فضائل الحاج محمد باكرو مقدم الطائفة العيساوية بمراكش تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله. n الشيخ عبد الرحمن الملحوني، يبدو أنك فيما بعد غيرت نظرتك للممارسات التي حدثتنا عنها في الحلقة السابقة، و التي بقيت محفوظة في ذاكرتك. كيف حدث ذلك؟ هل يعود ذلك غلى احتكاك بالأجواء اليوسفية (نسبة إلى جامعة ابن يوسف وعلمائها)؟ p كان لاتصالاتي في فترة الشباب وما تلاها من فترات عمرية، ببعض «الطوائف الصوفية» بمراكش، مفعول كبير في اهتمامي بطقوسها، وأحزابها، وأذكارها … نعم، فمن الطوائف التي عايَشت أحوالَها، وما كانت تقدمه للجماعة الشعبية العريضة : مريدين، وأتباع، وممن وقفت على عاداتها، وتقاليدها : الطائفة العيساوية التي كان والدي – رحمه الله – مريدا من مريديها، خص الكثير من أشعاره في مدح شيخها : الهادي بن عيسى – رضي الله عنه – ، وفي الإشادة – أيضا – بمناقبه وكراماته، وذكر شيوخه والتنويه بأتباعه، مما جعلني أهتم بهذه الطائفة الصوفية، وأستمع إلى ما كان أصحابها يروونه عن شيخها الكامل، وعن شيخه بمراكش عبد العزيز الملقب بالحرار، والمعروف ب «التباع» – رضي الله عنه -. وذات يوم، جالست والدي الحاج محمد بن عمر الملحوني – رحمه الله – وحين أخذ الحديث يتسع، ويتفرع، بل حين أخذ يجري مجراه في نواح عدة، تطرق الشيخ، إلى الحديث عن الرجال السبعة بمراكش، وما نظم شاعر الملحون في حقهم من أزجال، بل ما كان معجبا به الشيخ من قصائد الأوائل من شعراء المدينة، بداية من عهد الشيخ الجيلالي امثيرد – رحمه الله – إلى عهده. نعم، فلقد كنت في هذا الموضوع بالذات، لا أعرف عن سبعة رجال – من خلال ديوان الملحون – إلا القليل جدًا، مع الوقوف على ما ذكره بعض المؤرخين في مصادرهم، وهي كثيرة ومتعددة، ولكن الظروف لم تتح لي فرصة الاستماع، ومتابعة ما كانت تختزنه «الذاكرة المراكشية» إلا بعد حين ؛ فهناك الكثير من الأخبار، والمرويات عن هؤلاء احتفظت بها الصدور: أدبيات، طرائف، إشراقات، مستملحات، قصائد من الزجل المغربي الملحون … وسألت والدي يوما عما إذا كان عنده ما يمكن أن يزودني به من معارف أمينة عن الرجال السبعة مما كانت ترويه «الذاكرة الصوفية» وما كان يتلقاه بنفسه عن علماء مراكش، الذين خصصوا بعض دروسهم للحديث عن رجالات المدينة وأقطابها السبعة، وفي هذا الشأن، قدم إليَّ – رحمه الله – الكثير من المعارف التاريخية، والأدبية، مما احتفظت به ذاكرته، كما كان يُطلعُنِي على مجموعة من قصائده، وأخرى من روائع شيخه المرحوم اسماعيل الدكالي – رحمه الله -، ومختارات من خالدات المديح في ديوان فنّ الملحون، فلقد وجدت في نفسي رغبة ملحة في أن أستزيد من هذه المعارف، ورغبة أخرى تدفعني إلى التَّدوين والاهتمام بهذه الموضوع (خصوصا في المراحل الأولى من العمر) . n هل كانت عملية التدوين سلسة؟ فنحن نعلم أن تحويل عالم رمزي كل آثاره محفوظة في الصدور، و تتناقلها الأفواه، إلى شيء محفوظ في المخطوط، أمر يرفع تحديات كبيرة في وجه من يتجاسر على ذلك.. p في مرحلة التدوين، عانيت ما عانيت من صعوبات في الجمع، والتنقيب، حيث وجدت في «الذاكرة المراكشية» ما قد دفعني في حماس أن أطوف في أرجاء المدينة وخارجها، أجهد نفسي إجهادا في جمع الأخبار، والمرويات، وتصحيحها، ومقابلة التراث الشفوي، بالمكتوب الموثق في بعض المصادر والمراجع، بل كنت أصرف الرغبة الملحة في التوجه إلى من كان يعرف الكثير من سيرهم، ولم يبخل علي – وقته – بعض رجال الطوائف الصوفية بالمغرب الذين كنت آخذ عنهم ما أجمعه، وأرتبه، فاستغرقت في الجمع والتنقيب فترة من الزمن، ليست بالقصيرة، حتى صرفتني الصوارف، إلى إحداث «مهرجان سبعة رجال الثقافي الصوفي» الأول، وأنا في سِنّ الكهولة وذلك سنة : 1986 : إنَّه محطة أخرى من محطات اللقاء ببعض الطوائف، لجمع تراثها، وأخبارها، والنَّبش – أيضا – في معارف الأجيال، على تعاقبها، وإلى حين «تجربة ناجحة في جمع نصوص التصوف الطرقي وأدبيات أصحابها» . n وقفت في بعض مؤلَّفاتك التي اطلعت عليها، ومنها كتاب: مسالك صوفية للطريقة الحمدوشية، على الإهداء الجميل الذي خصَّصته في هذا الكتاب لأحد الأشخاص من مريدي الطائفة العيساوية بمراكش، وهو الحاج محمد باكرو – رحمه الله -؛ وأشرت في هذا الإهداء، إلى أنه كان من المدعّمين للمشروع الصوفي الخاص بالطريقة العيساوية، والذي أخد منك حيزا هاما في البحث والتنقيب في فضاءات هذه الطريقة وجمع تراثها وما بقي من عوائدها، على تعاقب الأجيال المغربية؛ هل يمكن أن نعرج قليلا في حديثنا هذا على هذه الشخصية، وأنت تخوض معها معركة الجمع لتراث الطائفة، في يوم كان هذا التراث الصوفي يختفي في فضاءات المريدين والأتباع، بل بعضه غدا تعتريه معالم من الانحراف والتضليل؟ p كان لهذا الرجل دور كبير في كل الأعمال التي تم إنجازها في هذا الصدد؛ إنه خزانة تمشي فوق الأرض، مدَّني – رحمه الله – بالنَّوادر، وفسح لي المجال الرحب أن آخذ من مكتبته ما شئت، بل أعانني ماديا، ومعنويا، وساعدني في إنجاح مجموعة من المهرجانات كانت تحوم كلها في البحث والتنقيب في تراث العيساويين. وإني لا أنسى تلك الكلمة القيمة التي اِفتتح بها الدورة الأولى من دورات مهرجان سبعة رجال الثقافي الصوفي الذي أشرفت على تنظيمه جمعية الشيخ الجيلالي امثيرد بمراكش، خلال عشر سنوات خلت، كلها سارت في مسار البحث والدَّرس، فأعطت أكلها طيّبا بما تم نشره في بعض المؤلفات. ومما جاء في الكلمة التي تفضل بإلقائها حينها الحاج محمد باكرو – رحمه الله – باسم الطائفة العيساوية بمراكش ما يلي: «… يَشاء القدر أن تعود الطائفة العيساوية بهذه المدينة إلى أيام عزّها، ونشاطها الصُّوفي الكبير، الذي كانت تقوم به في مثل هذه المناسبة الدينية من كل سنة : إنَّها مناسبة الاحتفال بذكرى عيد المولد النبوي الشريف، وقد شاهدنا هذا النشاط الروحي بهذه المدينة ونحن أطفال صغار، ونشاهده اليوم في عهد الشباب، والكهولة» ؛ ومع الأسف الشديد، فقد اعتَرى هذه الطائفة فتور، وجمود في أنشطتها الدينية، والاجتماعية، أزيد من أربعة عقود خلت، غاب معها ما كانت تقوم به في زاويتها بحومة درب ضباشي، التي أقفِلت بصفة نهائية، وكأنها لم تكن موجودة بالأمس القريب، وبزاوية حومة القصبة التي لا تزال تواصل نشاطها الصوفي إلى اليوم، على غير عوائد السلف أيام زمان. نعم، فها نحن الآن، نضرم جذوة هذا النشاط الثقافي من جديد، لسببين اثنين: السبب الأول: إزالة ما كان لاصقا بأذهان العامة، جمهور الطائفة، من بعض الصور الدينية المنحرفة، والخارجة عن حدود الإسلام، وما رسمه رسول الله –صلى الله عليه وسلم – من تعاليم دينية، أخلاقية، لا تتجاوز عتبة التوحيد، وخصوصا عند أولئك الذين لم يعرفوا مبادئ الطريقة، ولا ما قد دعا إليه شيخها في وقته الهادي بن عيسى – رضي الله عنه -، بواسطة خُطبه السنية، وأحاديثه التوجيهية … وما عرفه المريدون عن طريق الأحزاب، والأذكار … السبب الثاني: التعرُّف على الطائفة العيساوية في إطارها الصوفي المستقيم بدخول المتعلمين إليها: مريدين، وأتباع، وتذوقهم لأذكارها، وأحزابها، والوقوف – أيضا- على حِكم شيخها في كثير من المناسبات، ولاسيما ما كان يَرويه عنه مريده المخلص: المحجوب أبو الرواين – رضي الله عنه -؛ (للتَّوسع يُنظر كتاب: الحكاية الصوفية للمؤلف وهو في جزئين، مطبعة دار أبي رقراق بالرباط). نعم، فلهذين السببين، وقفنا اليوم بجانب جمعية الشيخ الجيلالي امثيرد التي تخص هذه الطائفة بعناية فائقة، تشجيعا لإحداث هذا المهرجان الصوفي للوصول به إلى المبتغى المقصود، والمرمَى المنشود. وقد وعدنا السيد رئيس الجمعية الأستاذ عبد الرحمن الملحوني بأن يكون موسم الطائقة القادم في إطار مهرجان سبعة رجال الثقافي، الصوفي الثاني، استجابة للخطة التي رسمها اللقاء الأول المنظم هذه السنة. وسنسعى بحول الله وعونه، أن يكون اللقاء الثالث: لقاء يجمع بين الطوائف العيساوية، على مستوى منطقة المغرب العربي الكبير (المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا)؛ إننا نحاول اليوم، أن نؤدي رسالتنا إزاء ما كانت تزخر به الثقافة الشعبية الأصيلة، والتي يوصي صاحب الجلالة، الملك الحسن الثاني بالاهتمام بها، وبرعاية تراثها، والاستفادة من عوائدها، وأدبياتها …» انتهت كلمة المرحوم الحاج محمد باكرو مقدم الطائفة العيساوية بمراكش.