الثقافة الشعبية هي مجموع الفكر الشائع داخل الأوساط الشعبية، ويشمل طرق الإدراك الخاصة بالمجتمع الذي نتجت في إطاره باعتباره جزءا من الإنتاج الذهني الشعبي في فترة معينة. وتنتج عن هذه الثقافة الشعبية الطقوس والأعراف وفنون القول وأشكال العمران وغيرها فالثقافة الشعبية ليست جامدة وإنما هي قوة خلاقة للعمل والإنتاج الجماعي. وترتبط مكونات الثقافة الشعبية ارتباطا شديدا بعضها ببعض، لأن الثقافة الشعبية كل لا يقبل التجزيء، فهي كلها قوة فعل لا ينفصل فيها الفرد عن الجماعة، وهي تتجسد عبر التقاليد والعادات والطقوس، وعبر لغة الخطاب اليومي وهو ينقل الأساطير والملاحم والأخبار والأسرار الدفينة والقصص التي تكون التاريخ الثقافي للشعب. إن اللغة الشعبية تجسيد للحالات المتعددة للشعب: حالة الشعب وهو في فرح عارم أثناء الاحتفال بوفرة الطعام (ولائم - مأدبات - زرود) أو أثناء الاحتفال ب(الزواج) أو الاحتفال بولادة أو موسم فلاحي أو بعيد شعبي. هذه الاحتفالات يصاحبها خطاب فكاهة وهزل شعبي صاخب يتمتع بحرية خاصة وهو يغطي احتفال الشعب بالحياة المادية، وهنا تظهر لنا خاصية الثقافة الشعبية المرتبطة ب«المبدأ المادي الجسدي». ففي هذا الاحتفال العارم بالجسد الإنساني وهو يحقق المتعة والامتلاء، وفي هذا الإطار، لا يتخذ الموت طابعا مأساويا بل طابعا مكملا للحياة، إنه جزء من الحياة، لذلك يستقبل بالهزل مثله مثل الولادة لأنه الوجه الآخر للحياة والوجود. إن الثقافة الشعبية تنسب «المأساة» بالاحتفال، وعندما تصبغ عليها صورا هزلية حسية مستمدة من حياة الشعب نجد عبد الرحمن المجذوب يصور علاقة الإنسان بالموت، فيجعل الموت على شكل حصاد قائلا: «الأرض فدان ربي والخلق مجموع فيها عزرائيل حصاد فريد مطامرو في كل جيهة» فإذا كان الحصاد يحصد سنابل القمح عندما تنضج ويخزنها في المطامر أي يعيدها إلى التراب، فكذلك الموت يحصد الأرواح عندما تشيخ ويعيدها إلى التراب. ففي الثقافة الشعبية «الموت، إذن، ليس في تعارض مع الحياة بل هو ضروري لها، هو عبارة عن مرحلة تجديدية، والموت يوضع دائما في ارتباطه بالولادة: القبر في ارتباط بثدي الأرض الذي يعطي النهار، فهذه المراحل (حياة – موت –حياة) هي المراحل المحددة للحياة نفسها». كما تجسد اللغة الشعبية حياة الشعب وهو يعاني من شظف العيش والحرمان وتنقل مختلف أنواع المعاناة سواء كانت طبيعية (كوارث طبيعية) أو اجتماعية أو سياسية. وهكذا، تظل الثقافة الشعبية – بمختلف أنواعها – تجسد حياة الشعب الحقيقية وهو يرتبط بواقعه، كما تجسد طبيعته الإنسانية كجزء من الطبيعة والحياة وتجسد هذه الطبيعة عبر الاحتفال بالتمتع بالطعام الذي هو انتصار له على الألم والخوف. ويتجلى احتفال الثقافة الشعبية بالمتعة من خلال شكلين أساسيين: الاحتفال بالطعام والاحتفال بالفرجة بشكل عام. الوليمة في الثقافة الشعبية الاحتفال بالطعام هو احتفال بالوفرة وتعدد أصناف الطعام، الشيء الذي يتحقق في ظروف خاصة أي في الولائم والأعراس والأعياد، لذلك يكثر وصف الولائم في الثقافة الشعبية «سماط العجائب»، والسماط يعني هنا المائدة الكبيرة، إذا انطلقنا من