الثقافة الكونية هي نتاج تراكم ثقافات متجانسة ومتصارعة في آن واحد، وذلك على أساس أن آلية التوحد تفترض الصراع والتجانس في عملية مستمرة ولا تنتهي. والواقع نفسه يؤكد هذه الدينامية.ليبقى السؤال المنهجي في هذا المجال ما إذا كانت الثقافة نفسها تبقى هي دونما تغيير في إطار ذلك الصراع التجانسي. إن الإجابة عن هذا السؤال تفترض بالضرورة الوعي الكامل بدور الثقافة في بناء المجتمع الكوني المعاصر، وتلعب اللغة دورا حاسما في هذا المجال. لا شك أن كونية الثقافة مفهوم مدرج باستمرار على جدول أعمال كل مثقف في العالم، لأي جهة انتمى، ولأي تيار ثقافي محلي أو قومي أو عالمي أنتسب. على قاعدة هذه المقولة يمكن النظر إلى الفشل الذريع لهذا العدد الكبير من الندوات الثقافية في العالم الثالث، خاصة في الوطن العربي، والتي حملت في عناوينها شعارات الثقافة، والمثقف والسلطة، والانتلجنسيا العربية، والسلطة والمعرفة، والوعي الثقافي، والأمن الثقافي وكلها صدرت في كتب مطبوعة. مع ذلك، يلاحظ تقلص الفعل الثقافي الإبداعي في الوطن العربي في الآونة الأخيرة وذلك إلى جانب تقلص دور الفكر المقاوم للهجمة العارمة التي تشنها الثقافة الكونية الاستهلاكية عليه وتحاصر مراكز المقاومة والإبداع فيه. من نافلة القول أن الثقافة العربية هي ثقافة قومية شمولية إنسانية بالدرجة الأولى. وكل ثقافة قطرية أو طائفية أو مذهبية أو عرقية تقدم نفسها باسم الثقافة العربية القومية هي ثقافة عاجزة بالضرورة عن توليد فكر مقاوم للثقافة الكونية الاستهلاكية. يضاف إلى ذلك أن ثقافة التبرير السلفي والاحتماء بالماضي تحت ستار الخصوصية والأصالة والحفاظ على الذات من التشوه الثقافي الوافد من الخارج هي ثقافة عاجزة عن المقاومة أولا وبالتالي عاجزة عن حماية الذات الثقافية من التشوه والاستلاب. يكفي التذكير هنا بنموذج اليابان الفذ في هذا المجال حيث قام اليابانيون بأوسع حركة تحديث عصرية عرفها القرنان التاسع عشر والعشرون. فاستطاعوا بذلك حماية تراثهم وأصالتهم وتقاليدهم من الضياع برغم الهزيمة القاسية التي منيت بها اليابان عسكريا في الحرب العالمية الثانية ووقوعها تحت السيطرة الأمريكية المباشرة لعقود عدة. فمثقفي بعض المجتمعات فضلوا الرفض التام لاستيراد التكنولوجيا والانغلاق على الذات. لكن الانغلاق كان هشا للغاية خاصة أن قدرة الثقافة الكونية على اختراق هذه المجتمعات كانت هائلة لدرجة أن أيا من الأسوار الوهمية التي بنيت حولها لم تعمر طويلا. فقد غزت الثقافة الكونية جميع المجتمعات البشرية، وبدرجات متفاوتة، حتى النخاع. وهكذا، عمد بعض المثقفين في العالم الثالث إلى نشر مقولات توفيقية تدعو مثلا إلى استيراد كامل للتكنولوجيا الغربية على أمل وصول بلدانهم إلى مرحلة إنتاجها وتوطينها. وانتهت هذه العملية بالفشل الذريع أيضا. وحتى لا ننساق إلى جاذبية تحليل هذه الظاهرة الأخيرة فنبتعد كثيرا عن موضوعنا نسارع إلى التأكيد أن كونية الثقافية أوجدت انفصاما شبه كامل في الشخصية الثقافية لدى مفكري العالم الثالث بحيث التحق قسم كبير ومنهم بالمراكز الثقافية العالمية، وبقي قسم ثان في الداخل يدعو إلى المصالحة بين تلك المراكز والأطراف أي البلدان النامية والمتخلفة، ورفض قسم ثالث مفهوم الثقافة الكونية جملة وتفصيلا وفضل الاحتماء بدفء التراث والتلذذ بالشرب من معينه العذب متجاهلا كل التغيرات العاصفة التي حلت بالكرة الأرضية بأسرها. ويخطئ من