لم أكن لأكتب هذا الموضوع إلا بعد أن أصابني أرق كبير في ليل طويل، عندما قرأت عن خبر قيام الجماعة الحضرية بحملة من أجل "اجتثاث الكلاب الضالة". و في حقيقة الأمر قد أفزعني هذا لأنه أعادني نحو عشرين سنة إلى الوراء لصور تراجيدية لم تمحى بعد من ذاكرتي. فقد كان الوقت حوالي منتصف الليل، كنت قادما إلى المنزل بعد حمام دافئ ، و ما إن اقتربت من دكان عبد "العزيز الكفايتي"، حتى بدأت لعلعة الرصاص تهز صمت المكان، امتلكني خوف شديد، لم أفهم شيئا حتى قدم نحوي شخص طويل القامة ببنية قوية يرتدي لباس القنص ، و في يده بندقية صيد ، يحدد هدفا ، يضغط على الزناد، و يسدد ..، تبدأ كلبة ضائعة في الصراخ في ما يشبه البكاء و الدم ينزف من بطنها، إنها حامل، يتقدم القناص ببطء نحوها، تنظر إليه كأنها تتوسل إليه لعل الحنان ينزل على قلبه فيضمد جراحها العميقة، يكون جوابه بدون تردد رصاصة ثانية في الرأس لتنهي آخر فصل من حياتها البئيسة في هذه المدينة. بعد عشرين سنة لازالت الأمور تعالج بنفس الآليات و العقليات، و قد حاولت أن أبحث أي مصوغ يجيز القيام بهذه المجازر في حق حيوانات بئيسة ، فلم أجد إلا أن أقول : حسبي الله و نعم الوكيل . فهذا لعمري يعكس عقلية مرضية ينتفي فيها الإحساس بالرأفة و الرحمة تجاه الضعيف و يغلب عليها نشوة مشاهدة الدم الساخن كأفلام الرعب الهيتشكوكية، و في الأخير نحن نقول أننا حداثيون، متحضرون، رؤوفون . قد يقول أحدهم أن هذه الكلاب ضالة، و البعض منها قد أصابه السعار، و يحتمل أن تنقل العدوى إلى الحيوانات الأخرى، و حتى إلى البشر. و سيكون الرد عليه كالتالي: أليس هذا الفعل الإجرامي هو الضال في حد ذاته؟ أليس لهذا الحيوان الحق في الحياة كباقي المخلوقات؟ أليس من حل حضاري آخر لمعالجة موضوع هذا الحيوان الأليف و المخلص للإنسان غير القتل، مثلما ألفنا التلذذ بقذف القطط بالحجر و ضرب الحمير و البغال و التنكيل بها بما جابت به أيدينا في سادية غريبة ، و في الأخير نحن نقول أننا حداثيون، متحضرون، رؤوفون . هل هذا الغرب الذي يعتبره البعض منا " نجسا" ، هو أكثر إنسانية منا ؟ عندما يقوم بتجميع الحيوانات المتشردة المدينة من كلاب و قطط ، و يقدم لها المأكل و المشرب و الدواء ، حتى إذا ما تعافت يأتي العديد من السكان و يختارون منها ما يريدون بثمن رمزي، تؤنسهم في وحدثهم و تسهر على راحتهم و طمائنينتهم في إخلاص فريد قل وجوده في زمننا الحالي. هذا هو الإسلام يا عباد الله..! ألم يشاهد أحد منا في القنوات التلفزية أو يقرأ في الموسوعات الثقافية ما يقدمه الكلب من خدمات جليلة ، كالحراسة و عمليات إنقاذ لإنسان من الغرق في البحار و الأنهار والكشف عن الناجين عند حدوث الانهيارات الثلجية ، و مرافقة المكفوفين و وفضح مهربي المخدرات في المطارات و الموانئ ، لما منحه الله من حاسة شم قوية و ذكاء ثاقب، تجعله صديقا للإنسان بامتياز، بالإضافة إلى وفائه و إخلاصه لصاحبه ، جعلت حتى تراثنا الأدبي يضرب المثل بهذه الخصال الرائعة التي قل وجودها بين بني البشر. أين هي جمعية الرفق بالحيوانات في هذه المدينة ؟؟ يبدو أننا مازلنا نفتقر بشكل كلي لثقافة احترام الحيوانات و الاعتناء بها، رغم أن سيرتنا النبوية أيضا غنية بمعاني هذا الاحترام الواجب لها. كما يبدو أيضا أن القيمين على هذه المدينة لا يحرجهم الأمر من الناحية الأخلاقية، وهم الذين يسافرون في كل مناسبة عند جيراننا الشماليين دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التفكير في مقاربة جديدة لمعالجة هذا الموضوع. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء