تشهد الساحة العالمية في العقود الأخيرة حركية دائمة على مستوى الأفكار والمفاهيم، وتسارعا ملحوظا في الإنتاجات الفكرية والنظرية والسياسية والإستراتيجية التي تضع المهتمين أمام تحديات مفاهيمية كبرى تفرض عليهم مجموعة من التحليلات المنهجية والعلمية قصد التفاعل معها إما إيجابا أو سلبا. والعولمة هي واحدة من تلك التحديات التي فرضت على الساحة العالمية بمختلف مكوناتها سياسيين وأكاديميين واقتصاديين نوعا من التفاعل الخاص معها، قصد تفكيكها وكشف خلفياتها وتجلياتها للمهتمين. وبالتالي مساعدة الإنسانية على تكوين صورة واضحة في مخيلتها تتيح لها إمكانية التفاعل الواعي معها بما يتلاءم ومصالحها القومية والكونية. مدلول العولمة إذا كان البعض يعتبر أن ظهور مفهوم ولفظ "العولمة" يعود إلى أواخر الستينيات، أو إلى السبعينيات من خلال طرح كتاب أمريكيين لمصطلح "العولمة" في التداول السياسي وبالتحديد من كتاب "ماك لولهان وكينتين فيور"، حول "الحرب والسلام في القرية الكونية"، وكتاب "بريجنسكي" بعنوان "بين عصرين: دور أمريكا في العصر الإلكتروني" فإنه لم ينتشر ولم يكتسب دلالات استراتيجية وثقافية مهمة إلا من خلال تطورات واقعية عديدة في العالم منذ أوائل التسعينات. هذه التطورات الواقعية التي تعود إلى ظهور " عوامل تقنية (ثورة تكنولوجيا الإعلام والاتصال والنقل) وقرارات تنظيمية (تحرير التجارة العالمية) وتطورات ماكرو اقتصادية (تكثيف المبادلات وبروز الدول الحديثة التصنيع) وانبعاث ليبرالية جديدة متشددة (قمم مون بلران الشهيرة التي يقودها الاقتصادي حاييك) وقطائع جيوستراتيجية واقتصادية (تفكيك الاتحاد السوفييتي)"(1) . والعولمة في مدلولها عند الكثيرين هي تصيير المحلي عالميا، أو الانتقال من المحلية الإقليمية إلى العالمية. فالعولمة هي نزوع نحو تنميط العالم اقتصاديا وسياسيا وثقافيا ولغويا... وبشكل يؤدي إلى "تنميط الحالة الإنسانية وهندسة البناء الاجتماعي وفق معادلات تم وضعها سلفا وبصورة حاسمة ومدمرة للشخصية الإنسانية" (2 ) فالصورة اليوتوبية أو النتيجة النهائية التي تسعى إليها العولمة هي أن يكون "للعالم لغة أو لغات مشتركة، وأن تكون التجارة فيه مفتوحة ومتيسرة بين كل بلدان العالم، وأن يسود فيه نظام اقتصادي واحد، ونظام سياسي واحد، وأن تسود فيه عقيدة واحدة، وأن تكون للناس فيه قيم مشتركة في مسائل كحقوق الإنسان والعلاقة بين الجنسين، وأن يكون هناك أدب عالمي يتذوقه الناس كلهم، وأن يسود فيه تبعا لذلك نظام تعليمي واحد..."(3) . وهكذا تفهم العولمة على أنها عملية تلغي الحدود القومية وتوحد الاقتصاديات والثقافات القومية والتكنولوجيات والحكم، وتنتج علاقات معقدة من الاعتماد المتبادل المشترك(4) . وكان بالإمكان أن تكون هذه الصورة النهائية للعولمة أكثر إنسانية وعدلا لو لم تكن صورة أحادية الجانب تعبر عن نزعة مركزية منذ فجر الحضارة الأوروبية الغربية. هذه المركزية التي يعتبرها المفكر الإسلامي د. محمد عمارة(5) لصيقة بالنموذج الحضاري الغربي منذ العصر الروماني الذي رأى أصحابه أن الإنسان هو الروماني الحر وحده، وما عداه برابرة، وأن ما يتدين به الروماني هو الدين الوحيد، وما عداه واجب الاستئصال. وقد واصلت (حسب المفكر الإسلامي دائما) هذه النزعة المركزية الغربية