لقد عبرت المجتمعات النامية أو المتخلفة منذ اصطدامها الحضاري بالغرب، ووعيها بالبون الشاسع الذي يفصلها عنه على مستويات متعددة، عن حاجتها إلى مختلف مظاهر التحديث. لكن الحداثة وإن كانت ضرورة ملحة، وحاجة لا غنى عنها، فإنها أدت بتلك المجتمعات إلى نتائج لم تكن في الحسبان. فقد تعرضت الثقافات المحلية والخصوصيات الذاتية إلى هجمة شرسة لا قبل لتلك المجتمعات بردها في ظل عولمة لا تبقي ولا تذر. وهكذا، فلئن كانت المجتمعات النامية قد نجحت بدرجات متفاوتة في الانخراط في العصر، إلا أنها دفعت مقابل ذلك ثمنا باهضا من مقوماتها الحضارية والثقافية، ابتداء من أنماط إنتاجها وطرق عيشها وانتهاء بتقاليدها وعاداتها واحتفالاتها وإنتاجاتها الرمزية. وتعد الأمثال الشعبية بدون شك واحدة من تلك الأشكال التي يتهددها الضياع والانقراض، إن لم يكن رصيد هام منها قد ضاع فعلا برحيل ما تبقى من الأجيال التي ظلت متشبثة بمقومات شخصيتها الجماعية. ووعيا بضرورة الحفاظ على هذا التراث والثقافي وصيانته من الضياع، باعتباره جزءا من الذاكرة الجماعية. إن قضية تأليف المثل لم تكن أقل إثارة للخلاف من مسألة تعريفه وخصائصه. فقد تباينت أراء الدارسين في ذلك تباينا كبيرا، فبعضهم يزعم أن المثل نتاج إبداع فردي، بينما يرجع آخرون كل الفضل في نشأة الأمثال وغيرها من الفنون الشعبية كالأغاني والحكايات... إلى الجماعة أو الشعب باعتبار هذه الفنون تعكس روح الشعب وتعبر عن إحساساته واهتماماته. يربط بعض الدارسين نشأة الأمثال بالواقع الاجتماعي، وينكرون تماما أن يكون إنتاجا فرديا ولّدته ظروف معينة. يقول ميخائيل عون: «على أية حال ليس المثل نتاج عصر معين أو بيئة معينة أو عقل فرد من الناس الأذكياء والحكماء، بل هو نتاج واقع علاقات اجتماعية، يمكن لأي حدث أن يوحي فيها بمثل من الأمثال...» ويبدو أنه قد تأثر في قوله هذا بالاتجاه الماركسي، الذي يرجع كل الإنتاجات ذات الطابع الرمزي والثقافي إلى الجماعة، في إطار التمييز بين مفاهيم من قبيل البنية التحتية والبنية الفوقية. ويعبر عن ذلك بشكل واضح حين يربط المثل بحقبة بعينها وبنمط اقتصادي خاص هو النظام الإقطاعي. يقول: «ويمكن القول بصورة عامة أن الأمثال هي نتاج الواقع الاجتماعي في عهد نظام الرق والعهد الإقطاعي، حيث المستوى الفكري والحالة السياسية والنفسية والتردي الاجتماعي في مختلف المجالات، كلها عوامل تفرض ولادة هذا المثل أو ذاك...». يقول أحمد شعلان: «لا ينتشر المثل ويصبح تعبيرا محببا إلا بعد أن يتعرض لعدة تحويرات مقصودة تؤدي إلى اكتسابه موافقة شعبية. ليس في وسعنا أن نعتبر المثل -كما لم نستطع اعتبار الحكاية- إنتاجا جماعيا بل لقد صيغ كل مثل ذات مرة، وفي مكان واحد، وزمن محدد وصاغه عقل فرد، مجبول على صياغة الحكم والأمثال. يتضح من خلال هذا النص أن شعلان لا يعترف للمثل بصفته إلا بعد إقراره شعبيا من خلال إدخال التعديلات المناسبة. بيد أن دارسين آخرين يرون خلاف