بقلم :ذ. محمد عادل التريكي أولا: الأبعاد الثقافية للتغير العالمي الشامل! لم يعد تطبيق الديمقراطية باعتبارها نظاما سياسيا يكفل لجماهير الشعب المشاركة في العملية السياسية بكل أبعادها والرقابة على عملية صنع القرار في المجالات المختلفة، مجرد شأن داخلي للنظم السياسية إن شاءت طبّقتها وإن لم تشأ امتنعت عن إعمالها، بحكم شمولية أو سلطوية النظم وتراثها الراسخ في الاستبداد. وذلك لأننا نعيش في عصر التغير العالمي الشامل Global Change، والذي شمل كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. ومن بين المظاهر البارزة لهذا التغير الشامل بروز ما يطلق عليه «المجتمع العالمي» والذي يتشكل من قوى متعددة، أبرزها السياسات التي تتبعها الدول الكبرى وكذلك الأممالمتحدة في مجال الديمقراطية والتعددية واحترام حقوق الإنسان، وتخلق شبكة واسعة من المنظمات غير حكومية أصبحت تكون ما يطلق عليه «المجتمع المدني العالمي»، بالإضافة إلى بروز مزاج عالمي بين شعوب العالم المختلفة ينزع إلى الديمقراطية ويشجع التعددية في صورها الإيجابية ويحترم حقوق الإنسان. ومن هنا اتخذت الموجة الثالثة للديمقراطية اتجاهات جديدة، وحظيت بدعم قوى متعددة، جعلت الدول التسلطية التي تقاوم الديمقراطية تحت الرقابة المباشرة للمجتمع العالمي بكل مفرداته التي ألمحنا إليها. بحيث يمكن القول أن شرعية أي نظام سياسي في الحقبة الراهنة تقوم على أساس مدى تطبيقه للديمقراطية وقبوله للتعددية واحترامه لحقوق الإنسان. وعلى ذلك أصبح هناك اتجاه لم يقنن بعد، يميل إلى أن المجتمع العالمي من حقه أن يتدخل لتعديل مسار النظم السياسية، وسواء كان هذا التدخل إنسانيا كما حدث في الصومال حيث احتدمت الحرب الأهلية بين الفصائل المتناحرة مما مثل تهديدا حالا للشعب الصومالي نفسه، أو تدخلا سياسيا كما حدث في العراق، وإن كانت هذه الحالة بالذات مشكوكا في شرعيتها الدولية، لأنها لم تكن سوى تدخل استعماري صرف من قبل الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا، اتخذت حجة امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل ذريعة لغزوه ونهب ثرواته والتمركز العسكري فيه، للسيطرة المباشرة على الوطن العربي، ضمانا لتدفق النفط من ناحية، وللحفاظ على أمن إسرائيل من ناحية أخرى. والتغير العالمي الشامل Global Change بدأت موجاته تتصاعد منذ سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1989، والذي أدى إلى انهيار النظام الثنائي القطبية وتحول النظام الدولي إلى نظام أحادي القطبية، تهيمن فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية باعتبارها القطب الأوحد على المسرح العالمي، بحكم قوتها العسكرية الفائقة وإمكانياتها الاقتصادية الجبارة، ومبادراتها التكنولوجية. وقد حاول بعض الباحثين تحديد السمات الأساسية للتغير العالمي الشامل، وإيجازها في عدد من الموضوعات الرئيسية. الموضوع الأول يتعلق بسرعة التغير. وهذه السرعة تتعلق في المقام الأول بالإيقاع الفائق السرعة في مجال التطوير التكنولوجي. ويشهد على ذلك ما شهدته صناعة الحاسبات من تطور وما يلحق بشبكة الإنترنت من مستحدثات يصعب حتى على المتخصصين ملاحقتها. ولا تقف سرعة التغير عند حدود المجال التكنولوجي، ولكنها تتعلق أيضا بكل مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة. ولننظر إلى السرعة الخارقة التي تحولت بها النظم الشمولية في دول أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي إلى نظم ديمقراطية. وكذلك التحول السريع من اقتصاديات التخطيط إلى اقتصاديات حرية السوق. ونفس الاتجاه في مجال تحول أذواق الجماهير واندفاعها إلى تبني قيم وسلوكيات المجتمع الاستهلاكي، مما يعكس تغيرات سريعة في منظومة القيم الاجتماعية والثقافية. أما السمة الثانية للتغير العالمي الشامل فهي توزع القوة. وإذا كنا نعيش في عصر القوة المعولمة- إن صح التعبير- فهذا لا يمنع أننا نعيش في نفس الوقت عصر السياسة التي جرى تفتيتها. ذلك أن الدولة القومية أجبرت- نتيجة تطورات متنوعة ومتعددة- على أن تقاسمها القوة والنفوذ منظمات دولية أبرزها الشركات المتعدية الجنسيات، والمنظمات غير الحكومية التي تمثل كما قلنا المجتمع المدني العالمي. والسمة