أولا مفهوم الثقافة الشعبية الثقافة الشعبية هو مجموع الفكر الشائع داخل الأوساط الشعبية و يشمل طرق الإدراك الخاصة بالمجتمع الذي نتجت في إطاره باعتباره جزءا من الإنتاج الذهني الشعبي في فترة معينة و تنتج عن هذه الثقافة الشعبية الطقوس و الأعراف و فنون القول و أشكال العمران و غيرها فالثقافة الشعبية ليست جامدة و إنما هي قوة خلاقة للعمل و الإنتاج الجماعي . وترتبط مكونات الثقافة الشعبية ارتباطا شديدا بعضها بالبعض إن الثقافة الشعبية كل لا يقبل التجزيء فهي كلها قوة فعل لا ينفصل فيها الفرد عن الجماعة وهي تتجسد عبر التقاليد والعادات والطقوس، وعبر لغة الخطاب اليومي وهو ينقل الأساطير، والملاحم والأخبار والأسرار الدفينة والقصص التي تكون التاريخ الثقافي للشعب، إن اللغة الشعبية تجسيد للحالات المتعددة للشعب : حالة الشعب وهو في فرح عارم أثناء الاحتفال بوفرة الطعام (ولائم –مأدبات – زرود) أو أثناء الاحتفال بالمتعة الجنسية (الزواج) أو الاحتفال بولادة أو موسم فلاحي أو بعيد شعبي. هذه الاحتفالات يصاحبها خطاب فكاهة وهزل شعبي صاخب يتمتع بحرية خاصة وهو يغطي احتفال الشعب بالحياة المادية وهنا تظهر لنا خاصية لثقافة الشعبية المرتبطة "بالمبدأ المادي الجسدي ".([1]) ففي هذا الاحتفال العارم بالجسد الإنساني وهو يحقق المتعة لا يتخذ الموت طابعا مأساويا بل طابعا مكملا للحياة .إنه جزء من الحياة لذلك يستقبل بالهزل مثله مثل الولادة لأنه الوجه الآخر للحياة . إن الثقافة الشعبية تنسب "المأساة" عندما تصبغ عليها صورا هزلية حسية مستمدة من حياة الشعب فنجد عبد الرحمن المجذوب يصور علاقة الإنسان بالموت على شكل حصاد قائلا: " الأرض فدان ربي والخلق مجموع فيها عزرائيل حصاد فريد مطامرو في كل جيهة "([2]) فإذا كان الحصاد يحصد سنابل القمح عندما تنضج و يخزنه في المطامر أي يعيدها إلى التراب فكذلك الموت يحصد الأرواح عندما تشيخ و يعيدها إلى التراب . ف" الموت إذن ليس في تعارض مع الحياة بل هو ضروري لها ، هو عبارة مرحلة تجديدية والموت يوضع دائما في ارتباطه مع الولادة : القبر في ارتباط مع ثدي الأرض الذي يعطي النهار فهذه المراحل (حياة – موت –حياة ) هي المراحل المحددة للحياة نفسها " ([3]) كما تجسد اللغة الشعبية حياة الشعب وهو يعاني من شظف العيش والحرمان وتنقل مختلف أنواع المعاناة سواء كانت طبيعية (كوارث طبيعية ) أو اجتماعية أو سياسية . وهكذا تظل الثقافة الشعبية – بمختلف أنواعها – تجسد حياة الشعب الحقيقية وهو يرتبط بواقعه كما تجسد طبيعته الإنسانية كجزء من الطبيعة والحياة وتجسد هذه الطبيعة عبر الاحتفال بالمتعة واللذة التي هي انتصار له على الألم والخوف. ويتجلى احتفال الثقافة الشعبية بالمتعة أو اللذة من خلال شكلين أساسيين : الاحتفال بالطعام والاحتفال بزواج . الاحتفال بالطعام : إن الاحتفال بالطعام هو احتفال بالوفرة وتعدد أصناف الطعام الشيء الذي يتحقق في ظروف خاصة أي في الولائم والأعراس والأعياد لذلك يكثر وصف الولائم في السيرة "سماط العجائب" . إن الوليمة يأكل فيها الخاص والعام ويجد فيها كل شخص مبتغاه لوفرة الطعام وتعدد أصنافه ولكثرة اللحوم . لكن الوليمة لا تقام إلا بعد تحقق إنجاز ما أو عمل يهم الجماعة : " لأن