الثقافة في المعجم العربي تعني تقويم وتسوية الرمح، بشكل مجازي تعني خصلة عقلية تمكن الإنسان من سرعة الفهم والإدراك، تعطيه ميزة الذكاء والحذق. أما في المفهوم الأنجلوسكسوني فإن الثقافة ترتبط بالانثربولوجيا، وتعني الحضارة وهي عبارة عن مركب يجمع المعارف، العقائد، الفنون... يكتسبها الإنسان نتيجة وجوده كعضوداخل المجتمع، أما بالنسبة للثقافة في المفهوم الفرنسي فلقد ارتبطت في البداية بالفلاحة والزراعة وقدرة الإنسان على استعمال الأرض، ولقد تطورت مجازيا لتصبح مجموع المعارف المكتسبة والتي تمكن المرء من تنمية روح النقد والقدرة على الحكم، بشكل عام، تعتبر الثقافة مجموع المعارف المكتسبة، لكن من اكتسبها؟ وفي أي زمان؟ بطبيعة الحال إنه الإنسان واكتسبها منذ لحظة ولادته خلال حياته، وعلى هذا الأساس فإن ثقافته هي وليدة زمانه، هكذا نطرح السؤال: هل ثقافة الإنسان مرتبطة بحاضره أم بماضيه؟ إن كانت بماضيه فما هي محددات ثقافته؟ لنفترض أن إنسانا يعيش في مكان وزمان ما، يعيش ويتعايش فيهما معا، ومن خلالهما يكتسب معارف ويكون شخصيته الثقافية، التي ليست إلا إسقاط ثقافة مجتمعية عليه، فهل هذا الإنسان مرتبط بماضيه أم بواقعه؟ من الأولى لديه؟ من الممكن أن تؤثر ثقافة مجتمعية ذات صلات بالماضي على الأشخاص، وهنا نستحضر المقاربة المعرفية (l?approche cognitive) التي تفرق بين نوعين من الثقافات: نوع مجرد (codifié) ونوع ظاهر(décodé) ، المجرد في الثقافة هوالتراث والطقوس والتقاليد وما يجلبه الماضي في حاضرنا من روابط وعادات، أما النوع الظاهر فهوتلك المعارف التي تجعلنا نكتسب مهارات وكفاءات تساعدنا على التعامل مع واقعنا المعيش، تلك المعارف التي يكتسبها الإنسان وتمكنه من جلب قوته اليومي والمعيشي. بين هذين النوعين الثقافيين يهتم الإنسان أكثر بالنوع الثاني ولا تهمه تلك الثقافة المجردة، التي لا تساعده على تحمل أعباء الدهر. من هنا يمكن القول بأن الثقافة التي تهمنا اليوم هي تلك المعارف التي تمكننا من تحسين واقعنا الاجتماعي والتي تساعدنا على الاحتفاظ بكرامتنا كأشخاص وشعوب، وليست تلك من تحملنا ما لا لنا طاقة عليه. في هذا السياق تبدوإشكالية الأصالة والمعاصرة إشكالية مغلوطة لأنها تسائل الروح ولا تهتم بواقعنا المادي، إنها مثالية غير واقعية، لا تفسر الواقع الملموس ولا تتيح الفرصة أمام استغواره وتغييره، إن من يتحدث اليوم عن الأصالة والمعاصرة يبحث عن الوصال بين الماضي والحاضر، ينسى أويتناسى أن المحدد الثقافي هوالوجود وليس الوعي، الوعي يتحدد بالوجود، هذا ما لا يتداركه أصحاب هذه الإشكالية، الشيء الذي يجعلهم يرقدون في الميتافيزكا أكثر منها في الجدلية المادية العلمية، إن السؤال الذي يبرز بقوة اليوم ليس بإشكالية الأصالة والمعاصرة بقدر ما أنه الواقع الاجتماعي الذي يفرض تصورا آخر غير ذلك الذي يطرحه السؤال المشكوك والمغلوط، أي الأصالة والمعاصرة، وكما أن التاريخ ليس بصراع بين الأصالة والمعاصرة ولا توفيق بينهما بل صراع طبقي يتحمل فيه الإنسان معاناة وضعه الاجتماعي، يمكن الجزم بأن ثقافة مجتمع أي كان لا تحددها اعتبارات القدامة والحداثة، بل يحددها الواقع الاجتماعي لأفراده الذين يبحثون عن الكرامة والعدالة الاجتماعية وعن سقف لمطالبهم المتغيرة والجميلة في إنسيتهم. في هذه الزاوية الثقافية في إشكالية الأصالة والمعاصرة يمكننا النقاش من استحضار أمارتيا سين ( جائزة نوبل 1998) الذي يعتبر بأنه لا وجود لحضارة ذات ثقافة واحدة، بل هناك حضارة ذات ثقافات متعددة (في كتابه الهوية والعنف)، هذه الحضارة هي الحضارة الإنسانية. نشاطره الرأي، لأن كل الثقافات شهدت تداخلا وتبادلا ثقافيا بين الإقليمي والأممي والمحلي والدليل