الثالثة للتغير العالمي الشامل هو الاعتماد المتبادل بين الشعوب. وإذا كان توزع القوة يمثل انهيار في المكانة التي كانت تحتكرها الدولة القومية، فإن الاعتماد المتبادل يعد اختراقا لجبهة الانعزال بين الأمم. وهذا الاعتماد المتبادل بين الشعوب يتخذ صورا شتى في مجال الحفاظ على الأمن العالمي وحل الصراعات بالطرق السلمية والمساعدات الاقتصادية في مجال التنمية، وتشجيع حوار الثقافات في مواجهة دعاوي صراع الحضارات. وهناك طرق متعددة أدت إلى زيادة الاعتماد بين الشعوب وأهمها على الإطلاق ثلاثة: أولا: زيادة الطابع العابر للأمم للمشكلات التي تواجه الإنسانية. وهي التي أطلقنا عليها "عولمة المشكلات الإنسانية". وثانيا: بروز شبكات عابرة للقوميات تتعلق بالتعاون بين الشعوب. وربما كانت بعض المنظمات غير الحكومية الشهيرة مثل «أطباء بلا حدود» وغيرها نموذجا مثاليا على تبلور وعي إنساني كوني يدفع تجاه تكوين منظمات تمارس جهودا دولية مشتركة. وثالثا: غياب المسافات بين السياسة الخارجية والسياسات الداخلية. ومعنى ذلك أن بعض قرارات السياسة الخارجية لدولة ما قد تؤثر تأثيرا عميقا على السياسات الداخلية لدول متعددة، والعكس صحيح. بمعنى أن قراراً يخص السياسة الداخلية لدولة ما وخصوصًا إذا ما كانت دولة عظمى، قد يؤثر بالتالي على السياسات الخارجية لدول متعددة. *** وقد تكون كل حقائق التغير العالمي الشامل وتأثيراتها البالغة على المجتمعات الإنسانية المعاصرة، هي الكامنة وراء الجهد المشترك لنادي روما ومنتدى الفكر العربي في عمان على عقد ندوة مشتركة موضوعها " البحث عن أرضية مشتركة للسلم والتنمية" والتي انعقدت في عمان في الفترة من 8 أكتوبر حتى 10 أكتوبر 2003. وقد تلقيت الدعوة لحضور هذه الندوة الهامة من الأمير الحسن بن طلال رئيس نادي روما ورئيس منتدى الفكر العربي. ومن المعروف أن نادي روما من أبرز مراكز الأبحاث المتخصصة في استراتيجيات التنمية، وقد نال شهرة عالمية عقب أن أصدر منذ سنوات طويلة تقريراً مشهوراً بعنوان "حدود النمو" والذي تنبأ فيه أن الإنسانية ستشهد أزمة كبرى بحكم الفجوة الدائمة الاتساع بين السكان والموارد. وقد عكست هذه النبوءة نظرة تشاؤمية لمستقبل العالم، حاول أن يفندها مركز أبحاث تقدمي في أمريكا اللاتينية، وصاغ ما أطلق عليه " نموذج باروليتشي" والذي قرر فيه أن العيب يكمن أساسا في النظام الرأسمالي العالمي وطريقته في تراكم الثروة وتكديس الفائض. ومن هنا فالحل يكمن في إعادة صياغة المعادلة الحاكمة للرأسمالية بما يضمن عدالة التوزيع بين الشعوب. وقد تعددت منذ هذا الحين التقارير التي يصدرها نادي روما والتي أصبحت ذات ثقل فكري عميق في مختلف دوائر صنع القرار في العالم. ولاشك أن اختيار الأمير الحسن بن طلال منذ فترة قصيرة لرئاسة نادي روما إنما يعد اعترافا بالملكات الفكرية الخلاقة للأمير الذي قاد في الأردن لمدة تزيد على خمسة وعشرين عاما عملية التنمية الأردنية وفق فكر اقتصادي عميق، ليس ذلك فقط ولكن إسهامات الأمير في مختلف الدوائر العالمية في مجالات القانون الدولي الإنساني وغيره من المجالات، كانت هي المبرر لاختياره لقيادة نادي روما في هذه المرحلة الحرجة في تاريخ الإنسانية. أمات منتدى الفكر العربي الذي أسسه الأمير الحسن مع نخبة من المثقفين العرب فقد كان مبادرة فكرية جسورة لطرح ومناقشة مختلف مشكلات المجتمع العربي، وإقامة حوارات حضارية مع مختلف الثقافات. دعيت إذن لهذا المؤتمر الهام لإلقاء محاضرة عن " الأبعاد الثقافية للتغير". وحين تلقيت الدعوة أحسست بصعوبة المهمة، لا لشيء إلا لكون أن هذا الموضوع بالذات حظي في السنوات الأخيرة ببحوث نظرية وتطبيقية شتى. وقد أثرت أن أبدأ محاضرتي بشكل موجز بالإشارة إلى أهمية إنجازات منهج التحليل الثقافي وخصوصا فيما نشرته اليونسكو من كتب هامة في هذا المجال وأبرزها كتابان هما: "البعد الثقافي للتنمية" والذي صدر في باريس عام 1995، و "الأبعاد الثقافية للتغير العالمي الشامل" الذي صدر عن اليونسكو 1996 وحرره لورد آريزب، والذي يميز فيه تمييزا لافتا للنظر بين المتغيرات الثقافية بطيئة التغير وتلك التي تتسم بكونها سريعة التغير. وقد نعود من بعد للتفصيل في هذه النظرية الهامة، لأنها يمكن أن تقودنا لوعي