صراعها مع الآخر طوال عصر استعمار الغرب للأمم والبلاد والحضارات غير الغربية، وتم هذا الصراع والاستئصال على مختلف الأصعدة والميادين والجبهات بتحويل العالم إلى هامش للأمن الأوروبي الغربي، وتسخير الشعوب المستعمرة وإمكاناتها وقودا في هذه الحروب الاستعمارية، كما كان الرومان والفرس يصنعون قديما مع الغساسنة والمناذرة في النظام العالمي القديم. وهذا النزوع نحو الهيمنة الأحادية على كل ما يتصل بالحياة الفردية والجماعية للبشرية هو ما يدفع البعض إلى اعتبار "العولمة" و "الأمركة" مصطلحان مترادفان يؤديان إلى نفس المعنى. وهو ما يجعل كذلك مفكراً مثل "ريجيس دوبريه"، يرى أن "العولمة" التي تتم الدعوة إليها اليوم "عولمة زائفة"، فالحيز المطروحة فيه أمريكي، والنمط السياسي والثقافي هو نمط الحياة الأمريكية والفكر الأمريكي(6) . نخلص إلى القول بأن هذا النزوع إلى مركزية الذات وهاجس فرضها على الآخر، والمتجسد اليوم في العولمة، ليس مرتبطا بالنموذج الأمريكي فحسب، بل هو مرتبط بالإنسان الغربي ككل، وهو ما تثبته مختلف النظريات والتي تكون في بعض الأحيان لمن هم أشد عداءا للنموذج الأمريكي. فقد عبر "أوغست كومت" Auguste Compte و "كارل ماركس" Karl Marx وغيرهم في نظرياتهم عن كون العالم يسير نحو ثقافة ومجتمع عالميين. وبالتالي فإن هذه الثقافة الثقافة هنا بما هي سلوك اجتماعي وسياسي التي تحرك العولمة اليوم، تضع سيادة الدولة/الأمة والثقافات الإنسانية المختلفة أمام تحدي إثبات الذات على مستويات عدة سياسية واقتصادية وثقافية. سيادة الدولة/الأمة أمام تحدي العولمة السياسية؟! فالدولة/ الأمة "الديموقراطية" أمامها تحدي تطبيق سياساتها وبرامجها الانتخابية التي كسبت بها تعاطف وأصوات الناخبين. أما الدولة "السلطوية" فأمامها تحدي تطبيق وعودها وشعاراتها التي أسست "لثورتها" أو "انقلابها" واستيلائها على السلطة. وبعيدا عن كل النزعات التبريرية والمؤامراتية لمعضلاتنا الاجتماعية (التي نتحمل مسؤولياتها كدول متخلفة) فإن تطبيق السياسات الداخلية للأمم أصبح صعب المنال، إذ أن انحلال الأمم في ظلها (أي العولمة) هو نتيجة مؤكدة، لا بل حتمية(7) . فالعولمة السياسية كما قال رئيس جمهورية جنوب إفريقيا تامومبيكي Thabou Mbiki "تعيد مفهوم السيادة القومية"، وتشرعن للتدخل في شؤون الدولة القومية تحت غطاء مفاهيم وممارسات التدخل الإنساني والديموقراطية وحقوق الإنسان والدفاع عن الأقليات. وهذا التدخل "الإنساني" بالذات يثير جدالا يعتبره الإماراتي "سعيد حارب" جدالا ذو وجهين(8) : الوجه الأول يقول بأن على العالم (وخاصة العالم القوي) التدخل العسكري انتصاراً لأي طرف يتعرض لإبادة وظلم وقمع من طرف باطش. والثاني يقول بأن إطلاق العنان لمبدأ التدخل الإنساني يشرع للدول الكبرى ممارسة التدخل هنا وهناك تحقيقاً لمصالحها وتحت شعارات إنسانية. غالبا ما يكون الوجه الثاني للتدخل الإنساني هو الصحيح، على اعتبار أن سلوك الإنسان الغربي تحكمه النزعة المركزية التي تحدثنا عنها سابقا، كما أن الإنسان/الدولة المالك للسلطة/القوة (من وجهة نظر مونتسكيو) يميل نحو إساءة استعمالها، وتتشابك لديه المصالح الإيديولوجية والإستراتيجية مع الأهداف الإنسانية، مما يؤدي إلى تغليب الذات على الآخر، وبالتالي انتهاج سياسات براجماتية تٌنتهَك من خلالها سيادة الدول القومية. وخير دليل على ذلك سياسة الكيل بمكيالين التي تنهجها الولاياتالمتحدة، راعية العولمة، اتجاه باقي دول العالم واتجاه الحكومات السلطوية اللاتينية منها على وجه الخصوص. فهي تغض الطرف عن نشاطات الحكام والقتلة وتجار المخدرات الذين لا يشكلون تهديدا للمصالح الرأسمالية الأمريكية، كما أنها لا تتردد في التضحية بمبادئ حقوق الإنسان والديموقراطية عند محاولة أي دولة تحقيق مصالح شعوبها بالسير في طريق الديموقراطية والتنمية الذاتية على أسس وطنية. وهناك محطات عديدة تؤرخ للسياسة الإجرامية الأمريكية. فقد دعمت هذه الأخيرة مثلا في فترة رئاسة كندي الانقلاب العسكري في البرازيل عام 1964، وساعدت على إجهاض الديموقراطية البرازيلية، التي خطت في سبيل الاستقلال، ودعمت بذلك الولاياتالمتحدة الانقلاب الذي وضع الأساس لعمليات التعذيب والإرهاب على طريقة النازي. فعلى الرغم من توفر البرازيل على ثروات طبيعية تؤهلها لأن تكون من أغنى الدول في العالم، وتوفرها على صناعة ذات مستوى عال، إلا أنها بفضل انقلاب 1964، غدا معظم البرازيليين يعيشون عيشة الإثيوبيين، وأقل كثيرا من سكان أوروبا الشرقية، ناهيك عن التعذيب والقتل والأساليب الأخرى لضبط السكان(9). والبرازيل ليست إلا ضحية من بين ضحايا عديدين كالسالفدور ونيكاراغوا وغواتيمالا وفلسطين الإسلامية... وليس آخرها العراق أرض الحضارات. أما الوجه الآخر لانتهاك سيادة الدول واستقلاليتها فهو الشركات العملاقة والمقاولات التي أضحت اليوم صاحبة الدور المركزي في صناعة القرارات السياسية والاقتصادية والثقافية التي كانت ما قبل العولمة من اختصاص الدولة القومية. فالتجارة الحرة تجعل من الشركات المتعددة الجنسية خلفا للسيطرة المركزية في الأنظمة الشيوعية وبديلا عن الدولة في تنظيم شؤون حياتنا، وبالتالي تراجع صلاحياتها (أي الدولة) واستقلاليتها في اتخاذ القرار بشكل ديموقراطي يتلاءم ورغباتشعوبها، وهذا ما يؤدى بتعبير الدكتورة فاندانا شيفا (10) "إلى الإفلاس السياسي والتكتلات والأحلاف غير الديموقراطية. فبدلا من الانصياع إلى مذهب الثقة الشعبية ومبادئ المسائلة والتبعية الديموقراطية تقود العولمة الحكومات إلى اغتصاب السلطة من البرلمانات والحكم المحلى وحكام الأقاليم وقادة المجتمعات المحلية" لصالح الشركات المتعددة الجنسية. وتعطي فندانا شيفا مثالا على ذلك إذ أن "الاتفاقية المتعلقة بالزراعة تقوم على مبدأ اتخاذ القرارات دون إشراك المجتمعات المحلية ولا القيادات الإقليمية. وتستولي الاتفاقية العامة للتجارة و الخدمات الجاتس GATS على سلطة اتخاذ القرار وحق انتزاع الملكية من القطاع المحلى والعام لصالح القطاع الخاص والكوكبي. فعملية الخصخصة وإلغاء الضوابط هذه والتي تجري بشكل غير ديموقراطي أدت إلى مزيد من الفساد والإفلاس السياسي والاقتصادي". هذا وقد حدَّت الثورة الاتصالاتية والمعلوماتية والإعلامية من أهمية حواجز الحدود والجغرافية. كما أن قدرة الدولة على ضبط خصوصياتها الداخلية تراجعت ولا تزال إلى حد كبير في ظل وجود العشرات من الأقمار الصناعية التي تتنافس على الفضاء والتي تستخدم لأغراض تجسسية. وتوظيف التكنولوجيا الحديثة في عمليات التبادل التجاري والمعاملات المالية