يمكن إبرازه في اللغات. لقد عرفت الإنسانية تحاورا ثقافيا عبر تاريخها، لا يمكن الحديث عن ثقافة خاصة بل هناك ثقافة واحدة هي الثقافة الإنسانية التي تحمل في طياتها كل التفاعلات والخلاصات الجميلة التي استخلصناها عبر تجاربنا كإنسانية، والتي لا يمكن للفرد إلغاءها لأنها تراثه الحقيقي، إن الأصيل فينا إنساني والمعاصر فينا إنساني كذلك، وإن اختلفت اللغات والعادات فإنها لا تختلف نوعا، إن إشكالية الأصالة والمعاصرة في الزمن الكوني غير مطروحة وغير مجدية. ننتمي إلى جغرافية معينة، هذا صحيح، إلا أن ثقافتنا الكونية ثقافة كونية تجعل من حاضر الإنسان وعصره تراثه الإنساني والكوني. هل نحن أناس منعزلون عن العالم؟ وهل الثقافة في هذا الإطار فيها الأصيل والمعاصر؟ لماذا إذن هذا السؤال؟ هل هومغلوط؟ نعم إنه كذلك لأنه لا وجود لأصيل ومعاصر خارج الثقافة الكونية، وما الثقافات المحلية إلا جزيئات وتفاصيل من الثقافة الكونية، بلا اعتبار أمام الحضارة الإنسانية ككل. إن العولمة التي يشهدها عصرنا هذا، ما هي إلا أحد تمظهرات هذه الثقافة الكونية، وإن كانت تفرض بعض الضوابط والأخلاق فإنها تفرض في نفس الوقت نظاما إنسانيا شاركنا في بلورته جميعا عبر التاريخ إراديا أولا إراديا. يتحدثون اليوم عن إشكالية الأصالة والمعاصرة وكأننا منعزلون عن العالم وكأن الأصيل فينا ليس إنسانيا وكأن الحاضر ليس واقعا إنسانيا. إن مشكلة هذا النقاش هي تفاهته الثقافية حيث يغيب المضمون ويرتكز على مقومات عرقية وطائفية، إقليمية أوجغرافية، كأنه لا وجود لمشاكل أخرى اجتماعية واقتصادية، إنها إشكالية الأصالة والمعاصرة في واقعنا الراهن التي لا تخدم إلا فئة محدودة، أرادت أن تجعل من هذا النقاش أولوية لتغطية المشاكل الحقيقية. إنها فئة تبحث عن وحدة المجتمع في واقع مضطرب وعن التقدم في واقع العولمة، واقع الواقع المرفوض. لن تجيب هذه الفئة عن إشكاليتنا الحقيقية بل إنها سوف تعمق الهوة بين أفراد المجتمع، إنها السبب في تأخرنا، فالتحليل الفكري الذي يبحث عن وعي اجتماعي غير مجدي وليس بالضرورة، الضرورة اليوم هومحاولة استكشاف الوجود الاجتماعي من أجل تصور فكري يبحث ويرسم المستقبل. (يتبع) 4- إشكالية الأصالة والمعاصرة والبديل الحداثي التقدمي حتى نجيب عن أسئلتنا الأخيرة، لا بد لنا من استحضار الخلاصات الأولية من هذا التحليل، إن إشكالية الأصالة والمعاصرة ليست بعلاقة صراع ولا علاقة توفيق، إن هذه الإشكالية طرح غير سليم من الناحية الثقافية، الأصالة والمعاصرة طرح مغلوط الغرض من ورائه الهروب من الأسئلة الحقيقية ذات البعد الاجتماعي، هل نحن في حاجة إلى طرح جديد؟ ما هوهذا الطرح الجديد؟ نعم نحن بحاجة إلى طرح جديد يسائل واقعنا ويجعلنا مدركين لتداعياته، يسمح لنا بفهمه واستنباطه، يتيح لنا فرصة تحليل وتغيير الواقع، نحن بحاجة إلى مشروع يساعدنا على تثوير ثقافتنا، هذه الأخيرة التي مازالت تقبع في الجامد ولا تبحث عن المتحول. على الطرح الجديد أن يكون ابن زمانه يتفاعل مع معطيات المرحلة التي تنشد التغيير بعيدا عن الجمود والانزواء والارتكان لأعراف زمن يفضل فيما بيننا، إنه المشروع الواعد الذي نتحمل فيه المسؤولية جميعا والذي يميزنا عن غيرنا من إرادات سلبية وتعسفية، مشروع جديد لا يعترف بالانغلاق في كنف نسق معرفي معين بل يعترف بالإنسان فقط، ويعترف بقدراته على فهم التاريخ وكتابة تاريخ من نوع جديد. إن الانغلاق والتعصب صور من صور عدم الانفتاح على العالم والمجتمع. إن الخصوصية ليست الانغلاق في الماضي والانكماش في تفاصيل العقل، الخصوصية في هذا الجانب تصبح رجعية كمرآة تعيدنا دائما لنقطة البداية، تصد الرؤية ولا تسمح بمرور الأشعة، تعكس الماضي ولا تبحث