ربما لن نختلف أن النقد ظاهرة حضارية، وربما لهذا ولأن الحضارة العربية التي من المفترض أن يزدهر النقد في ظلها في انحدار بالغ الحرج كان لا بد أن يكون الاستنتاج المنطقي أن النقد العربي في انحدار أيضاً، ليس لأننا كما يزعم البعض متشائمون نقول هذا، بل الحقيقة لأننا واقعيون أكثر من غيرنا نردد مع حشرجات الأنا لحظة احتضارها: واعروبتاه، وربما لأن أحداً لا يجيب، عاودنا الندبة بصيغ أخرى تتساءل: هل ثمة أحد بالفعل معني بالإجابة؟ هل ثمة أمة عربية بالفعل؟ ربما لن أستعجل الاعتراض على مشروعية السؤال: هل بلغ النقد الأدبي العربي اليوم المكانة اللائقة به؟ لكنما الاعتراض بداية على الزعم بأن ثمة نقد عربي يمكن أن يبلغ أو لا يبلغ، وعلى التفاؤل الذي يكتنف السؤال، الذي لم يعد يستوعب أنه نقد يسير في سياق اللحظة الحرجة، ووفق اشتراطاتها، ووفق ما يرسمه لنا الآخرون، وربما وفق ما تفننه النخبة السلطوية في الوسط الثقافي من نفي لكل ما هو عربي، أو إسلامي، أو شعبي، أو جماهيري.. ربما قد يكون التساؤل الأوجه: إلى أي حد نحن ملفقون بين المناهج، ومزورون لشخصيتنا، بما يتفق مع التوجهات الرسمية السلطوية. وربما إلى أي حد نحن منقسمون بين التيارات ومذاهب وفرق ونحل.. قد لا أعني الاختلاف الطبيعي في إطار التواجد الطبيعي الذي يؤطره السياق الحضاري العربي، وإنما أعني السياق غير الطبيعي عندما نتصارع على ما لدى الغير من خصوصيات نزعم ملكيتها، أو حتى إمكانية أن تكون ملكنا. من الطبيعي أن تتكامل الحضارات أو تتصارع، ومن الطبيعي أن تتداخل المعرفة أو تتكامل، ومن الطبيعي أن السياق المعرفي الإنساني منفتح على مطلق المكان، ومطلق الزمان، لكن الذي ليس طبيعياً ألا تكون فاعلا في العصر بغير فعالية التبعية، وألا تكون متواجدا إلا لتباهي بمثل هذه التبعية، ومن العيب أن تكون تبعيتك تلفيقية ادعائية دعائية، ومن العيب أن تزعم أنك رغم هذا موجود ها هنا في العصر، وأنك مالك فعلا لشيء. والإشكالية ليست في النقد في حد كونه نشاطاً عقلياً معرفيا له خصوصيته، ولكن في كون الواقع لم يعد سياقاً عربياً أمام النقد، هذا إذا أخذنا في الاعتبار أن كلمة الواقع تشمل التاريخ والإنسان والأفكار الإنسانية فيما يتجسد أمام الرائي أو الراصد أو المعايش للحظة تاريخية ما. ليكن سؤالنا الأول إذن: هل في واقعنا ما يؤكد عروبتنا؟ هل نحن بالفعل أمة عربية، هل نحن بالفعل أبناء ذلك التاريخ؟ هل ننتمي فعلا إليه؟ هل واقعنا يؤكد هذا؟ وقد تكون الإجابة صادمة.. ولما لا، ما دامت الصدمة مطلوبة ؟!. أرى أن السؤال: هل بلغ النقد الأدبي العربي اليوم المكانة اللائقة به؟ سؤال كبير إلى حد ما، ومثير للعديد من القضايا، بقدر ما أنه مثير للشجون.. ليس لأنه يضعنا أمام راهن مبدد، وحضارة عربية مقهورة متقهقرة، وليس لأنه يضعنا إلى حد ما أمام مسئولية المواجهة، واشتراطاتها، ولكن لأنه يفترض مبدئيًا ما ليس قائمًا. ربما لو سُئلتُ عن خصوصية الأمة العربية بصفتي واحدًا من جيل ثورة يوليو، وبصفتي مخلصًا لتراثي العربي والإسلامي لأجبتك خضوعًا لسطوة الفكر العروبي القومي الذي تربينا عليه: نعم.. هناك خصوصية مصدرها الهوية الواحدة التي تحدد ملامحها اللغة والدين، والعادات والتقاليد، والمصير المشترك، وأكون بذلك قد أجبت مرتكزًا على خصوصية الثقافة كعنصر أساسي ومكون رئيس في حضارة أي أمة.. وأكون بذلك أيضًا خاضعًا للشعار الذي ظل يخفق فوق رؤوسنا لفترات طويلة. بيد أن الأمر ليس خضوعًا للشعار الآن.. نحن في محك وجودي وصراع مصيري يستوجب علينا إعادة استقراء الواقع والتاريخ. والأمر بداية خضوعًا لنقاش الخصوصية، والأولى هو أن نبدأ النقاش حول الأممية.. هل نحن بالفعل أمة واحدة؟ الأمة في اللغة معناها الطريقة والدين.. يقال فلان لا أمة له، أي لا دين ولا نحلة له، وقوله تعالى: "كنتم خير أمة" يقول الأخفش: يريد أهل أمة، أي خير أهل دين. وأمة كل نبي مَن أُرسل إليهم، سواء من آمن به ومن كفر، وكل جيل من الناس أمة على حدة، والأمة الجيل، والجنس من كل شيء، وكل جنس من الحيوان أمة. والأمة هي الإمام: ومنها قوله تعالى: إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله "قال أبو عبيدة أي إمامًا وعلى رأى آخر: الأمة هو الرجل الذي لا مثيل له، وأصل هذا الباب كله "أمم" بمعنى قصد: يقال أممت إليه أي قصدته. فمعنى الأمة في الدين أي مقصدهم مقصد واحد، ومعنى الأمة في الرجل: المنفرد الذي لا نظير له، أي أن قصده منفرد عن قصد سائر الناس. هذه هي معاني الأمة.. فبأي شيء منها نحن أمة؟ هل هي أممية الدين، أم الجنس، أم القصد الواحد. الحقيقة أن أممية الدين بحاجة إلى نقاش واسع، فمحمد عليه الصلاة والسلام أرسل للناس كافة، وأمته بهذا المعنى هي كافة الناس من آمن به ومن كفر، هو ليس نبي العرب وإن كان جنسه عربي. أما لو قصدنا أممية من أسلموا، فسيظل السؤال: إسلام من نقصد؟.. الشيعة، أم السنة، أم الأشاعرة، أم المتصوفة، أم...... الخ.. عرف التاريخ الإسلامي مللاً ونحلاً، وعرقيات، وقبائل، وبطونًا، وأفخاذًا، وطوائف، وفرقًاً، وجماعات، ومذاهب، وتكتلات دينية متعددة كلها إسلامية، وكلها تقضى على فكرة أممية الدين.. وفى رأيي أنها أممية كانت منذ أن أسس محمد عليه الصلاة والسلام دولته بعد الهجرة في يثرب وحتى اللحظة الفارقة التي جلس فيها المهاجرون والأنصار في سقيفة بنى ساعدة؛ لتداول أمر الخلافة، وحيث انتهى الاجتماع، ولم يُلتفت إلى مطلب الأنصار المتواضع: "منكم الأمير، ومنا الوزير"، هو مطلب لو اُستجيب له لكان وجه التاريخ الإسلامي كله قد تغير، ولكن شاء التعصب للقرشية أن يرتد التاريخ بالعرب مرة أخرى إلى قبليتهم الأولى، وإن تُنسف فكرة المؤاخاة التي أسسها الرسول لتوه بين المهاجرين والأنصار عند أول محك لتداول السلطة. . أما إذا شئنا التوسع أكثر فإن اللحظة الفارقة الأخرى كانت بعد مقتل عثمان مباشرة، وإن شئنا التوسع أكثر فهي اللحظة التي استتب فيها أمر الحكم لبنى أمية. هي لحظات ثلاث فارقة تجلى فيها موقف العرب من الدين والسياسة معًا، وفى كلٍّ كان الدين خلفية تجرى أمامها الأحداث السياسية وليس العكس، ولم تكن الأممية الدينية هي الأساس بقدر ما كانت القبلية هي الأساس. إلى