ابن خلدون وفلسفة الحضارة ثمة في المقدمة (=مقدمة ابن خلدون) مقاطع تستحق تأملا مضاعفا. إنها بالأحرى، تصلح فلسفة عامة عن الحضارة. تكمن أهميته النص الخلدوني بهذا المعنى في نظراته التأملية ورؤيته الدقيقة في تقصي الظواهر الحضارية بعيدا عن خلفيته عقدية. فهذه الأخيرة التي لم يفته الإعلان عنها في مواقع مختلفة من المقدمة، غلبا ما تأتي في المرتبة الثانوية لتحدد اختياراته الفكرية والمذهبية. ما يجعلها تظهر بمظهر النشاز أو المفارقة التي اتهم بها كثيرا. إن أهم ما يلفت النظر في المتن الخلدوني، هو رؤيته المتميزة للحضارة من حيث هي قوة، ومن حيث أن سمة من سماتها الأبرز، شمول التقنية وانتشار الصنائع.هذه التقنية التي تتصف هي الأخرى بالتجدد والتعقيد. إن قراءته بهذا المعنى، هي قراءة ظواهرية تستهدف تكوين رؤية ما هوية للحضارة كظاهرة إنسانية تتمتع بخاصية بيولوجية تتجلى في سنة النشوء والارتقاء فالاضمحلال. يمكننا تقريب هذا المنظور الخلدوني للحضارة من خلال المحاور الآتية: محور التعريف (= الحضارة كقوة الصناعة وصناعة القوة)لم يقف ابن خلدون عند التعريف التقليدي للحضارة، باعتبارها حضورا. بل إن تأملاته فيها لم يقص بأي حال من الأحوال أنماطها الحديثة. إنه يتحدث عن موجتها الثانية قبل ورود "توفلر" بقرون عديدة. فإذا كان ول ديورانت قد ألصقها بالنشاط الزراعي، فإن ابن خلدون ألصقها بالنشاط الصناعي. ولعله الاجتماعي الأول الذي جعل ديناميتها تتصل بالدولة كظاهرة سياسية عمرانية. فالحضارة إذن هي حضور الدولة ورسوخها. يشير إلى ذلك من خلال عنوانه للفصل السابع عشر، إذ يقول: "في أن الحضارة في الأمصار من قبل الدول وأنها ترسخ باتصال الدولة ورسوخها"([12]). الحضارة إذن هي حضور خاص يتميز بكونه حضورا ورسوخا دولانيا Etatique. هذا التمركز الدولاني يجعل من الحضارة نفسها ظاهرة سياسية. أي ظاهرة مساوقة للمدنية. هذا الربط الواضح بين نشوء الحضارة ورسوخ الدولة، ينطوي على دلالتين: كون الدولة هي مناط الصنائع وغاية الحضارة. فالظاهرة السياسة هي أسمى هدف للظاهرة الحضارية. يظهر ذلك جليا في التمركز المفرط الذي تبدو فيه الملامة بين المركز السياسي والنشاط الحضاري واضحة تماما. ربط الحضارة بالدولة بوصفها أقوى ظاهرة في العمران على الإطلاق . ما يعني أن الحضارة هي صناعة القوة . و لكن السؤال , أي قوة ؟ !إنها قوة الصنائع رسوخا و استحكاما الذي يعتبر مظهرا من مظاهر استحكام الحضارة . وكون الصنائع منبع القوة , وكونها خاصة حضارية , أو كما يقول : ًالصنائع من توابع الحضارة" ([13]). وضح حينئذ أن الحضارة في حد ذاتها قوة : قوة الصناعة وصناعة القوة ! تأخذ الصنائع عند ابن خلدون معنى يسمو بها عن مستوى الأشياء التي تمثلها . بل هي نمط ملازم للرسوخ الحضاري . فهي إذن وسيلة و غاية. بل إنها لا تقتصر على هذا المحدد الأداتي INSTRUMENTALE أو الأنثربولوجي للتقنية .بل وكما يؤكد هيدغر ,التقنية هي انكشاف و حضور و تمظهر وحقيقة (اليتيا). و ذلك يظهر جليا في الأثر الذي تخلفه الصنائع أو ما تتأثر به الصنائع بقوة رسوخ الحضارة. الأمر الذي يرجح عندنا كون الصنائع تأخذ معنى التقنية كما لاحظنا عند هيدغر, ليس من حيث هي و سائل أو غايات فقط (=البعد الأداتي للتقنية ), بل هي ماهية تحتفظ لنفسها ببعض الغموض و الأسرار. من هنا سوف نستخدم كلمة "تقنية" بذل "صنائع" متى استعمل ابن خلدون ذلك وقصد به المعنى ذاته . يقول مثلا في معرض حديثه عن المدن و الأمصار بإفريقيا والمغرب: "فالصنائع بعيدة عن البربر لأنهم أعرق في البداوة. و الصنائع من توابع الحضارة "([14[) والأمر ذاته بالنسبة للعرب ,إذ "العرب أيضا أعرق في البدو وأبعد عن الصنائع "([15]). والسبب في ذلك يقول ابن خلدون "شأن البداوة والبعد عن الصنائع". وما يؤكد ذلك بوضوح ,قوله: "وتستحكم لديهم الصنائع في سائر فنونه, وهذه هي الحضارة "([16]). وليس مطلق الصنائع من مظاهر الحضارة و العمران. بل ما يميز التقنية الحضارية، هو التعقيد والشمول والتطوير الذي يتم بموازاة مع اتساع العمران ورسوخ الحضارة. ولذا كان العمران البدوي لا يحتاج من التقنية إلا إلى ما هو بسيط منها للاكتفاء بالضرورة. في حين الحضارة بما هي نشاط تراكمي ونمط يقوم على الوفرة، فهو إذن يحتاج إلى التقنية المعقدة (=الصنائع المركبة): "وأما العمران البدوي أو القليل فلا يحتاج من الصنائع إلا البسيط، خاصة المستعمل في الضروريات(...) وإذا زخر بحر العمران وطلبت فيه الكمالات كان من جملتها التأنق في الصنائع واستجادتها فكملت بجميع متمماتها وتزايدت صنائع أخرى معها مما تدعو إليه عوائد الترف وأحواله"([17[). وما يؤكد أيضا هذا التقسيم الخلدوني للتقنية إلى بسيطة ومعقدة، قوله: "ثم إن الصنائع فيها البسيط ومنها المركب. والبسيط هو الذي يختص بالضروريات والمركب هو الذي يكون للكماليات"1 . بما أن العمران البدوي يكتفي بالضروريات نظرا لأن تلك الوسائل كما يؤكد ابن خلدون ليست مطلوبة في ذاتها، بل هي وسائل لغيرها، لم تكن الحاجة ناجزة إلى تقنية معقدة كما هو شأن الحضارة، من حيث هي نشاط تراكمي وعمران يقوم على الوفرة والإنماء المستدام، فتتعاظم حاجاته وكمالياته. من ناحية أخرى ينظر ابن خلدون إلى التقنية كملكة. وذلك من حيث هي ناتجة عن اتساع العمران ورسوخ الحضارة، وكثرة التفنن. من هنا كان الإبداع مستمرا، واستجابة لا محدودة لتطلبات التكاثر في الرفه والنشاط. وكما يقول: "والسبب في ذلك أن الحضارة هي أحوال عادية رائدة على الضرورة من أحوال العمران زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه، وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتا غير منحصر وتقع فيها عند كثرة التفنن في أنواعها وأصنافها فتكون بمنزلة الصنائع(...) وبقدر ما يتزيد من أصنافها تتزيد أهل صناعتها ويتلون ذلك الجيل بها ومتى اتصلت الأيام وتعاقبت تلك الصناعات حذق أولئك الصناع في صناعتهم ومهروا في معرفتها والإعصار بطولها وانفساح أمدها وتكرير أمثالها. تزيدها استحكاما ورسوخا"2 . إذا كانت الحضارة في نظر ابن خلدون هي قوة الصناعة أو صناعة القوة، فإن أبرز سمة لذلك، هو الإبداع والتجدد. ومن هنا استحال على البدو تمثلها طالما لم ترسخ فيهم بعض الوقت، وطالما رسوخها يتطلب زمانا. حتى إذا استحكمت، ظلت راسخة لا تزول وإن تراجع العمران وتناقص؛ فإن آثار هذه الصنائع تظل راسخة لأجيال كثيرة. فالحضارة رسوخ وعوائد وتطوير مستمر للصنائع. وهي من هذه الناحية قابلة للتقليد والتمثيل في بعدها التقني: "لم يجد يهما من الحضارة ما يقلد فيه من سلفه"3 . وهذا أمر طبيعي. فالحضارة تناوبية تنتقل وتنمو وتضمحل. وهي عند ابن خلدون شأنها شأن الدولة، تمر بأطوار. وهي ليست معطى ناجزا؛ بل قوة نشاط قابل للاشتداد والتضعف بحسب الشروط معينة. فهي من ناحية متفاوتة بحسب تفاوت العمران، وهي من ناحية أخرى قابلة للتجزيء: "فكان لهم من الحضارة بعض الشيء"4. كما هي قابلة للسقوط والتصرم. يقول ابن خلدون: "قد بينا لك فيما سلف أن الملك والدولة غاية للعصبية. وأن الحضارة للبداوة وأن العمران كله من بداوة وحضارة وملك وسوقه له عمر محسوس كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمرا محسوسا وتبين في المعقول والمنقول أن الأربعين للإنسان غاية في تزايد قواه ونموها، وأنه إذا بلغ سن الأربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط فلتعلم أن الحضارة في العمران أيضا كذلك لأنه غاية لا مزيد وراءها"5. لعل ما يبرز الموقف الخلدوني من هذه النهاية السيئة القاهرة، للحضارة، هو كونها ظاهرة طبيعية في العمران. وأن سقوطها ونهايتها ليس عيبا في وظيفتها أو نقصا في أدائها؛ بل هو فساد يترتب عنه تقدم وشمول في التقنية، مما يترتب عليه تراكم ووفرة ورفه ثم ترف وفساد. إن النهاية السيئة، هي حتمية تلاحق الحضارات كالظل. فليس ما يبرز سقوطها بأغرب مما يبرز نشؤها عند ابن خلدون. وهاهنا، نجدنا قد بلغنا بيت القصيد، من حيث أن الحضارة بما هي تكاثر في التفنن ونفوذ في التقنية، لها انعكاس مختلف على العقول والنفوس. فابن خلدون يتحدث عن أخلاق ملازمة للتحضر وعلى مستوى ما يتصل بالإدراك والسلوك والعوائد. ولعل سر سقوط الحضارات وزوالها راجع إلى استفحال هذه العوائد وليس إلى مجرد نقص في العمران. وهذا ما يؤكد على أن سقوط الحضارات لا يأتي من ناحية التقنية وفعالية الصنائع، بل من الفساد الذي يطرأ على الإنسان نفسه واستلابه تحت وطأة التقنية، ربما الأمر الذي يجعل قوة الحضارة نفسها تصبح عامل تدمير وتحطيم لها. لعل "ايف لاكوست"، لم يكن يدرك تمام الإدراك هذا الموقف الخلدوني إزاء نشوء الحضارة وزوالها. فهو حاكم ابن خلدون على موقفه من أخلاق أهل الحضر واتهامه لهم بالليونة والفساد. ومع أنه يؤكد على أن ابن خلدون، هو من أهل الحضر الذين احتكوا بالبلاط، إلا أننا رأيناه يصف أحوالا ويتحدث عن عوائد ويرصد عللا للنشوء وعللا للسقوط. فالأمر نفسه يمكن أن يلاحظ عليه في معرض تهجمه على طبائع البدو وتخريبهم الدول التي هي محور الحضارة نفسها. فالنقد الخلدوني يتوجه إلى استفحالات الترف والفساد الذي يمثل ظاهرة متأخرة في الحضارة، هو ما أسماه نقاد الحداثة نفسها " الاستيلاب". فالحضارة في منظور ابن خلدون ليست شيئا آخر سوى تفنن في الترف : "والحضارة كما علمت هي التفنن في الترف واستيجادة أحوال والكلف بالصنائع"1. هذا الاستلاب الذي يبدأ مع بلوغ الحضارة أوجها، بل هي نفسها تمثل الأوج، وتؤرخ بذلك إلى بداية تدهورها، إذ الاستفحال يبدأ مع التأثير السلبي للتقنية والصنائع على النفس. إن ابن خلدون يستخدم كلمة توحي بهذا التأثير الخطير الذي ينتهي إلى سلب الكائن شخصانيته ويجعله كومة من الرغبات فاقد ا للإرادة وخارج التحكم والسيطرة. إنها ظاهرة تلون النفس بعوائد التحضر، التي يعبر عنها ابن خلدون قائلا:"وإذا بلغ التأنق في هذه الأحوال المنزلية الغاية تبعه طاعة الشهوات فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها. أما دينها فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها، وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات التي تطالب بها العوائد ويعجز وينكب عن الوفاء بها"[18] : الحضارة = الإستهلاك . إن النقد الخلدوني لم ينطلق من خلفية دينية أو أخلاقية فقط كما حاول أن يوحي بذلك ايف لاكوست، بل ينطلق من قراءة وحساب واقعي للتحطيم الذاتي للحضارة بحيث تصبح غير قادرة على تأمين الدين والدنيا معا. فالحضارات تورث أخلاقا هي عين الفساد. وهذا الأخير يصيب إنسانية الإنسان ويعطل فعاليته؛ إذ فساد الأخلاق هو فساد الإنسانية. وهكذا يتهم ابن خلدون من فسدت إنسانيته بالمسخ الذي لا يعني أمرا آخر غير الانحطاط والاستيلاب: "وإذا فسد الإنسان في قدرته على أخلاقه ودينه فقد فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة، وبهذا الاعتبار كان الذين يتربون على الحضارة وخلقها موجودون في كل دولة فقد تبين أن الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم في العمران والدولة"[19[). وهذا ما أسميه باللحظة الخلدونية الإنسانية، إذ وإن بدا اهتمام هذا الأخير منصبا على الاجتماع والدولة والحضارة مؤرخا لها ومحللا لأنماطها وتقنيتها وأشيائها، فهو هنا يعبر عن محورية الإنسان وغايته في هذا النشاط. فمهما قويت الحضارة وتقنيتها، فإنها لا تدوم من دون إنسان. فإذا فسد الإنسان فسدت الحضارة وفسد العالم. ولكن ابن خلدون أيضا يذكرنا، بأن الإنسان غاية وجودية في حد ذاته. وأنه يمكن أن يتحقق وجوده في الحضارة ودونها. إن الحضارة بما أنها مساوقة لقوة التقنية ليست في حقيقة الأمر إشكالية وجودية إلا حينما يصبح الإنسان نفسه أسير كمالياته وأوهامه وعوائد رفهه وترفه، وذهان الاستهلاك. حينما يستلب ، فيرى أن القضية أصبحت قضية نكون أو لا نكون. إن تبدل الحضارات ونشوئها وسقوطها، هو عرض من الأعراض،بينما يظل الإنسان هو سيد العالم : صانع الحضارة ومبيدها. ولم ينظر ابن خلدون إلى أخلاق الحضارة وأخلاق البدو نظرة متحيزة؛ فمن يطلع على ما قاله عن أخلاق التمدن، لا يمكن إلا أن يحسبه مدنيا، كما أنه أعطى أخلاق البداوة حقها أيضا. إن ما يطرأ من تمايزات بين عوائد الحضر وعوائد البدو، هو تمايز بالعرض والوظيفة، لا بالحقيقة. وهذه هي أهم الأفكار الخلدونية التي تؤسس لنسبية الثقافات وتاريخيتها. نسبية الثقافات لقد وضح من خلال هذه الرؤية الخلدونية – المقتضبة – بأن الحضارة ملكة تكتسب وتورث بفضل الرسوخ. وهي من ناحية أخرى نشاط إنساني تقدحه إرادة القوة. إن الحضارة بما هي إنجاز إنساني هي ظاهرة عارضة ومحتملة. فسقوط الحضارات وقيامها أمر وارد جدا. وتناوب الأمم عليها أمر وارد أيضا. فغاية البداوة هي التحضر. لكن الثقافة تظل أمرا آخر غير الحضارة. إن التقنية كما أكدنا سابقا ليست أداة محايدة. بل هي فعالية مؤثرة في الثقافة والعادات بشكل واضح عند ابن خلدون أيضا: "ولا شك أن كل صناعة مرتبة يرجع منها إلى النفس أثر يكسبها عقلا جديدا تستعد به لقبول صناعة أخرى"([20[). يقدم ابن خلدون رؤية نسبية للثقافة سابقة على ليفي ستراوس، وكل نقاد الحداثة والميتافيزيقا الغربية. بل إنه يقدم رؤية مناقضة لبروهل نفسه في المقام. فقد عالج دعوى تجنيس الثقافة، وقدم رؤية تصلح أن تكون تأسيسا لنسبية الثقافات، ودحضا للأيدلوجيا، التصنيفية في زمن مبكر !. الأنا المهمش والآخر الحضاري لقد أشار ابن خلدون إلى ذلك الإحساس بالدونية، الذي تتركه قوة الحضارة في نفوس الأغيار. وما يدل فعلا على أنه لم يكن يفعل أكثر من وصف ظاهرة الهامش إزاء المركز الحضاري وطبيعة الإستتباع. إن الأنوية الحضارية هي ملازمة لكل أشكال الحضارات. ليس ثمة حضارة قامت في التاريخ لم تنظر لنفسها كمركز للعالم. فهذا وضعها الطبيعي الذي يصفه البعض بكونه إحساسا عادلا. التقليد في نظر ابن خلدون أمر طبيعي جدا. لأن الحضارة في نظره تنقل وتورث وتترسخ في الأماكن التي تمر بها. هذا قانون طبيعي. بل إن التعلق بعوائد الحضارة وتقليد أنماطها وسلوك أبنائها، ناتج عن الإحساس بالغلبة والوهم بكمال الغالب. ف " المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله"([21[). فالنتيجة توصلنا من خلال النقد الجينيالوجي للفظ حضارة إلى كونها نشاطا عمرانيا يصعب تحديده، ولا يمكن القبض على ماهيته، إلا إذا قلنا أن الحضارة سيرورة قووية لا نهائية. توصلنا إلى أن الخلط بين الثقافة والحضارة هو تقليد أنثروبولوجي أمريكي راجع إلى ذهنية وصفها جون جراي، بالفكرة الأمريكية المتسلطة بشأن تعدد الثقافات. وعليه، تحدثنا عن أن الحوار هو بين الثقافات، إذ لا وجود اليوم إلا إلى حضارة واحدة، هي الحضارة التي يستولي اليوم عليها الغرب ويوجهها لخدمة أهدافه ويبدعها باستمرار. إن خروجنا عن التاريخ الكوني هو في الحقيقة خروجنا من قانون التناوب الحضاري. ومع أن