طبعا هو من أصول قروية، تابع دراسته غاية الشهادة الابتدائية، في تلك القرية المنزوعة من كل نسمة حضارة. كان يقطع المسافات الطوال إلى مدرسة ذات الحجرة الواحدة، لم يتبق لها باب أو نوافذ، أو خشب للطاولات، عدا سبورة متهتكة، ضل بعض الصبية يحملونها بالتناوب إلى بيوتهم خشية أن تلتحق بركب باقي خشب المدرسة، الذي تحول بقدرة جاهل إلى حطب، تدفأ به هو وقوم لا يعقلون عندما يتعلق الأمر بغريزة التخريب. والآن حان دور «الحاج مبارك» «المخازني» الذي حدثناك عنه طرته كي يتمم الحكاية: -?? لم أكن أنا الحاج مبارك «بن آل عمران» من التلاميذ النجباء، ولا حتى من المتوسطين، بل كنت من ضعاف الحال، أجيب المعلم عن أي سؤال. باختصار، لم أكن لأميز نفسي عن باقي الأشياء، كنت أمشي وفمي مفتوح للذباب يدخله أنى شاء، تجرني خطايا إلى أين؟ لست أدري، كل هذا كان أيام الاستعمار، قضيت بالمدرسة الابتدائية عقدا من الزمان ونيف، وفي الأخير نلت الشهادة بصعوبة صعود الروح إلى باريها، أو كأني الوحيد الناجي من باخرة «طيطانيك» الواصل إلى بر الأمن والأمان. بعد ذلك اقتنع أبي بألا جدوى من الإلحاح كي أتابع تعليمي بالثانوية، التي تبعد عن القرية بمائة «كلومتر» إذ كانت عينه بصيرة وفراشه «حصيرة»، المهم تطوعت للعمل كأحد أفراد (المخزن) الذين وضعوا تحث إمرة «المقيم العام»، مهمتي الوحيدة هي التنقل إلى القرى النائية، لإحضار طلبات «المقيم العام» أو تبليغ أوامره.مهمة انتقيت لها بعناية لما أتمتع به من أمانة عمياء، وبطن لا يدخله حرام، و نباهة الحمير وصبر العير. أعبر الوعار على حمار أفوقه جلدا وصبرا، لكن قيمتي كإنسان له شأو عظيم تبدأ وقت بلوغ القرى المعنية بالزيارة: إذ يهل أعيانها لاستقبالي «بالأحضان يا مخزني»، تكاد تقوم حرب وهم يتنابزون بالألقاب ويتنافسون عمن سيحظى باستضافتي، وكانت لهم في ذلك طرفة عجيبة وغريبة: إذ يحضر كل واحد من الأعيان أقوى ديك لديه، يربط إحدى رجليه ببندقية شيخ القبيلة، فإن استطاع الديك سحبها، فصاحب الديك هو من سينعم بشرف استضافتي ويتوج الديك المنتصر، على عرش مائدتي أنا «الحاج مبارك» بن آل عمران، يا من لا يعرفه، بالإضافة إلى كل ما لذ و»طابا» (السجائر)والعسل الصافي، ولبن مخيض. بيت المضيف يكون محج الجميع بعد صلاة العشاء، ويحظى صاحبه بشرف الجلوس إلى جانبي، والحق في طرح السؤال تلو السؤال قبل الجميع، وكذا الحرية في التعليق على أسئلة الآخرين، والتنكيت عليهم إن اقتضى المقام، ما داموا ضيوفا من الدرجة الثانية. كانوا يخاطبونني وكأني قادم من مجرة لا ترى بالعين المجردة، ولا حتى ب»التلسكوب»، يسألون أسئلة تافهة أجيب عليها بتثاؤب وسهولة تجرع الماء عند الظمأ، حتى بدأت أتوهم أني كنت مخطئا في تقدير معارفي، وإن لم تكن تزيد كثيرا عن كيفية قلي البيض، أو سلق البطاطس. وصرت أعتقد أني «أبو العريف» بذاته وفهمه السريع، كنت أراهم بأفواه الضباع ينظرون إلى قميصي «المخزني»، يتدافعون ويتزاحمون، كأنهم سيأخذون صورا للذكرى مع الدكتور «المهدي المنجرة»، يشيرون بأصابعهم ويعدون أزراري النحاسية، ببلاهة تفوق بلاهتي بعشرات الدرجات تحت الصفر قبل أن يكمل استدارته، وكنت ألمح بين الفينة والأخرى أحدهم وهو يناول الآخر قطعا نقدية، أدركت بعد طول مدة أنهم كانوا يتراهنون على عدد أزرار قميصي «المخزني» هل هي عشرة؟ أم تسعة لا غير؟ كنا نقضي الليل في الحديث الطويل عن غرائب وأخبار أهل المدينة، القبيح منها والجميل: كيف يعيشون؟ ماذا يأكلون؟ وحتى أين يوفرون ما قد هضموه؟. مرة سألني أحدهم، وهو يمسك ذراعي بقوة المجنون، ويحاصرني حتى لا أتهرب من الإجابة: - أحقا لسكان المدينة ماء يخرج من الجدران؟ أجبته كي يحل عن الإمساك بي: - بل لهم جدار يخرج منه ماء. أفرج عني حك رأسه وقال: - القول الصحيح إذن، هو أن الجدار هو الذي يخرج منه الماء، ومخطئ من يظن أن الماء هو من يخرج من الجدار. وفاجأني آخر ذات شتاء: - سمعنا أنهم وكي ينعمون بدفء العراك، يسكنون بعضا فوق بعض كما خلية النحل الطنان، هل هذه حقيقة؟ أم بهتان. أفهمته أنهم يتعاركون ويتقاتلون كي يسكنوا بعضا فوق بعض. عقول قوم طمسها التهميش والعزلة إذ لا زالوا يستعيرون من عند بعضهم البعض شعلة نار ل «كانونهم»، الذي كسته سيول الفول المطحون، لكن قدومي بالنسبة لهم حدث تاريخي يستوجب عليهم الاحتفاء به غاية الاقتتال، مثله مثل باقي احتفالاتهم الموسمية الشهيرة بين القبائل: ركوب الخيل (فانتازيا)، «الحلايقيا» (الرواة) بائع التوابل والأدوية الفلاحية، و...و... لذا قدومي كل سلعة مهما كسدت تجارتها تعرف رواج السلع المستوردة. وعلى وجوه كل الأطفال بل حتى الشبان والشيوخ تظهر علامات الحبور والمسرة، فيبالغون تبعا لذلك في الكرم الحاتمي (وأحفاده المتبقيين). قطعان الماعز المسكينة هي الوحيدة التي كانت تكره قدومي و»تكحل بالعماء لرؤيتي»، معذورة لكونها لقبتني ب «هولاكو» إذ كان قدومي إعلانا عن إبادة جنسها «العنزي»: في رمش عين قط، تصبح إحداهن قربانا لوجبة العشاء والسهرة، إن عشاء ليلة واحدة بضيافة القبيلة، لكفيل بإشباع سكان حي صيني وما جاوره، لا مجال للترويج في مجامعهم للمقولة التي يرددها البعض عن ظهر جوع «أكل خفيف ونوم لطيف» فتلك ترهات لا يؤمن بها بطنهم العربي الأصيل. ولأني كنت في ضيافتهم أنام فوق الغمام على ريش النعام، وأستمتع ببعض من لذات الحكام، حكم القوي هو من يجعلني أعود للمأمور وأوامره. آه لو خيروني، لاخترت البقاء، كيف لا أأخر الرجوع إليه؟ وهم يخصصون لي غرفة بكل منافعها وبكل ما يدفئها عدا المرأة، فذاك عرضهم يحافظون عليه في الجهار، وأحيانا كثيرة يجيزونه في ما بعد النهار، ويستحسن - في رأيهم - أن يتوارى المبتلين به وراء الأشجار لأن البلية تقتضي التستر. يهيأ لي حمامي، فرشي وأكلي الساخن، وترى دخان المطابخ يتصاعد من كل المداخن. بل حتى حماري (أعزكم الله) كان المفضل لدى آتان القرية،لا يأكل إلا الشعير، ولا يشرب إلا من ماء الغدير. وأثناء الرحيل وإتمام المهمة على الشكل الجميل، حتى وإن تعلق الأمر باعتقال أحد أبناء الأعيان، فهم من كانوا يحضرونه لي مكبلا ويربطونه وراء حماري، وفي الأخير أعود محملا بالخيرات للمقيم الشريف، وببعض منها للعبد الضعيف. مرت سنين وشخصيتي في انفصام: بالمدينة عبد مأمور أنفد حتى أستنفد، وأوبخ حتى «أستقرد». وبالبوادي النائيات نجم مشهور أو حاكم «الماغول» أأمر و»أستأمر»، أحرر وأستعبد. أذكر أني وأثناء زيارتي لإحدى البوادي الموغلة في قرون الجبال التي تجعلك تشهق وتنهق وتكاد روحك تزهق قبل وصول قمتها، وكان الوقت قيضا، لما جاءني شيخ القبيلة ومعه نفر من الشيوخ، الذين قاطعوا الموت، وقرروا ألا يتركوا للدود ما قد ينقي به أسنانه - إن كان للدود فم أو أسنان طبعا - أخذوا من عمر الزمان حقهم وحق الصغار منهم، تنحنح الشيخ الرئيس - في فمي - كما الحصان صهل قائلا: - مللنا الخذلان وعيشة الذل والهوان، وقررنا أن نلحق جميع الشبان بجيش المقاومة الذي حدثنا عنه.(رفع بندقيته عاليا) أخبر مقيمك العام أن إقامته لن تدوم عاما، أبلغه أننا جميعا لا ندين له سوى بالجهاد الذي حثنا عنه الإسلام. ثم رفع بندقيته عاليا فانطلقت زغاريد نساء القرية وهن يودعن شبابا بعمر البدر، على أكتافهم بنادق وبالكف اليسرى قبضة زيتون، هكذا فهمت أني لن أعود إليهم مرة ثانية بأوامر المقيم العام ولا هم يحزنون، فشرارات العصيان حطت على قش الاستعمار فاندلعت الثورة بقوة البركان، وكان النصر. تحررت البلاد وبعض العباد، ولم أكن من بين المحظوظين المنعمين أبناء الحواضر «النزقين» ولا من المشفوعين المسنودين إلى سدة الحاكمين. فقط احتفظ بي في تلك المهنة، التي مات حمارها، وعوض بحمار أبلد مني وممن سبقوه للنهيق. كان حالي كحال «سيزيف» مع صخرته، الفرق فقط في كون الصخرة هي التي كانت تتدحرج منه. أما أنا؟ هو الذي كان يتدحرج من على الحمار أثناء الانحدار. بعد ذلك جاء من يستخلف المقيم في مهمته، وهكذا «عاد عبد الحليم لمواله القديم». الرحلة الأولى بعد الاستقلال كانت لأحد القرى، التي كانت تستهويني زيارتها: لجمال طبيعتها ونقاء مائها وهوائها، وكرم أهلها المتميز، وصلت القرية في عز العتمة بعد صلاة العشاء، وجدتها على غير عهدي بها: لا أحد في انتظاري سوى أثان جاءت تساوم فحولة حماري (الجديد)، لكنها عادت من حيث رعت. قصدت المسجد، وجدت الفقيه أمام «طنجرة» من الفخار الذي لم يعد له ما يفاخر به، سوى وجه مكحل، يناكي به سواد قطع الفحم ، كان الفقيه يسبح بحمد الله ويحرك «الطنجرة» بخلاط من أغصان الشجر(المراك) فتتصاعد منها رائحة «الملفوف» والفول المدعوك كما رائحة غازاتنا الطبيعية، التي لا يرغب أحد في استنشاقها ممن يجالسه. تقززت، جلست بعد أن رحب بي الفقيه الطباخ، قلت له وأنا بصدد سلخ حذائي العسكري الثقيل من على قدماي المتورمتين من كثرة المشي على الصخور الناتئة التي جعلت (حذائي) يشهق شهقته الأخيرة: - ابعث رسولا للقوم يخبرهم بقدومي، أوصيهم ألا يضيعوا وقتا كثيرا في انتقاء من سأبيت الليلة في دفء فراشه، وليسخن ماء الحمام، وليهيئ الطعام والمرقد، وما قد احتاجه بالكمال والتمام. أنا اليوم متعب وليست لي رغبة في الحديث مع أحد مهما غلى شأنه. لم يكلف الفقيه نفسه عناء الاستدارة كي يرد علي، لكنه تجشأ قولا، بنغمة لا تنم عن أية نفحة اهتمام: - «ما من دابة على الأرض إلا وعلى الله رزقها». - زجرت في وجهه ضاحكا: - أيها الفقيه الموقر، حسن كلامك واعفو عن اللحية، ماذا تعني بقولك هذا؟ رد الفقيه على كلامي بهزة كثف وقال محوقلا: لا حول ولا قوة إلا بإذن العلي الكريم، أيظن الذي كان ينوي التمتع بعشائه المطبوخ بشهوة الطباخ الجائع، أن الله سيبعث من يشاركه فيه؟. أجبته بنخوة الشبعان إذا تجشأ: - ومن قال أني معدتي سترضى بعشائك البئيس؟ أنا لا أقبل غير اللحوم بديلا لعشائي، قد أبعث لك ببعض منها، جزاء وشكرا، لزهدك عن الملذات، فقط أبشر القوم بقدومي. - جف الضرع، ولم يترك جراد جاء بعد رحيل الاستعمار شيئا من الزرع، أما القوم الذين تسأل عنهم قد علموا بتشريفك، ومع أمهم على النار بالوا، شخروا ثم ناموا، سأصب الطعام، فخذ مكانك قرب المائدة إن كنت من الضيوف الجائعين. كلام الفقيه أيقظ في الذات كرامة لم تكن تعنيني أبدا في شيء، لكنها هذه المرة، ألحت إلحاحا على أن أعاند جوعا يقطع الأسلاك عن جهاز التفكير، ويشل حركة كل الأعضاء، ويطفئ طاقة البدن. غصبا عني نط لساني في الاتجاه المعاكس لرغباتي الباطنية: - أفضل النوم خفيفا: «ريجيم» سأتعود على طقوسه منذ الآن. فقط ناولني غطاء يقيني هذا القر الذي جعلني أقر أني ما رأيت أقر وأصقع منه أبدا. أمسك الفقيه دفترا رمادي اللون أكل الدهر حواشيه، وعافت الجردان رائحة الزيوت الملتصقة به، التصاق القمل بمؤخرة «شامبانزي» (أدغال إفريقيا الوعرة)، فك بعض الأوراق عن بعضها، رفع نظره في اتجاهي وقال: - سأشنف مسامعك يا ضيفي العزيز، بجرد لكل ممتلكاتي: قدر: حجم صغير عدد واحد لا غير. إبريق للوضوء: سعة لتران من الماء، أيضا عدد واحد. سجاد للصلاة: متر ونصف، عليها صورة المسجد النبوي، عددها واحد لحاف للنوم: حجم شخص واحد (لا ينام بجانبه)، طبعا عدد واحد لا ثاني له، أتسمعني؟ قلت لا ثاني له. أما في ما يخص الملبس، كما ترى فليس على جداري مشجاب واحد. الفائض عن الحاجة: هي بردعة الحمار، عددها واحد، فإن كنت بها قنوعا، فلن تجدن منا منوعا. الواقع أني خفت أن يطردني الفقيه خارج «قصره»، وأقعدن ملوما مثلجا، فما كان مني إلا أني لذت لصمتي أعانقه في انتظار الصبح، الذي تمنيت من كل أعضائي المثلجة أن يأتي قبل أوانه، وبت في انتظار الذي طال انتظاره، وكنت خلال ذلك أحتك بالأرضية (التي زادها الطين بللا من تحت بللي)، عساني أولد مقدار دفء طفل رضيع، أو «جربوع» وضيع، لكن هيهات أن يعترض سبيل الصقيع السكران،المتهور، المتسرب إلى داخل مفاصلي، من تحت وفوق باب الدار ووسطها، لم أعد أشعر أن لي أصابع أو حتى أطراف كباقي البشر، اصطكت أسناني وأنا أنادي الفقيه المبجل، الشهم الحكيم، الكريم: - سيدي و مولاي الفقيه العلامة، ها قد عرفت قدري: هل يتواضع، ويتكرم، ويتنازل، ويسمح لي حمارك المبجل، العظيم، الذكي أن أستعير منه بردعته غاية الصبح، قبل بزوغ الشمس؟ أزاح الفقيه الغطاء عن وجهه، فكر للحظات تأملني وقال: - لا كلفة في منفعة = بين إخوة في بردعة.