سيرة سيف بن ذي يزن كنموذج للثقافة الشعبية لهذه الاحتفالية، حيث ما نجده فيها يمكن أن نجده في كل نصوص ثقافتنا الشعبية تقريبا من قصائد للملحون تتغنى بالزردة وحكايات شعبية وغيرها. إن الوليمة يأكل فيها الخاص والعام ويجد فيها كل شخص مبتغاه لوفرة الطعام وتعدد أصنافه ولكثرة اللحوم، لكن الوليمة لا تقام إلا بعد تحقق إنجاز ما أو عمل ما يهم الجماعة: «لأن حفل الأكل لا ينفصل عن العمل، إنه تتويج للعمل والصراع، وصور الزردة تأخذ أهميتها القصوى وكونيتها وروابطها الأساسية مع الحياة، الموت، الصراع، البعث، وهذا سبب استمراريتها في الحياة». إن الوليمة في السيرة تتويج لانتصار الجماعة على الطبيعة وفيها يمتد السماط بمختلف أنواع الطعام ويأكل الجميع -بدون تمييز- مدة سبعة أيام: «وامتدت الأسمطة وامتدت الأواني من طعامات وفطورات وخضرويات وحلويات وغير ذلك، وأكلت كل طائفة على جري العادة»، السيرة -ج2، ص 26. «وصار سيف يأكل من أفخر المأكولات.. وأمر بإحضار آنية الشرب فحضرت البواطي ملآنة من العقار الذي صفا وراق وصار أصفى من دموع العشاق، يتبعه من أصناف قطع الحلويات والهريسات وبعض المكسرات من فستق وجوز وما أشبه ذلك» السيرة ج1 ص 310. أجواء الوليمة تضفي نوعا من البهجة والفرح على الجميع، فإذا كانت الوليمة تتويجا للمجهود المحمود الذي يحققه البطل وجماعته فهي تساهم في توفير متعة خاصة للمتلقي الشعبي: «إن الوليمة تتوج حدثا ما أو مجموعة من الأحداث... وكلام المائدة كلام صريح ومرح وحسي». وشكل الطعام يختلف في الوليمة عن شكله في الحياة اليومية للشعب، لأن كل شيء مختلف في الوليمة كما وكيفا، ففيها يقدم أفخر أنواع المأكول، أي الأصناف التي لا تقدم في الطعام اليومي الذي تغلب عليه الندرة والشح.. والمبالغة لصيقة بالثقافة الشعبية كما نعلم.. إن الطعام في الوليمة يتناوله الجميع (الجماعة) في شكل استراحة جماعية من عمل متعب، ويتم التركيز في الوليمة على -اللحم- كعنصر أساسي: ففي ضيافة متخيلة في السيرة، يذبح العمالقة للبطل عشرين بقرة ومن الطيور ألف طير، ويطلبون منه أن يأكل كل هذا وحده. «فقال شمرون: اعلم يا سيف أن السلطان قد أكرمك وذبح لك عشرين بقرة ومن الطيور ألف طير، فكل على مهلك لأن هذا كله من أجلك ولا أحد فيه يشركك» السيرة –ج2 ص 214. يقدم الراوي في السيرة للجمهور ولائم متخيلة يحتفل فيها بالأكل والشرب، ويخترق فيها شح الواقع الذي يتميز بندرة الطعام والجهد الذي تقدمه الجماعة من أجل الحصول على كفايتها منه... فما على جمهور السيرة الشعبية إلا أن يتخيل سماط النبي سليمان وسماط العجائب الذي يضم أفخر أنواع الطعام والشراب، وأفخر الملبوس والمسموع، والأكل يقدم في هذه الولائم بطرق سحرية، وتستمر الضيافة سبعة أيام متوالية: إن السماط « فيه من جميع الطعام الذي يؤكل، وهو على اختلاف الألوان، وأما اللحم ففيه قدر لحم مائة جمل وأزيد، فصار الفراشون يقدمون الأواني والحكيم يفرق لهم من جميع الأطعمة حتى تكامل سماط لا يكون إلا عند النبي سليمان... فتقدموا وكل من كان مشتهيا طعاما يجده قدامه، فأكلوا من تلك الأطعمة وتلذذوا حتى اكتفوا... فباتوا إلى الصباح وكان الفطور حاضرا، فأكلوا كذلك، وهكذا مدة سبعة أيام «السيرة-ج3، ص 251». وفي أحيان كثيرة، يمتزج الاحتفال بوفرة الطعام والجو المرح والعابث الذي يصاحبه الحديث عن أشكال أخرى من متع القول والوصف.. ويظل الاحتفال بالطعام وهو يطعم بشكل جماعي من المبادئ الأساسية للثقافة الشعبية بشكل عام.. البطن الشبعان يغني ارتباط السيرة بالثقافة الشعبية يتجلى أيضا في احتفالها بالفرجة التي يقدمها الراوي للجمهور الشعبي وفي مشاهد الفرجة التي تنقلها السيرة، فكثيرا ما يعلن البطل عن رغبته في الفرجة على مكان عجيب: (بستان – جزيرة – قصر- قبة- بئر)، فيقطع بذلك سيرورة الحكي. إن بطل السيرة لا يستطيع مقاومة الرغبة في الفرجة على كل شيء غريب أو عجيب رغم تحذيره من خطورة المكان. إلا أنه يصر على التعرف على المكان العجيب (المطلسم)، فيوقف سيرورة الحدث ليصير طفلا ينظر بعيون منبهرة إلى هذه العوالم التي تظهر أمامه. وهذا التوقف المعترض للسرد لا يجسد فقط رغبة البطل، وإنما يجسد أيضا رغبة المتلقي الشعبي الممتلئ بالفضول إلى المعرفة وبالرغبة في التخلص من أسر اليومي. من طبيعة المتفرج أنه لا يتجاوز أي شيء، فعطر المكان يثيره، وخبر المكان يسحره، والتحذير من الأخطار يجذبه ولا يقنع إلا بعد أن يتفرج على المكان ويفك ألغازه، وهو بذلك ينقل المشاهد إلى عالم جديد يتجسد فيه الحلم الجمعي ويعاد فيه ترتيب العلاقة، من جديد، مع المحيط. هكذا تكون الفرجة «كالحكاية العجيبة نوعا من الحلم البدائي»، هذا الحلم الذي ينخرط فيه المتلقي الشعبي وهو يهرب من نكوص الواقع الذي يعيش فيه، هذا الواقع المليء بالرتابة وندرة وسائل العيش. الفرجة في الثقافة الشعبية تقدم المتعة للمتلقي الشعبي الذي يشعر بالحاجة الى التخييل الذي يوجد فيها، والتي يعرفها على شكل (مواسم، أعراس، تفواج، فراجة، نزاهة...) الفرجة، إذن، نوع من الاندماج في حلم جمعي يتم فيه اختراق اليومي الرتيب والارتماء في جو الاندهاش والتخييل، لذلك فالبحث عن الفرجة بحث عن الغريب والعجيب من أجل تأمين نفس جديد لحياة مملة ومتعبة.. إن الفرجة ترتبط أيضا بجو العيد على اعتبار أن العيد خروج عن المألوف وعما هو يومي، فيه يحتفل الناس ويرخص لهم بحرية أكبر. ولعل أغنية البنات في عيد عاشوراء وهن يتغنين بحريتهن في هذا اليوم خير ما يوضح ذلك: «هذا عيشور ما علينا لحكام ألالا» «أمول الجلابة القرفية يهديك الله خلي لبنات يلعبو شوية». إن جو العيد الممتلئ بهجة وفرحا يؤدي بالناس إلى الخروج إلى الفرجة التي يتحرر فيها الجمهور من رتابة وضغط العلاقات الاجتماعية، ويستسلم فيها لمتعة رؤية أشياء جديدة، لأن الجديد يأسره والعجيب يتملكه حقيقة. إن الفرق بين بطل السيرة الشعبية والمتلقي الشعبي الذي تقدم له الفرجة هو أن هذا الأخير أكثر عجزا لأنه لا يحظى بنفس القدرة السحرية التي يمتلكها البطل. ويظل راوي السيرة وسيطا بين المتلقي والبطل، يقدم الأول عوالم للفرجة ويساعده على الاندماج مع شخصية بطل أسطوري قادر على تحقيق كل الرغبات. إن كل شيء في السيرة يؤكد انفتاحها على مكونات الثقافة الشعبية وتوظيفها لهذه المكونات.