ذلك النمو غير المسبوق للقروض المقدمة للاقتصاد والمداخيل الجبائية . ومع أن الاقتصاد الوطني عرف، في ختام العشرية الماضية، تحولاً بنيوياً، إلا أنه مازال يعاني الهشاشة: نمو غير مقرون بشكل كاف بإحداث فرص الشغل، عجز مزمن للميزان التجاري يتفاقم بفعل تقلبات الأسواق العالمية، نفقات مقاصة غير متوقعة، نفقات للأجور مازالت تثقل كاهل ميزانية الدولة، تفاوتات جهوية بارزة في ما يخص التنمية، نسبة بطالة مرتفعة نسبياً . وكشفت الأزمة العالمية الحالية عن هشاشة بعض الاتجاهات الإيجابية، التي ميزت الاقتصاد الوطني خلال السنوات الأخيرة، وستؤدي إلى تفاقم مكامن ضعفه البنيوية . وعلى غرار العديد من الدول، فإن آثار الأزمة في المغرب ستمر بالأساس عبر قناة المبادلات: التجارة الخارجية، والنشاط السياحي، والاستثمار الأجنبي المباشر، وتحويلات المغاربة المقيمين بالخارج . خلال السنوات العشر الماضية، قام المغرب بإطلاق أو تعميق إصلاحات اقتصادية بنيوية، غالباً صعبة، ولكنها تنطلق من إرادة توفير شروط نمو قوي ومستدام، يعزز المشروع المجتمعي الديمقراطي والتضامني للبلاد . ومع أن الإصلاحات، التي جرى نهجها، وصلت إلى مستويات غير متساوية من النضج، إلا أنها مكنت من تمتين الاستقرار الماكرواقتصادي العام، وتحسين محيط الأعمال، والرفع من تنافسية النسيج الإنتاجي، وهي قواعد أساسية للرفع من الاستثمار وتحرير المبادرة الخاصة . من الإصلاحات التي جرى نهجها خلال السنوات الأخيرة، نخص بالذكر، من بين تلك الأكثر أهمية وتقدماً، تحرير قطاعات متعددة من الاقتصاد، وفتحها في وجه العولمة، وتحديث القطاع المالي، وإصلاح قانون الشغل، ومأسسة الحوار الاجتماعي، وتبسيط السياسة الجبائية، وتسهيل إجراءات الاستثمار، وإحداث المقاولات .
تجريب قطاعات جديدة
باشر المغرب، خلال السنوات الأخيرة، تحولاً حقيقياً لنسيجه الإنتاجي، في اتجاه تنمية أكثر توازناً بين القطاعات، كفيلة بسد الخصاص الحاصل في النمو الاقتصادي الوطني، وبتفادي آثار الانفتاح، التي قد يصعب التحكم فيها، وإعادة تموقع المغرب في المبادلات العالمية . وجرى سن جيل جديد من السياسات والاستراتيجيات، التي تهدف إلى تنمية القطاعات المفتاحية للاقتصاد: مخطط “إقلاع” للصناعة والخدمات، و”رؤية 2010”، ثم “رؤية 2020” بالنسبة للسياحة، و”رواج” بالنسبة للتجارة، و”المغرب الأخضر” بالنسبة للفلاحة، وبرنامج “Impact” بالنسبة للتقنيات الحديثة . . .