أعمق بعملية التغيير الثقافي واسع المدى الذي يحدث في العالم، والتي رصدها بدقة منهجية بالغة عالم الاجتماع الأمريكي انجلهارث والذي قام ببحث شهير عن القيم الاجتماعية في العالم. وأيا ما كان الأمر، فقد آثرت أن أركز على أربعة مؤشرات للتغيير العالمي الشامل وهي: الانتقال من النظام الثنائي القطبية إلى النظام الأحادي القطبية، والعبور من نمط المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي، وبروز عملية تاريخية كبرى هي العولمة بكل تجلياتها، وتحليل أحداث 11 سبتمبر. وقد تتاح لنا الفرصة قادمة لكي نتحدث بشيء من التفصيل عن كل عملية من هذه العمليات الكبرى التي أنتجت ظاهرة التغير العالمي الشامل. ثانيا: من الثورة الصناعية إلى الثورة المعلوماتية! إذا كنا انطلقنا في مجال دراسة المجتمع العالمي الراهن من مقولة أساسية مفادها أننا نمر بمرحلة تغير كوني شامل، فقد كان علينا أن نحدد مفردات هذا التغير ومؤشراته الكميةȠوالكيفية. وقد سبق أن أشرنا في مقالنا الماضي إلى أننا – فيȠمحاضرتنا التي ألقيناها في ندوة نادي روما ومنتدى الفًر العربي في عمان – حددنا أربع علامات كجرى للتغير: الأولى الغغير الحضاري الواسع المدى والمتعدد الأبعاد من نموذج المجتمع الصناعي إلى نموذج مجتمع المعلومات العالمي، والذي يتحول- ببطء وإن كان بثبات – إلى مجتمع المعرفة. والعلامة الثانية التغير الجذري الذي لحق ببنية النظام الدولي عام 1989 حين سقط الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية، والانتقال من النظام الثنائي القطبية إلى النظام الأحادي القطبية، والذي تبسط فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية رواقها على مجمل الفضاء العالمي بحكم قوتها العسكرية الفائقة ووزنها الاقتصادي ومبادراتها التكنولوجية. والعلامة الثالثة والبالغة الأهمية ظهور وبروز وتأثير عملية تاريخية كبرى هي العولمة، بكل تجلياتها السياسية والاقتصادية والثقافية والاتصالية. والعلامة الرابعة والأخيرة انفجار حدث عالمي غير مسبوق هو الأحداث الإرهابية ضد الولاياتالمتحدة، والتي مثلت تحولا كيفيا خطيرا في مسار الإرهاب العالمي من ناحية، وأبرزت هشاشة مفاهيم الأمن القومي التقليدية في عصر العولمة من ناحية أخرى. من الصناعة إلى المعلوماتية ويمكن القول بأن التغير الأول ونعني من الثورة الصناعية التي أنتجت المجتمع الصناعي إلى الثورة المعلوماتية التي أنتجت مجتمع المعلومات العالمي، يعد من أعمق التغيرات في تاريخ الإنسانية. صحيح أن الإنسانية شهدت من قبل تغيرات ثورية في مسار التطور الحضاري للإنسان، وكان أبرزها الانتقال من مجتمعات الصيد إلى مجتمعات الزراعة. ولا شك أن تأسيس المجتمعات الزراعية أدى إلى نقلة حضارية كبرى للمجتمعات الإنسانية استمرت آثارها حتى الآن. وكانت النقلة الحاسمة الثانية الانتقال من المجتمعات الزراعية إلى المجتمعات الصناعية. ولا نبالغ لو قلنا أن الانتقال إلى نموذج المجتمع الصناعي هو الذي أعطى للمجتمع الإنساني طابعه الحديث. فقد تمت إعادة صياغة كاملة للبناء الاجتماعي للمجتمعات التي دخلتها الصناعة مبكرا، مثل إنجلترا أو غيرها من الدول الأوروبية. وأدى ذلك إلى تثوير أنظمتها السياسية، وبروز الديمقراطية كنظام سياسي يتلاءم مع المجتمع الصناعي، وظهور طبقة اجتماعية جديدة غير مسبوقة في التاريخ الإنساني هي الطبقة العمالية، وتشكيل المجتمع الحديث الذي يقود الصناعة فيه الرأسماليون والصناعيون، والذين دخلوا عبر الزمن في معركة اجتماعية وسياسية كبرى مع طبقة العمال، دارت رحاها حول الاستغلال وفائض القيمة وظروف العمل والتأمينات الاجتماعية. وكل هذه الموضوعات كانت مثار مناظرات إيديولوجية كبرى بين الماركسية التي ركزت على مقولة الصراع الطبقي كمفتاح لفهم طبيعة النظام الرأسمالي، والرأسمالية التي حاولت تحييد مخاطر الصراع الطبقي من خلال مشروع إصلاحي سعى إلى تحسين ظروف العمل والارتقاء بأحوال العمال من خلال سن مجموعة مترابطة من التشريعات التي تحدد أجور العمال، وتعمل على زيادتها كل فترة، والتأمينات الاجتماعية والصحية. وكان بسمارك في ألمانيا هو الرائد الحقيقي للتأمينات الاجتماعية للعمال، والتي أراد منها تحييد الآثار السلبية للصراع الطبقي. وقد لهثت الدول