أن انفرط عقد أممية الدين كلية في العصر الأموي بظهور المذاهب السياسية التي تستند إلى الدين كخلفية سياسية في الوقت الذي تنظر فيه إلى مقعد الحكم أمامها، غير ما ظهر في هذا العصر من فرق إسلامية فلسفية كانت معنية بالإخلاص لفلسفتها، أكثر من إخلاصها لفكرة الأممية الدينية. أما عن أممية الجنس فبالنظر إلى الخارطة الموسومة بالعربية من المحيط إلى الخليج فهي لم تكن لا قبل الإسلام، ولا بعده خالصة للجنس العربي، بل تنازعت البقاء فوقها عشرات الأجناس، أم عن أممية القصد الواحد فتلك هي الفرية التي يكذبها التاريخ والواقع، فلم يكن القصد واحدًا للعرب إلا في الفترة من فتح مكة، وحتى وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، أما قبل أو بعد فكان قصد القبيلة هو الواحد.. يكفى لأن ندرك هذا أن ننظر إلى عصور بكاملها سميت باسم القبيلة: "بنو أمية" "بنو العباس" وغيرهم، أما نهاية الدولة الإسلامية في الأندلس فخير دليل على اكتمال الدائرة التي بدأت بفرقاء قبليين وانتهت بهم (ملوك الطوائف). . هل اختلف المشهد منذ ذلك التاريخ أم تغير؟.. هذا هو السؤال. . الذي أعيه أن ثمة أممية سياسية تحققت في التاريخ تسيدتها فرق سياسية قبلية وطائفية تدين بالإسلام وهذه الأممية كانت بعد صدر الإسلام تقوم على مبدأ اغتصاب الحكم ،ولم تكن خالصة للعرب إلا في العصور الثلاثة الأولى للإسلام وإن كان للفرس سطوتهم وكلمتهم السياسية في العصر العباسي، بعد ذلك سقطت هذه الأممية من العرب، ولم تعد حتى الآن. تبقى لنا أممية اللغة وهو ما تشير إليه العلاقة اللغوية بين المفردتين "أمة" و"عربية" كان بإمكاني أن أتفاءل بهذا المكون لولا أنه أساسًا تجميع متعمد لشتات لهجيٍّ لقبائل عربية، وهذه هي طبيعة المعجم العربي، الذي ظل يعانى حتى الآن من إشكاليات الترادف، وما تلاها من إشكاليات نحوية وصرفية كثيرة ساهمت إلى حد كبير في القضاء على أممية اللغة العربية، والارتداد بالاستخدام اللغوي مرة أخرى إلى المظهر القبلي لها وأعنى به اللهجات. غير أن الاستخدام اللغوي فوق الخارطة الموسومة بالعربية الآن لم يعد خالصًا تمامًا للغات العرب ، بقدر ما أنه ارتداد بالأقليات غير العربية إلى لهجاتها غير العربية، فيما ظلت الأكثرية تتلعثم في الأداء اللغوي الفصيح، بينما السائد هو استخدام لهجي مخوزق بلغات أجنبية وافدة مع الحضارات الوافدة إلى ساحات العرب، وربما أن مقولة الكسائي: "إن لغة العرب أوسع من أن يلحن فيها أحد" تؤكد أن لا قاعدة مطردة في الأساس، ومقولته الأخرى: "إن أنحى النحاة هو من لم يخطِّئ غيره" تؤكد بدورها تجزر القواعد وتشتتها واتساعها بحيث يصعب الإمساك بقاعدة دون أن نمسك بضدياتها، وبما ينقضها ويقوضها.. ليس من قاعدة، وإنما هناك قواعد كثيرة، وكل قاعدة تضرب الأخرى بيد أن هناك قاعدة متسيدة على غيرها بفعل عوامل تاريخية، وربما بسبب الجغرافيا أحيانا، وربما لأسباب عقدية كذلك، والأمر نفسه بالنسبة للهجات، هناك لهجة متسيدة، ولهجات متنحية.. نعود إلى أزمة الحضارة.. الكثيرون يتحدثون عن هذه الأزمة وكأنها بازغة لتوها، والحقيقة هي قديمة بلغت الحضارة العربية الإسلامية أوجها في العصرين الأموي والعباسي، ولم يتم القضاء عليها من خارجها، أو بفعل الاستعمار كما يتصور البعض.. أو هل قضى الاستعمار على الدولة العربية، وطمس معالم حضارتها في الأندلس؟ أم أنها الطائفية والقبلية؟.. وهل ضعضع الاستعمار الحضارة العربية أم هو الصراع المذهبي والطائفي والقبلي؟.. هل انتهت هذه الألوان من الصراعات رغم انحسار الحضارة العربية، أم ما زالت تتحكم في الصراع حتى الآن وبنفس الآلية القديمة التي تنتهي غالبًا باستجلاب الطائفة ذات الطَّوْل من خارج العرب لتصلح بين طائفتين عربيتين مقتتلتين، أو لتردع الأقوى منهما، ثم لتلجم الاثنين بلجام الأفول؟!.. أنا لا أرى أحدًا قضى على أممية العرب غير العرب أنفسهم، ولا أحد ساهم بالتالي في انحسار حضارتهم غير فهمهم القبلي للصراع، وغير استبداد فكرهم القبلي برؤوسهم، وغير جعلهم الدين خلفية لهذا الفكر القبلي الذي لخص شرف الحياة في التسيد القبلي، إن بدا الدين خلفية لهذا الفكر، فهي خلفية توظف الدين لصالح القبيلة وليس العكس. ونعود إلى السمة.. هل هي حضارة عربية، أم إسلامية؟.. إذا كان من حضارة تسيدت في التاريخ فهي حضارة إسلامية كان منهجها ودستورها ومرجعها الإسلام، وقد صنعها العرب وغير العرب من المسلمين، وبصرف النظر عن الأممية السياسية التي استبد بها العرب وحدهم في العصور الثلاثة الأولى للإسلام.. نصرف النظر عنها في هذا المقام لأنها لم تكن مرجع الحضارة ومنطلقها بقدر ما كان الإسلام هو المنهج والمرجع، الذي حدث أن الأممية السياسية العربية القبلية هي التي نافحت الحضارة الإسلامية وقضت عليها ومن دون أن تدري، فلنصحح المفاهيم إذن فالحضارة إسلامية، وليست عربية. أما السؤال عن الخصوصية، فتأسيسًا على ما سبق أجيب أن ثمة خصوصية للشتات: غساسنة ومناذرة وما بين بين من موالى.. هي الصورة القديمة من عدم الاتفاق والتلاقي، والتناحر والتباغض، والولاء للقوى الكبرى (الفرس والروم) التي تقتسم ولاءنا، في ذات اللحظة التي تستدفىء فيها بنيران ما بيننا من حروب.. هي صورة قديمة جديدة، سمتها الثبات، يلخصها قول "مناحم بيجن": "العرب لن يتفقوا إلا على موعد يختلفون فيه". هذه هي الخصوصية إذن.. إنها خصوصية الاختلاف والتباغض الذي يفسد للود كل قضية. أؤكد أن الذين كانوا يراهنون على البعد القومي، وعلى أممية شعوب المنطقة التي تتعايش في المساحة من المحيط إلى الخليج لم يكن رهانهم ذلك على شيء قائم بالفعل، وإنما كان رهانهم على ما يمكن تحقيقه استنادًا على جذر تاريخي من الثقافة العربية الإسلامية، وعلى ما كانوا يزعمونه من المصالح المشتركة لشعوب المنطقة، وعلى ما أسموه وحدة المصير المشترك، أؤكد لك أن حروب الخليج أكدت أن المصالح المشتركة كذبة كبرى؛ فالمصلحة قائمة، ولكنها ليست مشتركة إلا مع ما هو ناجز من قوى أجنبية توفر الحماية، أما المصير المشترك هو حقيقة تاريخية معطلة، نحن لا نتعظ ولا نقرأ التاريخ.. دعونا نؤكد إذن أن كل الشواهد تؤكد حتى الآن أن ما يحدث هو مقدمة لملوك طوائف أخرى، ومقدمة لنكبة تاريخية كبرى.. ماذا تبقى للرهان غير عنصر الثقافة؟ ودعنا نؤكد أن الدولة الإسلامية وعبر قرون من حكم شعوب المنطقة شكلت جذرًا من الثقافة العربية والإسلامية، تتفاوت نسبة الانتماء إليه من شعب لآخر، ومن جماعة إلى أخرى ومن طائفة إلى طائفة.. ومرجعية التفاوت قد تكون تاريخية، أو عقدية، أو عرقية، أو جغرافية، أو حضارية.. الإشكالية الآن: كيف نراهن على هذا الجذر الثقافي وحده، رغم تفاوت الانتماء إليه؟.. قد نذكر العولمة في إطار كهذا.. العولمة منظومة اقتصادية وثقافية سياسية وإنسانية ناجزة تسعى إلى تحقيق صيغة موحدة للعالم اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، وسأفترض جدلاً أن هذه الصيغة هي الشر كله.. فكيف يكون التصرف حيالها؟.. أرى أن هناك توجهات ثلاثة علينا أن نختار منها.. الأولى هي سياسة النعامة التي تخبئ رأسها من المصيبة التي لاشك ستدركها والثاني هو إتباع سياسة وقائية فقط، والثالث هو التعامل مع ما نفترض أنه شر وفق استراتيجية تركز على فاعليتنا في العصر من جهة بما يحقق لنا كينونة ما يمكنها أن تفرض شروطها، وتؤكد وجودها المخصوص في العصر، ومن جهة أخرى التكتل في مواجهة التذويب للخصوصيات و الهويات.. وفى رأى أن الخيار الثالث هو الأوجه والأنسب.. تبقى الإشكالية في أسلوب تنفيذ هذا البرنامج أو تلك الإستراتيجية. . إذا كنا قد اتفقنا على أن العولمة منظومة اقتصادية سياسية ثقافية فإن عصبها في الاقتصادي الذي يشد أو يوظِّف السياسي والثقافي خلفه... إذا كنت متفقًا معي في هذا فإن أسلوب استراتيجيتنا يجب أن يركز على نفس عناصر تلك المنظومة، وعلى نفس ترتيب عناصرها.. من الخطأ الرهان على الثقافي في البلدان العربية لا لشيء إلا لأنها تتبع السياسي وليس العكس، ومن الخطأ الرهان أيضًا على الاقتصادي لنفس السبب؛ فما دام السياسي هو الذي يتحكم ويوظف الثقافي والاقتصادي فلا أمل يرتجى.. تبعية كل شيء للسياسي، وتحكم السياسي في بقية عناصر المنظومة يفسد أسلوب المواجهة ويقلب موازينها.. أما إذا تأكد لنا تكتل السياسي في شكل نظم شمولية تستثنى شعوبها، وحاجاتها الملحة، وتداخل العصر، بعقلية وأساليب حكم يرفضها العصر، وتكرس بقاءها بغير شرعية، وهى تعمل جاهدة على وأد الحريات وتمييع الرأي، كأسلوب ثابت للتحكم وليس الحكم فلا أمل، وكل رهان على اقتصادي أو ثقافي يبدو خاسرًا. لذلك يسقط من بين يدي رهان "النقد"، كما سقط من يدي رهان "العربي".. ثمة أزمة تبدأ بالمصطلح وتنتهي بالمنهج، وثمة فوضي تنظيرية، وثمة سباق محموم خارج السياق الذي نفترضه، وغربة عن روح النص، وثمة محاولات تشكيل إبداع وفق منظومات فكرية سابقة التجهيز، والحقيقة أن الإبداع ظاهرة تُرْصَد ولا تُصَنَّع. كثير من التيارات الإبداعية العربية بفعل فاعل، وتلك خطورة النقد في ساحتنا العربية، أنه يلوث الإبداع ولا يوجهه، ويصنع الظاهرة ثم يقوم برصدها، إنه الدوران في الفراغ.. دعونا نذكر مثالاً بمقولة "الحساسية الجديدة".. مقولة جوفاء ظلت تشكل وعي المبدعين من الشعراء في مصر عقداً كاملا من الزمن مرتكزة على افتراض جدلي لا