يعتقد أن حماية الذات الثقافية تكمن في عزلها عن العالم الخارجي وحمايتها من مؤثرات الثقافة الكونية. مرد ذلك إلى استحالة هذا العزل تحت وطأة الثورتين الإعلامية والتكنولوجية من جهة، والانخراط القائم على أرض واقع جميع الدول وأسواقها التجارية الاستهلاكية في السوق الرأسمالية العالمية من جهة أخرى. وغني عن التأكيد أن الذات الثقافية المطلوب حمايتها من الاغتراب هي ثقافة الإبداع ليس الاستهلاك، ثقافة التغيير الشمولي وليس ثقافة الجمود والاحتماء بالسلف الصالح، ثقافة الوحدة القومية بأفقها الإنساني الحضاري لا ثقافة الأجزاء المفككة التي يعتبر كل منها أنه بديل للأمة ككل. إن خصوصية الثقافة المحلية في مواجهة الثقافة الكونية الاستهلاكية في هذه المرحلة بالذات هي خصوصية الثقافة المقاومة والفعل الثقافي الإبداعي في مختلف مجالاته. فالذات المهددة بالتفكك وتجزئة التجزئة بحاجة ماسة إلى مقولات ثقافية تعيد اللحمة إلى أجزائها لتحمي حاضرها أولا، وليكون لها دور فاعل في مستقبل البشرية ثانيا. إن مفتاح البحث في هذه الظاهرة هو افتراض تبلور في ذهني بصورة واضحة وأصبحت مقتنعا به اقتناعا شبه نهائي، ولا أقول نهائيا لأن علمي الاجتماع والسياسة والملاحظات الاجتماعية السياسية أيا كان نصيبها من الثبات هي أمور متغيرة يؤثر في نتائجها الأخيرة ومسلماتها الآتي من الأحداث، والأيام حبلى الأحداث على الدوام. هذا الافتراض هو أن المجتمع العربي، مثل كثير من المجتمعات الإنسانية تواق للاستقلال والمنعة والرقي والعيش الكريم جنبا إلى جنب مع الأمم القوية، فإذا دهمته أزمة عامة وسدت عليه سبل الولوج إلى تلك الأهداف، أخذ وعي جديد اجتماعي/ سياسي يتكون شيئا فشيئا، يخترق الوعي السائد ويحل محله ببطء، ممهداً لسقوط نظام اجتماعي/ سياسي قائم يعتبره مسؤولاً عن نشوء الأزمة وتفاقمها والإتيان بآخر يحمل مواصفات الوعي الجديد. وخلال سيرورة تراجع الوعي القديم ونمو الجديد تتراجع الاتجاهات والمنظمات والأحزاب التي تتغذى على الوعي القديم وتنمو الاتجاهات والمنظمات والأحزاب التي تتغذى على الوعي الجديد وتجسده بهذه الدرجة أو تلك، فإذا ساد الوعي الجديد وشدت المناخ الاجتماعي برائحته النفاذة، فوجئنا بظاهرة المنظمات والأحزاب الجماهيرية الجديدة التي تبدو لأول وهلة ولمن يميل لمفهوم " المؤامرة" وكأنها قد انبثقت من باطن الأرض بقدرة قادر! وفوجئنا بالمنظمات القديمة التي تنتمي إلى ذات الوعي وقد قويت عضلاتها وتطاولت قاماتها على حين غرة! لا شك أن جدلية تراجع الوعي القديم وانبثاق الوعي الجديد، في ظل الأزمة العامة، وما يرافقها من تراجع تيار سياسي وانبثاق آخر، وما يترتب عليها أخيرا- إن لم تحل دون ذلك قوة قاهرة- من اختفاء نظام سياسي/ اجتماعي سائد وقيام نظام آخر، هي جدلية توجهها حاجات الحاضر الملحة التي تختزلها المبادئ والأهداف الأساسية للتعايش العالمي السلمي. إن الوعي الجديد يحاول أن يتبنى أو يستعير الأداة، ويحقق فيها وفي المحتوى والأساليب المستعارة لتحقيق أعلى درجة من التطابق مع الأهداف الأساسية للأمة. لذلك فهو يعمل حيناً على التخفيف من غلوائها في الجانب الأيديولوجي أو التنظيمي أو جانب الأساليب، وحيناً يعمقها في هذا الجانب أو ذاك. إن أمة كالأمة العربية تملك تجربة تاريخية غنية ومتميزة امتدت قروناً متطاولة.. حيث امتزج في هذه التجربة الطويلة الديني بالدنيوي فغدا الإسلام مكوناً أساسياً من مكونات الشخصية