الأوروبية وراء هذا النموذج الألماني، وبعضها لم يستطع تقليد هذه التشريعات إلا بعد أربعين سنة من سنها في ألمانيا. وأصبح نموذج المجتمع الصناعي هو النموذج الحضاري الأمثل الذي حاولت عديد من البلاد النامية التي تحررت من ربقة الاستعمار أن تحتذيه. وأصبح الخطاب التصنيع بكل أبعاده هو الخطاب السائد، بل لقد كان في الخمسينيات والستينيات هو أساس وجوهر عملية التنمية المخططة في كل أرجاء العالم الثالث. المجتمع ما بعد الصناعي غير أن المجتمع الصناعي وصل- لأسباب شتى- إلى منتهاه منذ أكثر من أربعة عقود. بمعنى أن مرحلة الصناعة استنفذت أغراضها ووصلت إلى حدودها القصوى، وأدت الاختراعات الحديثة والتكنولوجيات المستحدثة إلى التبشير بقدوم نموذج جديد من المجتمع الإنساني، حار في تسميته علماء الاجتماع. ولذلك مما له دلالة أن أحد المراجع الكلاسيكية وهو الكتاب الذي ألفه "دانيل بل" أستاذ علم الاجتماع في جامعة كولومبيا بالولاياتالمتحدةالأمريكية كان عنوانه "المجتمع ما بعد الصناعي" وقد حاول "دانيل بل" ببصيرة ثاقبة وبنظرة مستقبلية خلاقة أن يرسم معالم المجتمع الجديد القادم، غير أنه لم يستطع أن يعطي له اسما محددا؛ لأن الملامح كانت غائمة حين كتب كتابه، ووجه المجتمع المستقبلي لم يكن واضحا الوضوح الكافي. الآن نعرف أن منذ عقدين تقريبا نعيش في ظله، والذي هو في الواقع ربيب الثورة المعلوماتية. والثورة المعلوماتية التي أصبحت شبكة الإنترنت رمزها البارز مازالت في بداياتها، وإن كانت قد كشفت بالفعل عن عديد من تجلياتها في مجالات السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والاجتماع والثقافة. ومع أننا مازلنا في بدايات التعامل مع هذه الثورة التي ستغير من وجوه الحياة الإنسانية بشكل جذري، إلا أن مؤسسات البحث الأمريكية لم تتوان عن دراسة الآفاق المستقبلية لهذه الثورة المعلوماتية وخصوصا في العشرين عاما القادمة. وهذه المؤسسات تقدم لنا في الواقع درسا بليغا في الدور الذي يمكن أن يلعبه البحث العلمي في استشراف المستقبل، بناء على المعطيات الكمية والكيفية المتعددة الموجودة تحت بصر الباحثين في الفروع المختلفة، ليس ذلك فقط ولكن بفضل توافر الخيال السوسيولوجي الذي يسمح للباحث بالاستناد إلى ملكاته الخلاقة أن يرسم صورة المستقبل. المسار المستقبلي للثورة المعلوماتية وفي هذا المجال لفت نظري أن مؤسسة "راند" الأمريكية التي تمثل العقل الاستراتيجي الأمريكي قد نظمت في واشنطن في نوفمبر عام 1999 مؤتمراً حاشداً ضم بين جنباته أبرز المفكرين الأمريكيين في مجالات السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والاجتماع والثقافة، لصياغة المسارات المستقبلية الممكنة للثورة المعلوماتية. وقد ركزت الندوة على ثلاثة أبعاد رئيسية قبل أن ترسم صورة المستقبل. البعد الأول هو المتعلق بالجوانب السياسية الحكومية للثورة المعلوماتية. وقد دار البحث في هذا الموضوع حول التغيرات الممكنة في دور الدولة القومية كنتيجة من نتائج الثورة المعلوماتية. وهذه التغيرات رأت الندوة أنها ستحدث نتيجة لسببين رئيسيين: السبب الأول أن الآليات التقليدية للحكم (مثلا فرض الضرائب، والتنظيمات الإدارية، ومنح التراخيص) أصبحت تمثل مشكلة بشكل متزايد، لأن الثورة المعلوماتية أصبحت تتيح للناس الفعل والتصرف بطريقة لا يمكن أن تتحكم فيها الحكومات الوطنية. والسبب الثاني أن توزيع القوة السياسية يتغير، لأن هناك أطرافا غير الدول القومية عظمت من إمكانياتها الثورة المعلوماتية، في مجالات الأعمال والمجالات الاجتماعية والسياسية، وذلك في الآفاق تحت القومية (مثل الجماعات الأهلية) والآفاق العابرة للقومية والآفاق الفوق قومية. ولابد للحكومات أن تجد وسائل للتعامل مع هذه التغيرات وفي مواجهة هؤلاء الفاعلين الجدد. أما البعد الثاني فهو بُعد الأعمال والبعد المالي للثورة المعلوماتية. وقد ركزت الندوة على جانبين، الأول منهما التجارة الإلكترونية، والثاني يتعلق بالنماذج الجديدة للتنظيمات الداخلية لمشروعات الأعمال وتفاعلاتها الخارجية مع العملاء والموردين والمنافسين. والبعد الثالث للثورة المعلوماتية هو البعد الاجتماعي الثقافي. وقد ركزت الندوة في هذا المجال على الدول النامية وليس على الدول