ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التنمية الثقافية بين الفعل الثقافي وأنسنته
نشر في لكم يوم 15 - 12 - 2010

كل إنسان، انطلاقا من أصوله، وسطه واختياراته يشكل مقاربة ثقافية.
يتعلق الأمر بتحليل الفعل الثقافي وتعبيره، وآفاقه علما أنه عند دراسة طقوس وتعبيرات أية جماعة وأي مجتمع وأي شعب، يظهر جليا أن المجال الثقافي ليس له حدود.
الميتولوجيا، اللغة، الممارسات، الطقوس الشعائرية والاحتفالات، كل هذا يشكل ما يمكن تسميته بالثقافة، وبالتالي ليس هناك تعريف محدد ومضبوط للثقافة. لكن هناك عمليا، ترجمة لعالم متحرك يبدي تعبيرات تترجم ضمنيا الجانب المتعلق بالإدراك الحسي والشعور والخيال والتأمل، هذا التفاعل يؤدي الى الانسجام مع وداخل هذا العالم المتحرك. بل ويتجاوزه بالفعل الثقافي الفني والإبداعي، تعلق الأمر بالتأويل، المزاج، الإخراج، التعديل لمحصول ومنتوج الواقع، أو بارتداد التأمل على الواقع، علما أن هذا الانعكاس يدخل كذلك في الواقع ويساهم في تعديله.
الثقافة هي كل لا يتجزأ، تأخذ شكلا حسب المعطيات الزمانية والمكانية، وتشريعات عرفية، أحيانا عجيبة! تنبثق عن الأذواق، الأحاسيس، الانفتاح، الفضول، الاكتشاف والحب. الثقافة ضرورية للإنسان في البحث عن السعادة والتوازن، دونها ينتعش الجهل والعنف، ويتراجع مستوى الشعوب ويكثر التلاعب بالأخلاق والقيم.
الكل يتفق على أنه ليس للثقافة معنى محددا، هل هي مجموع المعارف التي تؤهل الفكر لتطوير معناه النقدي وذوقه ورأيه وأحكامه؟ هل هي مرادف للحضارة أم أنها كما قال ادوارد هيريو: " الثقافة هي ما تبقى عن نسيان كل شيء "؟ هل ما اعتمدته الفلسفة كتعريف يجيب على جميع الأسئلة والتساؤلات، أي أنها " ما ينقل عن الأجيال السابقة من مجموع الاعتقادات والحقائق التي تعطيها قوة الصواب لأنها تعلم كحقيقية في السن الذي يكون فيه الفرد لا يكتسب وسائل التمييز"، وهذا يشكل دوغمائية مفروضة على العقل. بينما التطور الطبيعي لكل ثقافة يكمن في إعطاء العقل إمكانيات القدرة على التفكير والتقييم والتمييز، " وليس فرض حقائق جامدة. الثقافة تمنح للفكر القدرة على إعادة تقييم هذه الحقائق حسب الزمان والمكان، علما أن مقارنة ثقافة بأخرى تساعد على تطوير المعرفة وتؤكد الحقائق أو ترفضها.
الثقافة ليست محايدة
عبر مراحل التاريخ لم تكن هناك يوما ثقافة محايدة، فهي تعكس منطق القوة في سياق اجتماعي- سياسي. فكل فعل سياسي يعكس مقاربة ثقافية.
في هذا الإطار يدخل العامل الإيديولوجي، وما يصاحبه من تدابير دفعت باختراع تقنيات جد متطورة تسمح بالبث الواسع أو التقليص إلى أدنى الحدود للمعلومة والمعرفة أوتشويهها، وكذلك بتوجيه أو استغلال الخبر والتواصل، وبالتالي التحكم القبلي في إنتاج الثقافات ونشرها عبر كثير من الوسائل. وبما أن التعامل مع الثقافة يخضع إذن لعلاقة مزدوجة ترتبط باستهلاك الثقافة من جهة، وبالخلق والاختراع والمشاركة في إنتاجها من جهة أخرى، فإن التحكم فيها وضبطها وتحصينها لايتم إلا بتنميتها، وجعل كل فرد، وبالتالي كل جيل يقبل ويستهلك ويطور تعبيرات عصره.
الثقافة و عبقرية الشعوب
العلاقة بالثقافة تحددها هواجس فهم المعطيات التاريخية مكانا وزمانا للعبقرية الخصوصية لكل شعب، تعبيرات التاريخية وتراثه، تعبيرات حياته اليومية، تعبيرات قيم مرحلة معينة مرورا عبر الأجيال. فمنذ الإنسان البدائي عرفت الإنسانية عدة تحولات عبر مراحل التاريخ، إلى أن جاء الفن اليوناني مستغلا كل الذكاء: الفكر المنطقي ووضوح أفكار المبدعين، هذا الفن عرّف أكثر بشخصية الإنسان، وعكس الحياة كما كانت تعاش قبل 25 قرنا من طرف شعب خلاق ونشيط. لقد استطاعت الإنسانية الاحتفاظ بهذا الموروث الثمين الذي شكّل أسس عصر النهضة – Renaissance –، أي إعادة الحياة بإعادة اكتشاف أفلاطون.
عبقرية الشعوب رفعت من وثيرة التحولات بفعل التقدم التقني الذي أصبح يساهم بنسبة كبيرة في التعديلات التي تطور الثقافة، باختراع وسائل متطورة للتعامل مع الحاجة، وكذلك التعبير السينمائي الذي يسمح بإخراج مغاير للواقع ويطوره. وبهذا الخصوص فالتكنولوجيا سمحت للإنسان بأن يرى نفسه يعيش، ويعرف ما يميزه. وهذا يؤهل للنقد والتصحيح.
الثقافة والإنتاج
إذا كانت العلاقة بالإنتاج تطبع ثقافة شعب في العمل، فهذا الشعب بتراثه وأصوله، ثرواته وعبقريته، يحدد أشكال ثقافته، لأن الثقافة ليست بالفعل النخبوي بل هي التي تنتج النخبة، أي النخبة المبررة، وليس بمفهوم النخبة أولا، بمنطق أن الخلق يعني السبق كما هو مكرس في مجال الاختراع للحفاظ على المكتسب الفردي أي حقوق الإنتاج. وهذا محفز واحتكاري في آن واحد لأنه يعطي الحق للسبق ويحرم الآخر من فخر اختراع مكرر، وضمنيا يخلق نخبة محتكرة للامتياز. وبما أن الثقافة لا يعتمدها المجتمع إلا بتعبير معترف به ومتراض عنه بشكل واسع، وأن حقل ومحيط تأثير السبق لا يقبل التكرار، فإن التطور يفرض نفسه إيجابيا أوسلبيا، وأصبح التطور السلبي ينمو بشكل سريع، الشيء الذي يجعل الفعل الثقافي الإيجابي لا يتجاوز مصدره. بطبيعة الحال فالديمقراطية كما قال فرانسوا ميتراند : " هي كذلك حق مؤسساتي في الغباء".
الثقافة والرقابة:
إدراك ما يحيط بالثقافة من مخاطر وظواهر ثقافية سلبية، يبرر منطق الحاجة إلى الرقابة، لكن ليست تلك الرقابة التي تمارس بالمنع وبشكل يكبت الحريات باسم الضمير، بل يتعلق الأمر بخلق آلية تطبق بشكل رفيع للتقليص من بعض الحريات، وذلك بعدم تشجيع بعض المظاهر المضرة بالنشاط الثقافي، أي التقليص إلى حد ما من حرية التعبير بالنسبة للفنانين، والمبدعين في جميع المجالات، بالطبع ليس كل الفنانين على قدر سواء في خدمتهم للمجتمع. وحين نقول فنانين فإننا نستحضر العباقرة الذين صنعوا وأطروا شعوبا راقية ورفيعة.وكذلك يجب التفكير في مستقبل الذين صدّقوا أنهم مبدعين كبارا، لكن مستواهم ظل دائما ضعيفا ولم يشكل وجودهم إلا ثقلا على مجتمعاتهم، ناهيك عن دورهم السلبي في تأطيرها. لكن، يجب الانتباه الى أن أينشتاين وبيكاسو ونيتش تعرضوا للرفض واعتبروا بدون قيمة قبل أن يثبتوا العكس.
الثقافة والسمعي البصري
دشن تطور السمعي البصري نموذجا جديدا لمجتمعات تنتج ثقافة جد متطورة دون أن تكون كليا، في حاجة إليها، مجتمعات الفرجة. ما أدى إلى تحويل البحث التقليدي عن معنى الأشياء وعن إمكانيات تحيين مختلف المعاني الكونية، والتجارب الإنسانية، إلى نزوات حينية ومتعة متواضعة تسير نحو اللامعنى. فالمشكل لا يكمن في فهم معاني الأشياء، بل في إنتاج الأشياء التي تستحق البحث عن معناها.
في عصر السمعي البصري، أصبحت الثقافة خاضعة لتأثير هؤلاء الذين لا ينحدرون من منابع اجتماعية مثقفة، وهنا يكمن التحول السلبي، هناك اجتياح لثقافة لقيطة بدون مراجع لا تتغذى من قطاعات المجتمع المعنية بالمعرفة و بتنمية الثقافة. بل بالقنوات الفضائية المختلفة بدل المدرسة، وبالصحافيين بدل نساء ورجال التعليم، وبالنجوم بدل الأمهات والآباء، هذا المشهد جعل الإبداع الغني بالمعلومات والمضامين والمعاني الحقيقية لا يتوفر إلا على أقل الحظوظ في الترويج والرواج على مستوى الإعلام، بينما كل الحظوظ مع الأعمال الرديئة، والمرشحة بأن يكون لها صدى واسعا. إنه صراع بين الذكاء الغبي والغباء الذكي. فالذكاء الغبي يأتي بالخلاصات والدراسات ذات المضامين والمعاني الحقيقية ويعجز عن الوصول إلى العقول والأحاسيس، وبالتالي لم يعد له مكان وسط مجتمعات يسيطر عليها الغباء الذكي المنتج للأعمال الرديئة ويبدع في كيفية ترويجها إعلاميا وواقعيا، حيث يجد له صدى لدى العقول التي أصبحت مؤهلة لالتقاط كل ما هو مثير ويفتقد معنى.
أصبحت القنوات الفضائية تشكل الوسيلة الأكثر قوة لإغناء أو إفقار ثقافة الغد. علما أنه لا يمكن إغناء الفكر بدون حوار ونقاش. فإنتاج البرامج التلفزية لا يسير وفق مبدأ السمعي البصري الإنساني الذي بإمكانه المساهمة بشكل قوي في تنمية الثقافة، الفضائيات سلبت للإنسان كل الوقت الذي يمكن استغلاله في القراءة، علما أن لا شيء يحل محل الكتاب الذي يشكل آلية مهمة للمعرفة والتأمل، اللذان يساهمان في تفتح الفرد وفي تنميته. فالمجتمعات في حاجة إلى التأطير الكتابي والخطابي، وحده يخلق التقارب بين الفكر والفعل، وبالتالي تنمية الثقافة بالمعرفة الناتجة عن التأمل، والمتعلقة بالإدراك والحب والفعل.
معرفة القدرة على الفهم والإدراك:
تبتدئ من البيولوجي وتنتهي بالثقافي، فحسب ج .ب.شنجوهCHANGEUX: "التربية تقوي وتزيد من غنى الاتصال بالنسبة للخلايا العصبية - neurones - وبالتالي يصبح التطور ثقافي أكثر مما هو بيولوجي". فالعلاقة بين الأجيال مثلا، تتغير طبيعتها بمجرد ما يتغير المكان. الإنسان الحالي هو نتاج لتطور مرتبط أكثر بالتربية المكتسبة من الإرث البيولوجي، حيث البسيكو-اجتماعي يسيطر على البيولوجي، أي أن المكتسب يدبر الفطري ويروضه، لذلك فالإنسان المثقف يرفع من إمكانياته في الإدراك والفعل، بل ويتجاوز الانتقاء الطبيعي.
معرفة القدرة على الحب والإرادة :
كل فعل ثقافي ناتج عن إرادة دافعها الحب والرغبة الصادقة فهو إنساني والقدرة على الحب تفرض القبول المتبادل والتسامح حتى النهاية التي يجب أن تجعل من كل فرد مرجع للباقين. إنه لمن الخطر أن يعيش الإنسان بذكاء شرير تجاه نفسه، ويعيق تطور إدراكه الثقافي. علما أن هدف الإنسان، بكل بساطة، هو السعادة، والسعادة ليست طبعا إلا ثمار الحب باعتباره الطاقة التي تشغل الإرادة، لكن القدرة على الحب تبقى رهينة بتجنب خطأين متوازيين:
الخطأ الأول هو ترك الحيوان الوحشي الذي يسكننا يتطور ويكبر مند ما قبل التاريخ، والذي يتحكم في عاطفتنا، شهواتنا وغرائزنا، يبرر الإرادة في القوة، يحفز هروبنا إلى الأمام، ويرجح ذوقنا في الوهم، في الخطأ وفي الخيال الذي يطمس رؤية الحقيقة.
الخطأ الثاني هو التخلي عن القيم الإنسانية والاستسلام إلى عقلانية وهمية تؤدي إلى ممارسة المثالية والدوغمائية بكل أشكالها.
يقول علماء النفس، الأنا والوعي لا يمثلان إلا جانبا صغيرا جدا ودقيقا في النفسائي، يتعلق الأمر حسب ج. ب شنجوه: Changeux بالعقول المكونة للروح: الزاحفي le reptilien، الذي يعيش الحاضر، الحوفي Limbique le الذي يشتغل على الماضي والتجارب السابقة سارة كانت أم مؤلمة، والنيوكورتيكس Néocortex الذي يفتح المجال المخيالي، ويشتغل على المستقبل. وحسب كريستيان بواغون Boiron، في كتاب مصدر السعادة: " كل من هذه العقول ضروري لتوازن الإنسان، وبالتالي لسعادته: الزاحفي: مسؤول على مراقبة وتدبير الفيزيولوجيا العضوية، الحوفي: مسؤول على المحافظة على الجنس البشري والفرد، و النيوكورطيكس Néocortex هو منبع التقدم والتطور، والتناغم بين هذه العقول يعني أن الوعي في صحوة دائمة"
نستخلص أن الانسجام النسبي لهذه العقول يؤهل إلى أنغمة الذات باستمرار، وبالتالي التفتح والانفتاح المؤدي إلى تنظيم سيادة الثقافة على الطبيعة الفردية أو الفطرة وإلغاء كل الطابوهات وكل ما هو وهمي، مع الجمع بين الذكاء والوجدان، هذا وحده كفيل بالسير نحو المعرفة الهادفة التي تدفع إلى التحليل الجدلي للموضوع وللشيء، الأمر الذي يشكل عقلانية صادقة ومخلصة لكياننا تلمس وجودنا العميق وتسمح للعقل بإيجاد الروح، باعتبار أن هذه العقول مسؤولة نسبيا، على توفير وتدبير وصفة سعادة الإنسان، وهي بالتتالي: الاندماج في اللاوعي الجماعي، والشعور باكتساب هوية، والانفتاح على الحياة والعالم.
معرفة القدرة على الفعل
استهلكت قرون من تاريخ الإنسانية ويلاحظ أن كل ثقافة تحتمل تكنولوجية وكل تيكنولوجيا تعد ثقافية. فالنشاط الإنساني يفترض آليات ثقافية أو يدوية تفرض بروز وتطور تكنولوجيا. مثلا التكنولوجيا الصناعية الحديثة هي امتداد، عبر مراحل، لثقافة إنسانية في مكان ما ومن أجل منفعة ما. لذلك فأي شيء نفعي فهو ثقافي. لأن دراسة وتحيين أي هدف يأتي عن طريق الحاجة البشرية. خصوصا وأن هذه الآليات التكنولوجية أصبحت اليوم قاطرة للتنمية الثقافية باعتبارها نشاط يخدم الفيزياء والرياضيات من الناحية التجريبية ويشكل فرصة تكوين مهني أولي بإدماج المعرفة الفيزيائية في التعامل مع الأشياء، وبالتالي اعتبار الفعل التقني بأنه فعل ثقافي.