أساس له. ويبدو أن أعترض الدكتور سيد البحراوي له بعض الوجاهة عندما سخر من خانة الحداثة أو الحساسية الجديدة التي تصدر الأوامر النقدية بالترقية إليها أو الحرمان منها، فلا أحد يعرف ما هي الدرجة الصحيحة من عدم اليقين أو الشك أو الشعور بالغربة أو الإحباط التي تجعل قصيدة ما حداثية أو تنتمي إلى الحساسية الجديدة في مقرها المركزي بمكتب هذا الناقد أو ذاك. والوجاهة نابعة أصلا من الفهم والوعي الكامنين في الاعتراض بهذا المصطلح القديم الفارغ نوعًا المسمى "الحداثة" فليس في الحداثة مركزية، حتى لو افترضنا أن الحداثة أصبحت بمثابة العقيدة بالنسبة لهؤلاء، فإنه ليس من مهمة الأدب أن يوصل تلك المعتقدات بصورة مباشرة.. إن الملكية الخاصة متراس الحرية، كما أن مهمة الأدب هي نقل الحقائق اللازمانية، وربما بهذا يمكنه أن يغذي في الجماهير روح التسامح والكرم وبذلك يضمن بقاء ملكيته الخاصة. ليس غريبًا في سيادة مفاهيم التعصب أن يتحول محطم الأصنام إلى صنم جديد! ويبدو أننا يجب أن نعترف دون أن نستسلم بمركزية النقد عندنا رغم أن الحداثة كمفاهيم ضد المركزية بشكل عام، بما فيها مركزية التراث أو حتى مركزية المفاهيم الحداثية. إن مركزية النقد عندنا ساهمت في انحصار مفهوم الحداثة أو مفاهيمها عند دائرة المركز، أو المراكز الثقافية التي ظلت ومازالت تمارس سطوتها على الأطراف. ومن ثم اصطبغ النتاج الأدبي الحداثي بصبغة واحدة ومن ثم ضاقت مساحة "الحداثات" المفترضة لتصبح مجرد "حداثة" متحققة هنا أو هناك. وأرى أن هذه المركزية جزء من هيمنة الخطاب الثقافي للمدينة العربية (المركز) على أطراف الخريطة التابعة لها. ومن ثم فإن نظرتنا النقدية في النصوص الحداثية يجب أن تكون متجاوزة لهذه المركزية بما يسمح بتجاوب أصداء الحداثات في كل أطراف الخريطة الإبداعية دون أن نقيم اشتراطات معينة للحداثة، إذ أن الإبداع متجاوب بالضرورة مع ملامح مكانه وزمانه بل ومع الخلفية الحضارية والاجتماعية له. وحتى لا يفهم البعض ما نعنيه بمركزية النقد، أعود لأؤكد أنها تعني أن النقد لا يزال نخبويا، ولا يزال متمركزاً في يد السلطة التي تفرض صيغة الثقافة، ولا يزال جزءاً من هيمنة الخطاب الثقافي المركزي للمدينة العربية (لعواصم والمدن الكبرى) علي أطراف الخريطة، وهو الصيغة الاختزالية للوطن وليس للإبداع فحسب، خضوعا لمفهومات اعتبارية سياسية سلطوية تختزل الأوطان في حكامها، وتختزل الشعوب في مجموعة من النخب، وتفترض أن مظلة السلطة هي التي تصنع النخبة وليس الشعوب. ربما لو سألنا واحداً منا سؤالاً مباغتاً الآن: من يمثل الثقافة المصرية؟ فمن الطبيعي أنه لن يفترض الشعب المصري.. لكنه سيفترض أنه وزير الثقافة.. أما لو سألته عن توجهات الثقافة ومستقبلها فإنه لن يجيب، لأنك لا يعرف تماما ما يدور في رأس وزير الثقافة. ليس من المؤسف أن يكون حديثنا في النقد إذن ممزوجاً بالحديث في السياسة، لا ضير في هذا بل هذا هو الطبيعي فتاريخ نظرية الأدب الحديثة جزء من التاريخ السياسي لعصرنا كما أكد نيري إيجلتون لكنما المؤسف أن يكون حديثنا ممزوجاً بالأسف.