عن المستقبل، إن خصوصيتنا يجب أن تتجسد في قدرتنا على الانطلاقة من جديد لرفع التحديات الحقيقية دون جبن وتهرب، إن الخصوصية في هذا السياق ستجعلنا مجتمع الطموح والإرادة والمجابهة وليس مجتمع الانكسارات والإخفاقات، ليست الخصوصية تلك الصفة التي لا تجلب إلا السلبي والخضوع، الخصوصية هي من تحمل الإيجابي فينا وتجعلنا مجتمع المنجزات وليس مجتمع الفشل والندم وكان وأخواتها. إن مقومات المشروع الجديد يجب أن تنطلق من واقعنا، هذا الواقع الذي نعيشه جميعا ونتحمله جميعا، واقع قد يكون مؤلما بالنسبة لشريحة مجتمعية ومناسبا لأخرى، مشروعا نتمكن من خلاله من معاصرة الواقع، يجعلنا حداثيين، يعمق وعينا الاجتماعي، ويمكننا في نفس الوقت من رسم مستقبلنا جميعا، عندما نقول جميعا فإننا نتحدث عن مجتمع ككل، ليس فئة دون أخرى. إن طرح المستقبل كمعيار أساسي في تصورنا سيمكننا من تغيير الواقع، في اتجاه التطور وليس التخلف، تغيير للواقع لا تشوبه لا إرهاصات ذاتية ولا نزوات قومية. مشروع عقلاني وواقعي نتحمل فيه المسؤولية ونحمله المسؤولية كذلك. إنه مشروع سنجد فيه أنفسنا كمكونات بشرية تنتمي إلى منظومة ثقافية عالمية وكونية، والتي بفعلها سنمتثل لقواعدها العولماتية والكونية، إنها المعاصرة والحداثة من جهة. فمن منا ليس بالحداثي ولا يتكيف مع متطلبات العصر والحدث؟ ومن جهة أخرى إنه مشروع ذوتصور مستقبلي جميل يتيح لنا الفرص ويخلق التجانس الاجتماعي، إنه مشروع تقدمي. إن واقعنا اليوم يفتقد لاحترام الحريات، الديمقراطية فيه مازالت لم ترتق إلى مستواها الكوني، والإنسان في ظل هذا الواقع يعاني التهميش، الفقر والتبعية معا، واقع يفضل الزبونية ويهمش الاستحقاق، يكرس الفئوية والمحسوبية في مجالات الثقافة، الاقتصاد والسياسة وحتى المجتمع، ولا يعير الاعتبار للطاقات والمواهب، وخير مثال عن ذلك ما نعيشه اليوم في حقلنا الثقافي والنخبوي. إن المستقبل يناشدنا جميعا، احترام الحريات، الديمقراطية، الاستحقاقاتية، والتكافل والعدالة الاجتماعية، ننشد مغربا لا يفرق بين أبنائه، ولا غطرسة من طرف نخبه،. إن المشروع الجديد مشروع يعصرن الدولة والمجتمع، يقدم ولا يؤخر ، لا يجعلنا مرتهنين بالمجازية والتمييع، مشروعا تقدميا لا يرتبط بالتراث والماضي بالمفهوم السائد والمغلوط، بل يدعوالماضي في تجاربه الإنسانية الفاعلة في حركة التاريخ، تلك التجارب التي قدست الإنسان وجعلته فوق أي اعتبار. إن الانزواء بدعوى الانكماش لن يخلق إلا المعاناة، إننا أولا وقبل كل شيء ننتمي إلى حركة إنسانية كونية مجدت الحرية وتحترم الديمقراطية وتدعوإلى العدالة الاجتماعية. إن البديل الآخر الذي نطرحه هوالحداثة والتقدمية من أجل تغيير الواقع الاجتماعي ولإصلاح وضعية الفئات المعوزة، مشروع المعاصرة والعصرنة كبديل عن الأصالة والمعاصرة، هومشروع لا يربطنا بتاريخ تقليدي بل يربطنا بمسألتنا الاجتماعية التي لا تبحث عن التراث ولا تدعوإلى القومية، لا تسخر من القضية الفلسطينية بل تبحث عن التطور في زمن جديد، ليس بزمن الأسلاف، ليس بزمانهم فقط. المشروع الجديد، مشروع تغييري، بديل عن مشروع الأصالة والمعاصرة، لأنه يتجاوزه من الناحية المادية، إنه مشروع اشتراكي ديمقراطي، لا يبحث عن ملجأ في ثنايا التاريخ. لا نقول، لا للتراث ولا نعم للتراث، نقول هذا شيء لا يهمنا، ما يهمنا هوحاضرنا ومستقبلنا وكل شيء آخر لا يعنينا. إن البديل الآخر هومشروع المعاصرة والعصرنة، أوبالأحرى المشروع الحداثي التقدمي، الذي لا يرتبط بالماضي لأنه لا يهمه، لكنه يسائل الحاضر ويبحث عن الحلول. إن المشروع الحداثي التقدمي مشروع طلائعي، وهوالوحيد الكفيل بحل معضلاتنا الاجتماعية. فلنفكر جميعا بالبديل الحداثي التقدمي.