ذلك، ومنهم كراب الذي ينفي بشكل حاسم أن يكون المثل شأن الحكاية إنتاجا جماعيا حينما يقول: «ليس في وسعنا أن نعتبر المثل -كما لم نستطع اعتبار الحكاية- إنتاجا جماعيا بل لقد صيغ كل مثل ذات مرة، وفي مكان واحد، وزمن محدد وصاغه عقل فرد، مجبول على صياغة الحكم والأمثال. وإلى الرأي نفسه يميل زيلر، فهو يعتبر أن الشعب لا يمكنه أن يبدع مثلا أو حكاية أو أي فن أخر وإن كانت له سلطة توجيه الأفراد والتحكم في ميولهم ونزعاتهم النفسية والاجتماعية ف»الشعب -بوصفه كلا- لا يستطيع أن يخلق شكلا أدبيا مكتملا بأي حال من الأحوال، وإنما يعتمد كل خلق وكل ابتكار واكتشاف على شخصية مفردة، ولابد أن كل مثل نطق به فرد في زمان معين ومكان معين، فإذا مس المثل حس المستمعين له، فهو حينئذ ينتشر بينهم، وكأنه عبارة ذات أجنحة، وعندئذ يتعرض المثل للتحوير والتهذيب حتى يوضع في قالبه القانوني بوصفه مثلا شعبيا». وفي مجاميع الأمثال العربية شواهد حية على أن الأمثال إبداعات فردية، فكثير من الأمثال الواردة في تلك الكتب تنسب إلى قائليها، وغالبا ما ترتبط بقصص وأحداث قد تكون صحيحة أو منحولة، فالأمثال «الحديث ذو شجون» «وأسعد أم سعيد» «وسبق السيف العذل» تنسب إلى ضبة بن أدد بن طابخة، وقد قالها في حادثة بعينها ذكر وقائعها الميداني في مجمع أمثاله. وإذن فليس هناك ما يمنع أن يكون مؤلف المثل رجلا واحدا بعينه، سواء أكان معروفا أم مجهولا. ولسنا بحاجة إلى التذكير في هذا السياق إلى أن كثيرا من الأمثال العربية كانت في الأصل أبياتا شعرية أو أشطرا منها، وإن كنا لا نستطيع أن نجزم ما إذا كانت في الأصل أمثالا ضمنها الشعراء أشعارهم، أم أنها لم تكتسب تلك الصفة إلا بعد أن ابتكرها الشعراء وجرت على ألسنة الناس. ولا يبعد أيضا أن تكون بعض الأمثال في الأصل أقوالا متداولة، فعمد الشعب إلى تحويرها وتعديلها، لتضحى من خلال الاستعمال أمثالا سائرة ذات قالب مستقر. وهكذا ومن خلال أخذ الآراء السابقة كلها بعين الاعتبار فإننا «لا نستطيع أن نطلق القول بأن تأليف الأمثال كلها يتم على وتيرة واحدة، بل نقول إن مؤلف المثل قد يكون شخصا بعينه، وقد يكون الشعب بمجمله، وقد يعدل المثل مع توالي الأيام والعصور، وقد يظل كما هو بدون تعديل أوتبديل». بأن تأليف الأمثال كلها يتم على وتيرة واحدة، بل نقول إن مؤلف المثل قد يكون شخصا بعينه، وقد يكون الشعب بمجمله، وقد يعدل المثل مع توالي الأيام والعصور، وقد يظل كما هو بدون تعديل أوتبديل». ولا يكتفي بعض الدارسين بذلك فحسب، بل يرون أن الأمثال باعتبارها فنا شعبيا في طريقها إلى الانقراض نظرا لعدم ملاءمتها للعصر الذي يعرف تطورا فائقا للعلوم المختلفة، وما ينتج عن ذلك من تغير في عادات الناس وسلوكهم الاجتماعي فالأمثال العامية أخذ انتشارها يتضاءل «في المدن والمجتمعات المثقفة شيئا فشيئا بسبب العزلة التي تفرضها على الأسر الحياة المدنية الحديثة». وإذا كان القول السابق يتنبأ باندثار الأمثال اعتمادا