الفعل الثقافي والطاقة
الإنسان يجمع بين الروحي والمادي، بين الحيوان والشيطان، والربط بين العقل واليد كوسيلة أساسية في التنفيذ، لا يمكنه خلق إلا ما هو إنساني. تطور هذه العلاقة أدى إلى اختراع آليات تمدد حركة اليد، منذ تلك البدائية إلى الحاسوب وكل التكنولوجيات الحديثة، أي من الطاقة العضلية تم استعمال الحيوانات إلى المنابع الطاقية الخارجية الموجودة في الطبيعة، سنلاحظ أن الطاقة هي المحرك الأساسي لتنمية الثقافة. وهي كذلك أساس التواصل، الذي بدونه لا تكون الثقافة حقيقية ولا قابلة للتطوير. لذلك فإن كل إبداع لم يعرض ولم ينشر يعتبر فعل غير ثقافي. وكل فكر ولو كان يحمل كل حلول الإنسانية إن لم يجد اللغة الدقيقة والمحكمة لتحريره وإخراجه من العقل، سيبقى لا شيء ولن يشكل فعلا ثقافيا، ومنبع الطاقة هنا يتجسد في العمل الجماعي الذي وحده يخلق التكامل. فالطاقة تمكن من الخلق الثقافي وترجمته إلى الواقع، فكل الآليات التي يستعملها الإنسان الآن في تعامله مع الحاجة ترتبط بالطاقة، بل ولا تصلح لأي شيء في غياب الطاقة، لكن يجب ألا ننسى أن الإبداع في مجالات الرسم والكتابة واللحن كأفعال ثقافية جد مهمة وأساسية في تنمية الثقافة، لا يتطلب إلا آليات بسيطة لتمديد اليد لكنه لا يخضع للطاقة.
في الختام لا بد من التذكير بأن الإعلام حوّل في العمق شروط الإنتاج والخلق الثقافي والفني، وكذلك شروط استقبال واستهلاك هذا المنتوج، فطريقة الإنتاج تحول وتغير المنتج نفسه، الشيء الذي يؤثر على قيمة المنتوج، كذلك المتاجرة في الميادين الثقافية تؤثر على قيمة الإبداع، فقد أصبح أكثر تعقيدا أن نتسائل جديا عن الثقافة أو البحث عن محددات دلالاتها في المجتمع المدني الحداثي. وعن مستقبلها المحتمل أو المفترض، أو عن نهايتها باعتبارها منتوج العلاقة الأزلية المباشرة بين الإنسان والمادة. لكن يمكن زرع الأمل بالوعي، وحده يسمح بإدراك أن ثقافة الطبيعة تخضع لسيطرة الحيوان الإنساني الذي لا يمكن ترويضه وتربيته إلا بالثقافة التي تتغذى بالمعرفة، وطبعا يجب خلق التوافق بين الثقافة والاكراهات الاجتماعية، لأن وثيرة الحياة لم تعد تعطي للإنسان الوقت والفرصة ليرى ويلاحظ ويقيم ويختار. " في أحد أيام فصل الربيع كان جان جوريس يتجول في الغابة حيث التقى بامرأة تحمل فوق ظهرها حطبا ثقيلا، فسألها عن جمالية الغابة، فأجابته المرأة: ساعدني كي أسحب هذا الحمل من على ظهري ويمكنني حينئد أن أرفع رأسي لأرى جمالية الغابة والطبيعة ".
الثقافة هي مجهود مستمر يجمع بين العمل والترفيه والحب في إطار تناغم مبني على قاعدة اجتماعية، حيث كل فرد يتكلم لغته دون أن يجهل لغة الآخرين، والمصالح المختلفة تنسج على قاعدة مشتركة، فالمجتمعات المقبلة أو المجتمعات الجديدة ستكون في حاجة إلى كل أفرادها، على مستوى تصحيح التفاوتات المادية، وعلى مستوى المشاركة في تنمية الثقافة التي تجد مكانها في الحياة اليومية، في العمل، في الترفيه وفي كل الممارسات، حيث تخلق بدور التنمية التي تقاس بدرجة جودة الروابط الثقافية بين المجتمع وأفراده وبالعلاقات المتبادلة بين هذه الأفراد. فالمجتمعات التي يكون فيها الفرد قادرا على التواصل مع الآخرين، وعلى المشاركة في أنشطتها، هي المؤهلة للتواصل مع المجتمعات الأخرى وللمشاركة في الأنشطة الكونية، بمعنى أن التنمية الثقافية المحلية هي أساس المشاركة في التنمية الثقافية الإنسانية الكونية. يقول جان جوريس: " بتوجهه نحو البحر، يبقى النهر وفيا لمنبعه " أي أن المسار الطبيعي الميداني هو الذي يقوده إلى البحر حيث تصب كل الأنهار.
هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.