ابن خلدون ومن قبله اعتبروا رسوخ الغرب في البداوة، إلا أن التاريخ العربي سرعان ما أعاده الحدث الإسلامي إلى الدورة الحضارية. إن الموقف المطلوب إزاء الثقافات، هو التحاور معها من خلال إيجاد صيغة تواصلية معها. لكن الموقف من الحضارة لا يقدم لنا خيارات أخرى سوى الاندماج أو الانسحاب. وعليه، تعين عليها البحث عن الشكل أو الكيفية الملائمة للاندماج. إن اختلاف الثقافات قد يتيح لنا اختلافا على مستوى كيفية الاندماج في الحضارة المعاصرة وكيفية الانخراط فيها. لاشك أن ثمة أكثر من صورة لهذا الاندماج . وقد سبق وتحدثنا في مناسبات أخرى عن صور أربعة لموقف الثقافات من أي حضارة: الموقف الحضاري (=الحلولي) الموقف التحضري (=الشراكي) الموقف الاستحضاري (=التبعي والاستهلاكي) الموقف الاحتضاري (=الوحشي) وليس أمامنا سوى أن نختار طريق القوة والاندماج بشراكة وبحس إبداعيين إذا أردنا أن نغير شيئا من واقعنا أو نحدث تغيرات بنيويا داخل الحضارة وليس خارجها. إن الاندماج الأنسب والواعد هو اندماج تحضري يقوم على مبدأ الشراكة والمناعة الذكية وليس الهوجاء، وتصعيد فعل المناورة إلى حدوده القصوى. ذلك ما يتيحه لنا عالم لم يعد يتسع إلا إلى الأقوياء: فلنكن أقوياء! ----------------------------- [1] - إذا اعتبرنا أصل اشتقاق لفظ "الحضارة" هو الحضور، كان من المفترض أن يعبر عنها في اللغات اللاتينية ب Présence، وليس Civilisation، فالاصطلاح الأخير يؤدي معنى "مدنية" (=مدني. Civil -) أما الثقافة فيقابلها في اللغات اللاتينية لفظ Culture. بهذا نكون أمام ثلاثة مفاهيم: الحضارة - المدنية - الثقافة (civilisation - Culture -présence). [2] - ديورانت، ول : قصة الحضارة. ص5، ج 21، بيروت دار الجيل، 1988م. [3] - ابن خلدون عبدالرحمان، المقدمة ص 460 دارالقلم، بيروت 1978م. [4] - المصدر نفسه ص 409. [5] - جراين جون، الفجر الكاذب ص 170 ت : احمد فؤاد بلبلع ص 170، ط1 - 2001م مكتبة الشروق. [6] - بروديل. فوناند: المادية والاقتصاد الرأسمالي ج1،، ص ص114، ت.د مصطفى ماهر ط1 - دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع / القاهرة 1993م. [7] - المصدر نفسه، ص 114. [8] - دكروب، حسين : الأنثربولوجيا: الذاكرة والمعاش ص 38، دار الطليعة - بيروت. [9] - أتالي، جاك، ملامح المستقبل، ص 125، ت أحمد عبد الكريم ط1. 1991م، طلاس للدراسات والنشر. دمشق. [10] - المصدر نفسه ص 108. [11] - هذه قراءة تأويلية. [12] - المقدمة ص 403. [13] - المصدر نفسه ص 395. [14] - المصدر نفسه ص 395. [15] - المصدر نفسه ص 396. [16] - المصدر نفسه ص 397. [17] - المصدر نفسه ص 409. - 1 المصدر نفسه ص 444 . 2 –المصدر نفسه ص443 . 3 –المصدر السابق ص 408-409 . 4 المصدر نفسه ص 410 . 5 – المصدر نفسه ص 412 . 1 –المصدر نفسه ص412 . 1 -المصدر نفسه ص 412 . [19] -المصدر نفسه ص 414 . [20] - المصدر نفسه ص 409. [21] - المصدر نفسه ص 409.