على التحولات الاجتماعية فإن دارسا آخر يربط المسألة بعدم قدرة المثل نفسه عن مواكبة الحياة المعاصرة بمختلف تعقيداتها، وتشابكاتها. يقول محمد أبو صوفة: «إن إنسان عصرنا، عصر العلم لم يعد يرى أن المثل كاف لتوضيح فكره ورأيه في عالم تعقدت فيه الحياة وتشابكت طرقها ولم تعد الأمور فيه واضحة بينة كما كانت». يمتلك الجمهور أو الشعب سلطة قوية على المثل، فهو الذي يمنحه الشرعية والوجود من خلال تداوله وتثبيته في أذهان الأجيال، وهو أيضا الذي يحكم باندثاره وموته حينما لا يبقى له وجود فعلي على ألسنة الناس، ولذلك يمكن القول: «إن للمثل حياة يحياها وموتا ينتظره وقد يطول، إذ إن بعض الأمثال مات واندثر ولم يبق له وجود على ألسنة الشعب، بل نراه مدفونا بين دفتي كتاب مهجور». ومهما تكن نشأة المثل الشعبي، فإنه يشكل أو بآخر، يجسد ثقافة المجتمع أو الطبقة الاجتماعية التي أنتجته، فطبقة العوام لها أمثالها الخاصة، وهذه لابد أن تختلف عن أمثال الطبقة المتوسطة أو أمثال النخبة. ويذهب زيلر إلى أبعد من ذلك، عندما يزعم أن الأمثال لا تنمو ولا تزدهر إلا في أحضان الطبقة المتوسطة أو الدنيا من المجتمع، ونجد صدى لهذا القول عند د. عبد العزيز الأهواني، فهو يزعم أن «الأمثال أكثر انتشارا بين الأميين منها بين المثقفين الذين يتقنون الكتابة والقراءة، والبيئات التي تعتمد على الثقافة الشفوية تتداول الأمثال وتحرص على حفظها والاستشهاد بها أكثر من البيئات ذات الثقافة المكتوبة». غير أن هذا الرأي لا يلاقي الاستحسان من الجميع، فهذا كراب يرى أن الأمثال وإن كانت مجهولة المؤلف أو شعبية المصدر، فلا يجب أن تدعونا إلى افتراض إمكانية «أن نفصل المثل المثقف عن المثل الدارج الشعبي». ويضيف قائلا بأنه «كانت هناك دائما عملية أخذ وعطاء بين المأثورات الشعبية والمثقفة». وفي هذا الصدد يقدم الكثير من الأمثلة عن الأمثال التي انتقلت من الثقافة العالمة إلى الثقافة الشعبية أو العكس في ثقافات مختلفة، مع خضوعها للتعديل والتحوير بما يتوافق مع أمزجة الأوساط الثقافية أو الاجتماعية التي تنتقل إليها وأذواقها. ومهما يكن من أمر نشوء الأمثال وتأليفها، فإنها تبقى نوعا فنيا لا تخلو منه لغة من اللغات لشغف الناس بصياغة أفكارهم في قوالب تجعل المتلقي ينتبه إليها. ولكي نعرف للأمثال قيمتها الحقيقية، يجب علينا أن نعلم أن الأديان السماوية أولتها ا قيمة عظمى، فقد جعلتها وسيلة للتهذيب أو لتعليم الحكمة أو للترغيب والترهيب أو للموعظة الخ... ومن الأمثال الواردة في الكتاب المقدس: «لا تستطيع أن تخدم الله والملك- الروح قادرة لكن الجسد ضعيف- الجواب الحسن يبعد البغضاء الخ». وفي القرآن الكريم وردت أمثال كثيرة في مواضع متعددة ومتفرقة. وقد وظفت لتأثيرها في النفوس البشرية، وقدرتها على دفع المرء لفعل الخير والابتعاد عن الشرور وترك المفاسد. فقد فضحت المنافق والكاذب، وصورت الطيب والخبيث والصالح والطالح. أستاذ باحث بجامعة محمد الأول