حفل الأكل لا ينفصل عن العمل ، إنه تتويج للعمل والصراع وصور الزردة تأخذ أهميتها القصوى وكونيتها وروابطها الأساسية مع الحياة ، الموت ، الصراع،البعث ، وهذا سبب استمراريتها في الحياة "([4]). إن الوليمة في السيرة تتويج لانتصار الجماعة على الطبيعة وفيها يمتد السماط بمختلف أنواع الطعام ويأكل الجميع – بدون تمييز – مدة سبعة أيام: " وامتدت الأسمطة وامتدت الأواني من طعامات وفطورات وخضرويات وحلويات وغير ذلك وأكلت كل طائفة على جري العادة " س-ج2، ص 26. "وصار يأكل من أفخر المأكولات .. وأمر بإحضار آنية المدام فحضرت البواطي ملآنة من العقار الذي صفا وراق وصار أصفى من دموع العشاق يتبعه من أصناف قطع الحلويات والهريسات وبعض المكسرات من فستق وجوز وما أشبه ذلك " السيرة ج1 ص 310. إن أجواء الوليمة تضفي نوعا من البهجة والفرح على الجميع فإذا كانت الوليمة تتويجا للمجهود الحربي وللانتصار الذي يحققه البطل وجماعته فهي تساهم في توفير متعة خاصة للمتلقي الشعبي : " إن الوليمة تتوج حدثا ما أو مجموعة من الأحداث ...وكلام المائدة كلام صريح ومرح وحسي "([5]) وشكل الطعام يختلف في الوليمة عن شكله في الحياة اليومية للشعب لأن كل شيء مختلف في الوليمة كما وكيفا ، ففيها يقدم أفخر أنواع المأكول أي الأصناف التي لا تقدم في الطعام اليومي ، الذي تغلب عليه الندرة والشح.. إن الطعام في الوليمة يتناوله الجميع (الجماعة ) في شكل استراحة جماعية من عمل متعب ، ويتم التركيز في الوليمة على –اللحم- كعنصر أساسي : ففي ضيافة متخيلة في السيرة يذبح العمالقة للبطل عشرين بقرة ومن الطيور ألف طير ويطلبون منه أن يأكل كل هذا وحده . " فقال شمرون : اعلم يا سيف أن الملك قد أكرمك وذبح لك عشرين بقرة ومن الطيور ألف طير ، فكل على مهلك لأن هذا كله من أجلك ولا أحد فيه يشركك " السيرة –ج2 ص 214. إن الراوي في السيرة يقدم للجمهور ولائم متخيلة يحتفل فيها بالأكل والشرب ، ويخترق فيها شح الواقع الذي يتميز بندرة الطعام والجهد الذي تقدمه الجماعة من أجل الحصول على كفايتها منه : فما على جمهور السيرة إلا أن يتخيل سماط النبي سليمان وسماط العجائب الذي يضم أفخر أنواع الطعام والشراب وأفخر الملبوس والمسموع والأكل يقدم في هذه الولائم بطرق سحرية وتستمر الضيافة سبعة أيام متوالية : إن السماط " فيه من جميع الطعام الذي يؤكل وهو على اختلاف الألوان وأما اللحم ففيه قدر لحم مائة جمل وأزيد فصار الفراشون يقدمون الأواني والحكيم يفرق لهم من جميع الأطعمة حتى تكامل سماط لا يكون إلا عند النبي سليمان ... فتقدموا وكل من كان مشتهيا طعاما يجده قدامه ، فأكلوا من تلك الأطعمة وتلذذوا حتى اكتفوا ...فباتوا إلى الصباح وكان الفطور حاضرا فأكلوا كذلك وهكذا مدة سبعة أيام " السيرة ، ج3 ، ص 251. وفي أحيان كثيرة يمتزج الاحتفال بوفرة الطعام والجو المرح والعابث الذي يصاحبه الحديث عن أشكال أخرى من متع القول و الوصف. الفرجة كمكون من مكونات الثقافة الشعبية إن ارتباط السيرة بالثقافة الشعبية يتجلى أيضا في احتفالها بالفرجة التي يقدمها الراوي للجمهور الشعبي ، وفي مشاهد الفرجة التي تنقلها السيرة فكثيرا ما يعلن البطل عن رغبته في الفرجة على مكان عجيب : (بستان – جزيرة – قصر- قبة- بئر ) فيقطع بذلك سيرورة الحكي . إن بطل السيرة لا يستطيع مقاومة الرغبة في الفرجة على كل شيء غريب أو عجيب رغم تحذيره من خطورة المكان . إلا أنه يصر على التعرف على المكان العجيب (المطلسم) فيوقف سيرورة الحدث ليصير طفلا ينظر بعيون منبهرة إلى هذه العوالم التي تظهر أمامه، وهذا التوقف المعترض للسرد لا يجسد فقط رغبة البطل وإنما يجسد أيضا رغبة المتلقي الشعبي الممتلئ بالفضول للمعرفة وبالرغبة في التخلص من أسر اليومي ... من طبيعة المتفرج أنه لا يتجاوز أي شيء يثيره فعطر المكان يجذبه وخبر المكان يسحره، والتحذير من الأخطار يجذبه ولا يقنع إلا بعد أن يتفرج على المكان ويفك ألغازه وهو بذلك ينقل المشاهد إلى عالم جديد يتجسد فيه الحلم الجمعي ويعاد فيه ترتيب العلاقة من جديد مع المحيط . هكذا تكون الفرجة "كالحكاية العجيبة نوعا من الحلم البدائي" ([6]) هذا الحلم الذي ينخرط فيه المتلقي الشعبي وهو يهرب من نكوص الواقع الذي يعيش فيه، هذا الواقع المليئ بالرتابة وندرة وسائل العيش . إن الفرجة في الثقافة الشعبية تقدم المتعة للمتلقي الشعبي الذي يشعر بالحاجة الى التخييل الذي يوجد فيها ، والتي يعرفه على شكل (مواسم ، أعراس ، تفواج ، فراجة ، نزاهة ...) الفرجة إذن نوع من الاندماج في حلم جمعي يتم فيه اختراق اليومي الرتيب والارتماء في جو الاندهاش والتخييل ، لذلك فالبحث عن الفرجة بحث عن الغريب والعجيب من أجل تأمين نفس جديد لحياة مملة ومتعبة.. إن الفرجة ترتبط أيضا بجو العيد على اعتبار أن العيد خروج عن المألوف وعن ما هو يومي فيه يحتفل الناس ويرخص لهم بحرية أكبر ولعل أغنية البنات في عيد عاشوراء وهن تتغنين بحريتهن في هذا اليوم خير ما يوضح ذلك " هذا عيشور ما علينا لحكام ألالا" "أمول الجلابة القرفية يهديك الله خلي لبنات يلعبوا شوية " (*) إن جو العيد الممتلئ بهجة وفرحا يؤدي بالناس الى الخروج الى الفرجة التي يتحرر فيها الجمهور من رتابة وضغط العلاقات الاجتماعية، ويستسلم فيها لمتعة رؤية أشياء جديدة لأن الجديد يأسره والعجيب يتملكه حقيقة . إن الفرق بين بطل السيرة والمتلقي الشعبي الذي تقدم له الفرجة هو أن هذا الأخير أكثر عجزا لأنه لا يحظى بنفس القدرة السحرية التي يمتلكها البطل . ويظل راوي السيرة وسيطا بين المتلقي البطل يقدم الأول عوالم للفرجة ويساعده على الاندماج مع شخصية بطل أسطوري قادر على تحقيق كل الرغبات. إن كل شيء في السيرة يؤكد انفتاحها على مكونات الثقافة الشعبية وتوظيفها لهذه المكونات. عن: البنية السردية و المتخيل في سيرة الملك سيف بن ذي يزن د محمد فخرالدين رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في الآداب تحت إشراف د محمد برادة كلية الآداب الرباط 1994 .. ------------------------------------------------------------------------ [1]- BAKHTINE(M) : Gallimard 1970 .. p 27 [2] - عبد الرحمن المجذوب ، الديوان ، الدارالبيضاء ، دار إحياء العلوم ، بدون تاريخ ، ص 4. [3] - BAKHTINE : op cit. p 281 [4] - ibid. p 282 [5] - ibid. p 284 [6] - MARTHE ( R) : Gallimard 1972 ...p 82 * أغنيات لازالت البنات ترددنها في عاشوراء وتطالبن فيها بحرية أكبر من التي يتمتعن بها في الحياة العادية .