العربية والثقافة العربية. واعتلت سدة السيادة وقيادة أمم أخرى، فلم تعرف خلال تلك القرون انتقاصاً من سيادتها أو استقلالها. وإلى جانب الملكية الفردية نشأت ملكية الدولة وما أفضت إليه من مسؤولية اجتماعية تجاه الجماهير وخاصة الفقراء منهم إضافة إلى صيغ العدالة الاجتماعية (الزكاة، الصدقة، الخمس.. ) وقد حفرت القرون المتعاقبة من الممارسة والوعظ والتنظير حساً في الوجدان الفردي والجمعي باعتبار العدالة الاجتماعية - سواء تحققت بهذه الدرجة أو تلك- مكوناً من مكونات أي نظام اجتماعي/ سياسي. نخلص من هذا الأمر إلى أن الوعي العربي الجديد وهو يتبنى أو يستعير الأداة والمحتوى والأساليب من الآخر كي يحقق أهدافه الكبرى، يحاول جاهداً تبيئتها و إعطاءها لونه ورائحته ومذاقه، إزالة تعارضاتها القيمية الحادة، أي حذف أو تشذيب النتوءات التي تتناول الغيب أو تجرح السيادة أو تتنكر للعدالة الاجتماعية. وقد يحتج البعض بوجود منظمات واتجاهات عربية متنوعة منذ زمن طويل لم تخضع لعملية الحذف أو التشذيب هذه. والحقيقة أن نشوء اتجاهات ونمو منظمات كهذه في كل مرحلة نهوض للوعي العربي أمر طبيعي ما دامت هذه المنظمات والاتجاهات لا تشكل الزخم الرئيس لذلك الوعي، بل تشكل أحد تعبيراته الفرعية، أحد تعبيراته الهامشية، إنها لا تشكل جذع الشجرة المتين بل أحد الفروع أو الأغصان. ويجب ألا يفهم من هذا الكلام بأننا نصدر حكما نهائيا في أمور قيمية تتسم بالنسبية بطبيعتها، فإن عملية مصاهرة طويلة الأمد قد تتم في المستقبل بين الحضارتين العربية والغربية مؤهلة لإحداث تعديل جوهري في منظومة القيم. كما أن الكلام السابق يكشف لنا الحساسية المتميزة التي يتسم بها العرب تجاه الدين أو الغيب والسيادة، هذه الحساسية التي طالما شكلت في جانبها الإيجابي حارساً يقظاً لاستقلال الأمة وجندياً مكافحاً ضد مستعمريها (شكل الإسلام القوة الروحية والثقافية الوافدة في حرب التحرير مثلا) كما شكلت في جانبها السلبي تلكؤا تجاه حضارة الغرب ككل ورفضاً لمنتجاته الفكرية والثقافية والقيمية مما خلق حاجزاً نفسياً بين العرب والغرب حال دون تحقق اندفاعة عربية للأخذ بأسباب التقدم من مصادرها في زمن قياسي كما فعلت اليابان وعدد من نمور جنوب شرق آسيا. لكن وفي المقابل يمكن تركيز النقد في الدعوة إلى الحوار الثقافي كوسيلة من وسائل بناء كونية المعرفة الإنسانية باعتبارها مشروعاً مستقبلياً، مشروعاً مفتوحاً، شريطة الاعتراف بالتعدد والاختلاف.. فإذا كان التمركز المعكوس.. يحيل إلى مشروع استبدال هيمنة بهيمنة أخرى مغايرة، فإنه لن يولد في نظرنا إلا مزيدا من التعصب والعنصرية والاحتقار المتبادل، في حين أن النقد الإيجابي للتمركز الغربي يكون بالاعتماد على نفس أسلحة الخصم، حيث يصبح مشروع الكونية الثقافية مشروعاً للجميع. صحيح أن الحوار يقتضي التكافؤ لكن التكافؤ لن يكون بمجرد استعمال الذاكرة، والذاكرة وحدها. كما أنه لن يكون بدغدغة الذات، وتصور أن حصونها العتيقة في مجال المعرفة والفكر قادرة على مواجهة الدينامية القوية والمتقدمة لثقافة نهاية القرن الواحد و العشرين، ومن هنا فإن المقصود بالحوار أولاً الانفتاح التاريخي على الآخر ضمن إطار جدلية الصراع البناء، الانفتاح الذي يسعف أولا بتملك أصول الحداثة واستيعاب دروسها، ويسمح ثانياً بالمساهمة في تشكيل الكونية الثقافية، التي ما فتئت تغتني داخل التاريخ، وداخل جدلية الصراع التاريخي بمختلف أبعاده.