المتقدمة وأبرزت وجهات نظر متعارضة. وجهة النظر الأولى تذهب إلى أن الثورة المعلوماتية ستؤدي إلى اضطرابات واسعة المدى وضروب من عدم الاستقرار السياسي في الدول النامية، وذلك على أساس أن إدخال التكنولوجيا الحديثة في هذه المجتمعات من شأنه أن يفرز فروقا اجتماعية واسعة بين الطبقات. والسبب في ذلك أنه ستنشأ فئات اجتماعية متعلمة تعليما متميزاً وقادرة على التعامل مع التكنولوجيا الحديثة في مواجهة فئات اجتماعية غير متعلمة وعاجزة بالتالي عن التعامل مع التقدم التكنولوجي والتمتع بثماره مثل الفئة الأولى. وعلى هذا- يذهب هذا الرأي- إلى أن الثورة المعلوماتية يمكن أن تؤثر على الاستقرار السياسي للحكومات في البلاد النامية، بالإضافة إلى أنها قد تؤدي إلى مساعدة الحركات العابرة للقومية، وتخلق بالتالي مصادر جديدة للسلطة، وتوسع من الفجوات الاجتماعية والسياسية. وإذا استمرت التطورات التي نشهدها الآن، فقد تساعد الثورة المعلوماتية على نشوء حركات سياسية معارضة تستخدم الثورة المعلوماتية على نشوء حركات سياسية معارضة تستخدم الثورة المعلوماتية وتمارس احتجاجية تولد مشاعر عداء ضد النخب السياسية من ناحية، وتخلق من ناحية أخرى حالة من حالات الاغتراب بين الجماهير. غير أن وجهة النظر الثانية ترى أن النظرة الأولى متشائمة، لأن الواقع ليس بهذا السوء الذي تصوره. وذلك أن الصورة التي رسمتها هذه النظرة قد تقصر على بعض مناطق الشرق الأوسط وشمال أمريكا، غير أنه لا يمكن تعميمها على كل العالم النامي ومع ذلك فأنصار كل وجهة نظر اتفقوا على أن التنبؤ بالأبعاد الاجتماعية والثقافية للثورة المعلوماتية مسألة بالغة الصعوبة. وقد يتاح لنا في فرصة قادمة أن نفصل في مكونات كل بُعد من هذه الأبعاد الهامة قبل أن نركز على صورة المستقبل التي رسمها المفكرون المشاركون في هذه الندوة الهامة. إن هذه الندوة وأمثالها تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن التجدد المعرفي والفكر المستقبلي والخيال المبدع هي مفاتيح التقدم في الألفية الثالثة. النتائج الاجتماعية والتنظيمية للثورة المعلوماتية ! يلفت النظر في الندوة الهامة التي نظمتها مؤسسة راند عن «مستقبل الثورة المعلوماتية» في عام 1999 والتي أشرنا إليها في المقال الماضي، طريقة تنظيمها. ذلك أنها قامت على أساس دعوة أحد الخبراء الثقات لكي يتحدث ويعالج أحد الجوانب البارزة للثورة المعلوماتية ثم يفتح الباب بعد ذلك للنقاش. ولكل جلسة مقرر يقوم- في الأعمال المنشورة للندوة- بمهمة تلخيص ما قاله الخبير، وإيجاز المناقشات الرئيسية التي تبعت المحاضرة. والمتحدث الرئيسي في موضوع النتائج الاجتماعية والتنظيمية للثورة المعلوماتية كان هو فرانسيس فوكوياما، الذي أثار ضجة عالمية وجدلا نظريا محتدما حول كتابه الشهير «نهاية التاريخ»، والذي تنبأ فيه- بعد سقوط الشيوعية الرسمية وانهيار الاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الاشتراكية- أن الليبرالية ستكون هي المذهب السياسي السائد لكل الأنظمة السياسية في العقود القادمة، كما أن الرأسمالية بعد انتصارها النهائي في المباراة الإيديولوجية الكبرى التي دارت طوال القرن العشرين بينها وبين الماركسية، ستصبح هي بدون أدنى شك المذهب الاقتصادي العالمي. ومما هو جدير بلفت النظر أن فوكوياما لم يقنع بكتابه الشهير الذي يدخل في صميم علم فلسفة التاريخ، ولكنه في كتابه الثاني وعنوانه «الثقة»، يدخل في صميم علم الاجتماع الاقتصادي. ذلك أنه أقام فيه مقارنات تستحق التأمل بين الاقتصاديات التي تقوم على الثقة، وتلك التي تنخفض فيها معدلات الثقة، معتبراً أن التركيز على الثقة في التفاعلات الاقتصادية سيكون أحد مفاتيح التقدم في القرن الحادي والعشرين. وقد ظهرت لهذا الكتاب الهام الذي لم يلتفت الكثيرون لصدوره ترجمة عربية ممتازة. *** والآن ما هي الأفكار الأساسية التي ركز عليها فوكوياما في تحليله للنتائج الاجتماعية والتنظيمية للثورة المعلوماتية؟ في بداية حديثه ركز فوكوياما على الحقيقة التي مؤداها أن ما يطلق عليه الثورة المعلوماتية هو ظاهرة بدأت في المجتمعات الصناعية منذ ثلاثة عقود على الأقل. وذكر أنه لوحظ هبوط معدلات السكان المشتغلين بالصناعة، في نفس الوقت الذي ارتفع فيه «المكون المعلوماتي» في الناتج الاقتصادي الإجمالي. وكنتيجة لارتفاع معدلات هذا المكون المعلوماتي فإن عوائد التعليم تزايدت، خالقة بذلك فجوات في الدخل والمكانة الاجتماعية بين العمال المتعلمين وغيرهم من غير المتعلمين. وفي ضوء بروز فوائد التعليم، فإن المستوى العام للتعليم في أغلب البلاد الصناعية ارتفع إلى مستويات غير مسبوقة. وهذا الارتفاع في مستوى التعليم قد يخلق في حد ذاته تفاعلات اجتماعية وسياسية. وفي نفس الوقت مادام العمل أصبح ذهنيا أكثر منه يدويا، فإن فرصا جديدة ستنشأ أمام النساء. غير أنه مما له أهمية كبرى الإشارة التي أوردها فوكوياما من أن عصر المعلومات قد سمح بحدوث تغيرات كبرى في مجال الأبنية التنظيمية. فلم تعد هناك حاجة اليوم إلى وجود أنساق تنظيمية تقوم على المركزية والتدرجية، في الشركات والهيئات الحكومية وفي المؤسسات الأخرى. ذلك أنه حين كانت الاتصالات بطيئة ومكلفة فإن الأنساق العمودية كانت تقوم بدورها بكفاءة، لأنها قللت من التدفق الضروري للمعلومات. أما الآن فإن الاتصالات أصبحت سهلة وغير مكلفة، مما أدى إلى ظهور أنساق جديدة تتسم بسيادة نمط الاتصالات الأفقية. بالإضافة إلى أن الأنساق التدرجية القديمة كانت لها طريقتها في إبطاء وتشويه التدفقات المعلوماتية. وقد أدى التبادل المباشر للمعلومات من خلال أنساق منبسطة وشبكية بفضل تكنولوجيا المعلومات اليوم، إلى زيادة معدلات الكفاءة في المنظمات التي تنجح في إقامة هذه الأنساق الجديدة. والواقع أن فوكوياما في هذه النقطة بالذات يشير إلى أهم ملمح من ملامح ما يطلق عليه «مجتمع المعلومات العالمي» الذي تجاوز نموذج المجتمع الصناعي. وهو ما يمكن أن نطلق عليه «المجتمع الشبكي» Network society ومما هو جدير بالذكر أن مجتمع المعلومات العالمي حظي- باعتباره نموذجا جديدا لتنظيم المجتمع الإنساني- بدراسة متعمقة وشاملة وغير مسبوقة لعالم الاجتماع الأمريكي الإسباني الأصل «كاستلز» الذي ألف مرجعا نادرا بعنوان «عصر المعلومات» في ثلاثة أجزاء. الجزء الأول عنوانه «المجتمع الشبكي» وفيه يتعمق في دراسة هذا التحول الجذري من التنظيم العمودي إلى التنظيم الأفقي، مركزا على «الشبكات» التي تقوم بالعمل بطريقة مستحدثة تماما ومغايرة للمجتمع الصناعي، وفي الجزء الثاني يتحدث عن «البحث عن الهوية» أما الجزء الثالث والأخير فعنوانه «نهاية الألفية». وهذا الكتاب بشهادة المفكرين الثقات هو أول وأشمل نظرية عامة تفسر قيام مجتمع المعلومات العالمي، وتتنبأ في نفس الوقت بمستقبله. وأتمنى أن يجد هذا المرجع الهام طريقه إلى الترجمة العربية، لأن من شأن ذلك رفع وعي المثقفين العرب فيما يتعلق بطبيعة ومسار الثورة المعلوماتية. ثم ينتقل فوكوياما إلى نقطة أخرى تمثل في ذاتها تساؤلا هاما: هل أدت الثورة المعلوماتية إلى إضعاف الاتصالات الاجتماعية في الولاياتالمتحدة وفي غيرها من الدول الصناعية؟ وهو ينفي ذلك مقررا أن ما تغير ليس هو عدد أو قوة الاتصالات الاجتماعية ولكن اتساع نطاقها. ذلك لأن الثورة المعلوماتية قد سمحت للأفراد بإقامة صلات اجتماعية مع من يماثلونهم في التفكير، والذين ليسوا أعضاء في مجتمعاتهم المحلية. ذلك لأن هذه الثورة جعلتهم في الواقع يتجاوزون حدود الجغرافيا. فأي منا أصبحت لديه الآن هوايات متعددة نتيجة مختلف أنماط «المجتمعات» التي يتفاعل معها. وعلى سبيل المثال يستطيع الفرد أن ينضم من خلال شبكة الإنترنت إلى جمعية مهتمة بحقوق الإنسان، ويندرج في إطار قيم هذه الحركة التي أصبحت من ملامح القرن الحادي والعشرين. ويشهد على ذلك بروز جمعيات تطوعية عالمية تراقب وتقيم مدى احترام الدول المختلفة للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان. وبعض هذه الجمعيات مثل «منظمة العفو الدولية» أصبح لها نفوذ معنوي كبير، ولتقاريرها السنوية صدى بالغ الأهمية، لأنها يمكن أن تحرج الحكومات التي لا تراعي حقوق الإنسان، وتضعها تحت مجهر الرأي العام العالمي، الذي أصبح قوة مؤثرة في بداية الألفية الثالثة بفضل الثورة المعلوماتية. وفي نفس الوقت الذي قد يندرج فيه الفرد في إطار حركة الدفاع عن حقوق الإنسان، قد ينضم أيضا إلى الجماعات والمؤسسات المضادة للعولمة، تلك التي يطلق عليها الآن «ضد ديفوس» وديفوس هو المنتدى السنوي الشهير لأقطاب العولمة في العالم من رجال الأعمال والمثقفين والسياسيين والإعلاميين. وهكذا بفضل الثورة المعلوماتية فإن الفرد- كما يقرر فوكوياما- يمكن أن تتعدد هوياته، وفي ذلك- في تقديرنا- إثراء للشخصية الإنسانية، وخروج بالفرد من الإطار الجغرافي الضيق لبلده، إلى الآفاق الإنسانية الرحبة. في ضوء كل هذه التطورات يطرح سؤال هام: هل سهولة الاتصال المتاحة أمام الأفراد تسمح لكل منهم أن يحصل على المعلومات التي تتفق مع احتياجاته أم أن من شأنها أن تخلق مجتمعا يتسم بالتفتت، ولا ينضوي تحت نسق مشترك من القيم الاجتماعية؟ ليس هناك إجابة قاطعة، وقد يكون كلا الاحتمالين قائما، وذلك ما سيكشف عنه المستقبل. *** وإذا انتقلنا الآن إلى المجال السياسي فيمكن القول أن الثورة المعلوماتية يبدو أنها ستساعد على نشر موجات الديمقراطية. وقد تؤدي إلى زيادة معدلات التدريج الاجتماعي، بمعنى ظهور فئات اجتماعية متميزة، وخصوصا هؤلاء الذين يتقنون التعامل مع أدوات الاتصال الحديثة، على حساب الفئات الأخرى التي ليست لها القدرة. ومن الظواهر اللافتة للنظر أن سهولة الاتصالات قد أدت إلى زيادة فاعلية المنظمات غير الحكومية. غير أن هناك مشكلة جديدة ظهرت بهذا الصدد، وهي كيف يمكن محاسبة هذه المنظمات على أفعالها؟ ومن ناحية أخرى كان من بين نتائج الثورة المعلوماتية إضعاف الأحزاب السياسية التقليدية. وربما يعبر عن ذلك التطور ما يمكن تسميته ممارسة «السياسة من خلال وسائل الإعلام»، والتي أصبحت لها فاعلية كبرى في مجال تشكيل اتجاهات الرأي العام. ونأتي بعد ذلك إلى نتيجة من أهم نتائج الثورة المعلوماتية وهو تأثيرها الكبير على اتساع نطاق ظاهرة العولمة والتي هي أبرز ظواهر عصرنا. وبالرغم من أن فوكوياما يقرر في هذا الصدد أنه ليس هناك دليل على أن معدلات تدفق التجارة والاستثمار قد زادت في عصر العولمة بشكل ملحوظ عن الحقب الماضية، إلا أنه من المؤكد أن تدفق الأفكار والناس والاتجاهات الثقافية، قد زادت معدلاته للغاية، بالرغم من صعوبة قياس هذه التدفقات. وبهذا الصدد تشكك فوكوياما في صحة مقولات نظرية صراع الحضارات التي صاغها صامويل هنتنغتون وأثارت جدلاً عالميُا واسعًا، لأن ما سيفرق الناس – حسب وجهة نظره – ليس الصراع بين الحضارات، ولكن الفروق التي ستظهر بين الأمم والمجتمعات والجماعات التي ستقبل بالعولمة وستتكيف معها، وتلك التي سترفضها. وفي النهاية يؤكد فوكوياما على نقطة بالغة الأهمية، وهي أن ارتفاع معدلات المنافسة العالمية يتطلب من الحكومات الاتجاه إلى رفع معدلات رأس المال الإنساني، بمعنى زيادة معدلات الاهتمام بالتعليم والتدريب من خلال تبني سياسات تعليمية جديدة تتفق وآفاق التطور المنظور في القرن الحادي والعشرين. وفي هذا الصدد أقام مقارنة بين التطور الذي حدث في شرق آسيا حيث انطلقت في مجال التنمية الدول التي أحدثت ثورة في نظمها التعليمية، والدول في أمريكا اللاتينية التي تقاعست في هذا المجال، مما أدى إلى تعثر برامجها في مجال التنمية. وتبقى إشارة فوكوياما الهامة إلى ظاهرة انخفاض المواليد في البلاد الصناعية المتقدمة، وحاجتها المتزايدة إلى استيراد العمالة الأجنبية، وأهمية صياغة السياسات الثقافية الملائمة التي تسمح باستيعابها داخل هذه المجتمعات. ولعل هذه الظاهرة تمثل إحدى المعضلات أمام الدول المتقدمة: هل تغلق الباب أمام تحركات السكان والهجرة القادمة من دول الجنوب خوفًا من التأثيرات السلبية على مجتمعاتها، أم تفتحه تحت ضرورة الاحتياجات الاقتصادية؟ لم تصل هذه البلاد المتقدمة إلى حل نهائي للمعضلة، وهذا يعني أنها أيضًا مثلنا – في البلاد النامية- لديها معضلاتها التي تبدو أنها غير قابلة للحل؟ هل تعد هذه الحقيقة مصداقًا للتحولات في عالم ما بعد الحداثة حيث هناك – على عكس عصر الحداثة- مشكلات لا حل لها، وينبغي أن نجد طريقة للتعايش معها؟ سؤال مطروح! معاداة للسامية أم انتصار للحق؟! لا بأس من أن نقطع سلسلة المقالات التي كنا بدأناها ونحن بصدد الحديث عن مصادر التغير الشامل global change الذي شهده العالم ونحن على مشارف الألفية الثالثة! انشغلنا بتحليل مستقبل الثورة المعلوماتية، غير أن هذه الدراسة قطعتها أحداث عالمية هامة كان لها صدى بعيد في مجال حوار الحضارات، وكذلك خبرات شخصية لها دلالة. ولعل من بين هذه الأحداث الهامة تصريحات مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الذي قرر طوعا واختيارا- ويا للغرابة بالنسبة لنا في العالم الثالث- أن يعتزل الحكم وهو في أوج مجده، بعدما استطاع أن يخرج بماليزيا هذا البلد الصغير من إسار التخلف إلى آفاق التقدم. وكان ذلك نتيجة تبني رؤية إستراتيجية متكاملة ركزت في المقام الأول على التعليم وتدريب القوى البشرية وتوطين التكنولوجيا وتنمية البحث العلمي، بالإضافة إلى إرادة سياسية حديدية قررت قهر التخلف. وقد حاول بعض الباحثين الغربيين إسناد التقدم المذهل لعديد من البلاد الآسيوية في مضمار التنمية إلى ما أطلقوا عليه القيم الآسيوية، وهي القيم التي تقوم على عبادة العمل في ذاته باعتباره محور الحياة، بالإضافة إلى النظام الدقيق، وعمل الفريق الذي يلتزم بأداء المهام المنوطة به، بعيدا عن تحقيق المصالح الفردية الأنانية الضيقة. كان العالم مشغولا بمسألة الاعتزال الطوعي لمهاتير للحياة السياسية وهي سابقة لم تحدث في بلادنا العربية السعيدة ولا مرة واحدة، باستثناء استقالة سوار الذهب في السودان، والتي اعتبرت استثناء يؤكد قاعدة الخلود الأبدي في الحكم إلى أن يحدث القضاء والقدر! في غمار هذا الاهتمام العالمي أطلق مهاتير محمد تصريحات سياسية مثيرة مفادها أن اليهود يحكمون العالم وأنهم استطاعوا أن يجندوا غيرهم لكي يموتوا في سبيل تحقيق مصالحهم الإستراتيجية ! وقامت الدنيا ولم تقعد منذ ساعتها، وظهرت على الفور تهم «معاداة السامية» التي تدخرها الحركة الصهيونية العالمية لكل من ينتقد إسرائيل هذه الدولة العنصرية، ولأي صوت يعلق على الابتزاز اليهودي العالمي للبلاد الغربية. وتكفي نظرة واحدة لكيف استطاع يهود أمريكا أن «يستعمروا» الكونجرس الأمريكي ليصبح أهم قلعة سياسة في العالم للدفاع عن سياسة إسرائيل، مهما بالغت في همجيتها وعدوانها على الشعب الفلسطيني، والذي يخضع الآن للإبادة المنهجية المنظمة. ونظرة أخرى على مسلك الإدارة الأمريكية وخصوصا في عهد الرئيس بوش الابن إلى إصرار الحكومة الأمريكية على استخدام الفيتو في مجلس الأمن في كل مرة تلوح فيها بادرة صدور قرار من المجلس بإدانة إسرائيل، وخصوصا بعدما بنت الجدار الفاصل بينها وبين الضفة الغربية لتدمير الاقتصاد الفلسطيني، والقضاء على الوحدة الترابية الفلسطينية. واستثمرت إسرائيل في ذلك- كما تقول آخر الأنباء- مليارين من الدولارات لتحقيق هذا التصور الجنوني وهو حصار الشعب الفلسطيني من ناحية وبناء «جيتو» يهودي من ناحية أخرى! وليست الولاياتالمتحدةالأمريكية فقط هي التي خضعت للابتزاز اليهودي، فقد سبقتها في ذلك ألمانيا، التي فرضت عليها إسرائيل بدعم قوي من الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تدفع في الستينيات 80 مليون دولار سنويا ولمدة 12 سنة تعويضات لإسرائيل عما أحدثه النظام النازي باليهود في المحرقة الشهيرة (الهولوكست) التي أصبحت قدس أقداس اليهود، يجنون من ورائها الأموال الطائلة، وتستخدم كأساس للردع والابتزاز العالمي. ويكفي للتدليل على ذلك الإشارة إلى الخضوع الفرنسي المهين الابتزاز اليهودي الصهيوني حين اضطرت الدولة الفرنسية إلى إصدار تشريع جنائي يعاقب بالسجن من يكذب وقوع الهولوكست أو من يشكك في الأرقام اليهودية الصهيونية، والتي تقول إن ستة ملايين يهودي أحرقهم هتلر في أفران الغاز الألمانية! وأصبحت تهمة معاداة السامية مرادفة لتهمة معاداة الصهيونية! بحيث أصبح كل من ينتقد الصهيونية وخصوصا في ممارساتها العنصرية معاديا للسامية! وهذه تهمة في المجتمعات الغربية كفيلة بتحقيق «الموت المدني» لمن يتهم بها، حتى أن بعض أساتذة الجامعات الأمريكيين ممن تجاسروا على إدانة إسرائيل في مسلكها مع الشعب الفلسطيني عزلوا من وظائفهم الجامعية. وفي رده على منتقديه – بما فيهم الرئيس بوش الذي هرع كالعادة لإدانة تصريحات مهاتير وزعم أنه وبخه عليها حين قابله وإن كذب مهاتير ذلك – قال لماذا يباح مهاجمة المسلمين على غير حق، بل مهاجمة الإسلام ذاته باعتباره دينا يحض على العدوان كما يزعمون، ولا يقبل انتقاد اليهود بالرغم من سيطرتهم على مراكز المال والإعلام بل والسياسة في العالم؟