يعد مفكرنا و شيخنا الجليل أبن خلدون . مؤسسا ليس فقط لجانب من علم ( السوسيولوجيا ) ، بل هو وبفخر مؤسساً لأغلب العلوم الاجتماعية الحديثة التي تبلورت في الشرق عامتا والمنطقة العربية خاصة ، انطلاقاً من القرن الرابع عشر . ويعد منهج ابن خلدون النظري و ما قدمه في حقل علم الاجتماع السياسي ، ودراسة القوانين التي تتحكم في نشوء الحضارات، ، هو المنهج التطبيقي ، المنطقي والأمثل لفهم الحراك الأجتماعي والتاريخي لفترة البداوة وحتي بداية نشوء الحداثة ، في أجزاء ممتدة من عالم الشرق القديم والحديث . أن ما يميز شيخنا أبن خلدون المفكر والأنسان ، أنه جمع ووفق بين نقيضيين . الأصولية الدينية المعتدلة من جهة والحذاقة والحرفية العلمية الخلاقة من جهة أخرى . وكان موفقا في الحفاظ على نمط هذا التوازن والتوافق بين هذين النقيضيين الغريميين والصعبيين في أنتاجه وأبداعه المعرفي . إذ لم يكن مفكرا أصوليا متعصبا ولا ملحدا . بل مفكرا ومنظرا أصوليا معتدلا ساعيا الى الأجتهاد وفي أتباع نهج عقلاني يتسم بالوسطية والحداثة . بعكس علماء ومفكرون ومنظرون و فلاسفة كثر . أما كانوا آصوليون متطرفون أو ملحدون راديكاليون ! وهذا بدوره يشكل جانب من الجوانب الذي يميز الفكر الخلدوني عن الفكر والنظرية الماركسية . فالأولى تجمع الضدين وتوفق فيما بينهما والثانية تفصل الاضداد وتحرر نفسها من سلطان الدين . كما أن الخلدونية قد أثبتت وبالملموس ، بأن الابداع المعرفي والعلمي ، ليس حكرا بأهل العلم المتحررين من سطوة اللاهوت . بل أن الأبداع المعرفي مشاع للكل . أصوليون كانوا أو ملحدون أو جامعون كانوا للأيمان والعلم و موفقون فيما بينهما ، كما أستندت و برهنت عليها الخلدونية وهذا ما أشار اليه الباحث الفرنسي المعاصر ( كلود هوروت ) ، في كتابه الشهير والموسوم بعنوان : " ابن خلدون: هل يمثل إسلام التنوير؟ " : إذ يقول : ( " أن ابن خلدون يمكن أن يمثل نموذجا يحتذى بالنسبة للمثقفين اليوم ، ويمكن أن يقدم لنا بديلا عن الفكر الأصولي المتطرف " ) . وقال فيه الأستاذ المحاضرللفلسفة ، الفرنسي الجنسية ( تياي ) : " ( إن هذا المغربي الذي ولِد بتونس سنة 1332م من أسرة ذات أصل عربي، استوطنت الأندلس منذ بدء الفتح، ترك لنا تآليف قيمة، يمكن لنا أن نقول عنها: إنها لم تُثْر الآداب العربية وحدها، بل التراث الثقافي للإنسانية جمعاء، إن مؤسس علم الاجتماع (السوسيولوجية) ، وباعث فلسفة اجتماعية جديدة، كما أنه المؤسس الحقيقي للمنهجية التاريخية. لقد توصل ابن خلدون إلى أن هناك فلسفتين: فلسفة أصيلة صحيحة، وفلسفة كاذبة غالطة " ) . أما المستشرق : ( فانسان مونتيل ) . فقد ترجم ( مقدمته ) ، وقال عنه : ( " لقد سبق ابن خلدون مفكري التاريخ الأوروبي، خاصة العالم المسيحي الشهير «بوسويه»، ب3 قرون إلى فهم حركة التاريخ، وتفسير دلالته ومغزاه، ولكن ابن خلدون سبق أيضا أوغست كونت إلى تأسيس علم الاجتماع ب5 قرون، لقد طبق ابن خلدون، للمرة الأولى، منهجية جديدة على دراسة المجتمع الإنساني والحضارة البشرية، وكفاه ذلك فخرا " ) . لقد كان مشاهير المؤرخين الذين سبقوا شيخنا أبن خلدون ، من أمثال : ( الأمام الطبري : 838-923 ) و ( أبو الحسن المسعودي : 896 - 957 ) و( أبن الأثير : 1160 - 1234 ) ومن هم أقل شهرة منهم ، كانوا جميعا وبلاأستثناء يتعاملوا مع التاريخ ، على أساس أنه مجرد سجل وصفحات من تتابع وتنوع للحوادث والوقائع ! في حين أن الخلدونية تتعامل مع أحداث التاريخ الأنساني بمنهجية وقراءة تحليلية ونقدية إبداعية متميزة . فالخلدونية لا تكتفي بمجرد إيراد اخبار الماضي بل تحاول ان تفهمها وتستوعب دروسها . وهية بذلك تختلف تماما عن نمطية المدرسة الروائية التاريخية الكلاسيكية ، المجردة من التحليل النقدي جملتا وتفصيلا . وهذا ما يؤكده البروفيسور ( كلود هورو ) الأستاذ المحاضر في العلم السياسي والباحث في مركز التحليل المقارن في جامعة ( مونتسكيو) . إذ يطرح البروفيسور ( كلود هورو ) سؤال ويجيب عليه بنفسه : ( "هل يمكن أن نتعلّم اليوم شيئا مما قدمه ابن خلدون في القرن الرابع عشر؟ ويجيب البروفيسور ( كلود هورو ) على ذلك : ( " نعم بالنسبة لمفكر يكثف في أعماله فلسفة أرسطو والثقافة العربية الإسلامية ، ومجمل التجربة السياسية التي عاشها في الأندلس وتونس والمغرب ، وذلك بروح نقدية إبداعية عبر ما قدمه من مفهوم جديد للتاريخ ومن خلال التحليل الواقعي الذي طرح فيه نشوء وسقوط الحضارات " ) . وبنفس هذا السياق أكد المستشرق : ( بروفنسال . أ. ليفي ) : ( " إن صفات العبقرية عند صاحب المقدمة تتجلى في كونه أحرز قصب السبق في مجالات المعارف الإنسانية ، مما جعله في مسار يثير نزعة المعاصرين له من المؤرخين ، مسار حدد فيه لنفسه مكانته الخاصة المرموقة في مصاف العظماء ، ذلك أن منهجيته في فن التاريخ تعكس نظرة مطلقة أهّلته لإدراك حقيقته الخفية ومعناه البعيد " ) . لم يختصر الأبداع والعطاء المعرفي الخلدوني على التجديد في علوم التاريخ فحسب ، بل أتسمت بالموسوعية . وشملت مناحي وجوانب وميادين عديدة ، و منها في ميدان البحث العلمي الاقتصادي . فمن يعود إلى ( المقدمة الخلدونية ) يجد أن ( شيخنا ) ، قد خص هذا الميدان الحيوي الأقتصاد أهتمامه البحثي، وقد خصص له باب كامل هو الباب الخامس . أثرى فيه شرحا موضحا أرتباط الظواهر الاقتصادية بالظواهر الاجتماعية ، وعلاقة الكسب بالعمران البشري و عن وسائل الأنتاج في المرحلتين التاريخيتين ( البداوة و المجتمع الفلاحي ) وعن أسباب تخلف وسائل الإنتاج في المجتمع الفلاحي . وأفاض في رؤيته لوسائل الربح المشروعة وغير المشروعة . وله درس مطول حول ارتباط الصناعة بالحضارة . وتوقف عند فائض القيمة وأن لم يسهب فيه كثيرا . لاكنه أشار الى وقوع الظلم في قيمة العمل ، التي تعرف بالقاموس الأقتصادي المعاصر ب ( بفائض القيمة ) . وهو المفهوم الذي طورته لاحقا الماركسية في معرض تحليلها للنظام الرأسمالي ، كمرحلة تاريخية من مراحل التطور الأقتصادي والأجتماعي . وبهذا الصدد ، هناك رسالة موثقة بعث بها الروائي الروسي الشهير ( مكسيم غوركي ) ، إلى رفيقه المفكر ( أنوتشين ) قبل أنتصار ثورة أكتوبر البلشفية الروسية ، ببضع سنوات وتحديدا بتاريخ 21/ايلول سبتمبر 1912 . حين كان النقاش والبحث والتقصي محتدما أنذاك حول موضوعات ( التطور الرأسمالي والصراع الطبقي وضرورة الثورة البروليتارية ودكتاتورية الطبقة العاملة ) بين الزعامات الثورية الماركسية . فكان للروائي الروسي ( مكسيم غوركي ) أطلاع جزئي بالتراث الفكري لأبن خلدون ، خصوصا فيما يتعلق منها بالعوامل الاقتصادية و علاقات الإنتاج . لذلك أبلغ مكسيم غوركي في رسالته الموجهة لرفيقه ( أنوتشين ) ذكر فيها . ( " بأن المفكر العربي أبن خلدون وتحديدا في القرن الرابع عشر يعد أول من اكتشف دور العوامل الاقتصادية و علاقات الإنتاج " ) . أحدثت تلك المعلومة الغائبة وقعا مثيرا للمفكرين الماركسيين الروس ، و قد أهتم بفحواها ، الزعيم الروسي وملهم وقائد ثورة أكتوبر 1917 ( فلاديمر ألتش لينين) ، وأولاها أهتماما خاصا وحرص على الأطلاع على ماهو مترجم لأبن خلدون . وتسائل في ذات الوقت قائلا : ( " تُرى أليس في الشرق آخرون من أمثال هذا الفيلسوف ؟ " ) . وهناك الكثير من الأستشهادات التي يصعب حصرها في مقال و التي قاسمها المشترك إعجاب وتقدير وعرفان وأمتنان وتكريم لجهد وأبداع وتراث ( شيخنا الجليل ) المعرفي . الذي يضاف الى الأرشيف الضخم لمجموعة العلوم والمعارف والأبداعات الأنسانية الزاخرة بالعطاء الذي لاينضب . فالخلدونية التي ظلت مهملة و لقرون طويلة في وطنها الأم، تم إعادة الأعتبار لها في الغرب منذ مايقرب من قرنين من الزمان كأساس للعلوم التاريخية وكأول معارف إجتماعية للتاريخ الانسانى ورائدة لعلم الأجناس وصورة للثقافة الأسلامية المعتدلة والمستنيرة . مثقفينا ومفكرينا ومنظرينا وعلمائنا المبدعون ، مطالبون بأغناء الفكر المعرفي الخلدوني وتطويره أكراما لشيخنا وأكراما لأجيالنا . لكي تكون الخلدونية ، منهجا نظريا متكاملا ومستكملا ، يقارب واقعنا الفكري والسياسي وبأليات القرن الحادي والعشرين . [email protected] mailto:[email protected]