يحد أيضاً من قدرة الحكومات على ضبط هذه الأمور، مما سيكون له تأثير بالطبع على سياساتها المالية والضريبية وقدرتها على محاربة الجرائم المالية والاقتصادية(11) . من جهة أخرى فإن الثورة الهائلة في مجالات الاتصال والمعلومات تجعل قدرات الدول تتناقص تدريجياً بدرجات متفاوتة فيما يتعلق بممارسة سيادتها في ضبط عمليات تدفق الأفكار والمعلومات والبشر عبر حدودها، مما يدفع بعض الكتاب إلى التصريح بأن " الدولة وهي عامل السيادة الخارجي(( ستصبح شيئا من الماضي))، ويقول المتنبئون من عصر المعلومات أن الفضاء الإلكتروني يحل محل الفضاء الأرضي ويجعل ضوابط الحكومات القومية أمرا مستحيلا" (12) . وبالتالي فإن هذا المعطى (الثورة الإتصالاتية والمعلوماتية)، والذي يعتبر من ركائز العولمة الأساسية، قد ساهم بشكل ملحوظ في زيادة معدلات التجانس والتشابه، بحيث افتقدت العديد من المجتمعات الإنسانية خصوصياتها و مقوماتها الشخصية. و ذلك كله يندرج في إطار استراتيجية كبرى دشنها "فرانسيس فوكوياما" في كتابه " نهاية التاريخ" من خلال رؤيته بأن المحصلة النهائية للعولمة هي انتصار الحضارة الغربية التي سوف تفرض هيمنتها وثقافتها وقيمها على شعوب العالم، بحيث يصبح العالم ذو فكر وثقافة واحدة وهي ثقافة أمريكية بحتة. وهو ما يطرح عدة إشكاليات متعلقة بالعولمة الثقافية التي سأحاول التطرق إليها في الجزء الموالي. الثقافة والعولمة بعيدا عن رصد الاختلافات في الجدل الدائر حول مفهوم الثقافة، وبعيدا عن إبراز مراحل نشأتها الاجتماعية وتطور دلالاتها اللغوية والمفاهيمية لما من شأنه أن يزيحنا عن موضوعنا الأساسي نقول بأن الثقافة هي أحد المكونات الأساسية للحضارات الإنسانية، وهي تشمل كل أنواع العلم والمعرفة من معتقدات دينية وأعراف وتقاليد وقيم وفنون وآداب وأخلاق وقانون، كما أن كلمة الثقافة تعطى دلالات تتجاوز العلم والمعرفة إلى السلوك السياسي والسلوك الاجتماعي (كنمط العيش والاستهلاك مثلا). وقد كان التمايز الثقافي عبر التاريخ أهم محدد للمجتمعات الإنسانية، وتميزت مختلف تلك الثقافات بالتفاعل (أو المثاقفة) إيجابا أو سلبا: فقد تمثل التفاعل الإيجابي في استثمار قيمة الإختلاف الثقافي بين المجتمعات في الأخذ والعطاء والمثاقفة بين جميع الأطراف على مستوى الاعتقاد الديني والعلوم والفكر والفلسفة والفنون... وهي العملية التي أطلق عليها "باستيد" مصطلح"التداخل الثقافي المتبادل" (13). وهذا التفاعل الإيجابي هو ما يزكيه الإسلام الذي اعتبر أن الإختلاف بين الشعوب والقبائل هو قيمة سامية يجب استثمارها في التعارف بين المجتمعات، في إطار من الاحترام للآخر، بلا نفي أو إقصاء أو إكراه " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " (الآية). أما التفاعل السلبي فيمكن رصده في حالتين اثنتين: . حالة مثاقفة منظمة، لكنها قسرية، وتتم لمصلحة جماعة واحدة كما في العبودية والاستعمار. وهنا يكون الهدف تغيير ثقافة المجموعة الخاضعة على المدى القصير بهدف إخضاعها لمصالح المجموعة المسيطرة، وتبقى المثاقفة جزئية، وفي أغلب الأحيان تنتهي إلى الفشل بسبب تجاهل الحتميات الثقافية. وغالباً ما يكون هناك انتزاع للثقافة بدلاً من المثاقفة (14). . حالة مثاقفة مخططة ومضبوطة ترمي إلى أن تكون منتظمة تنظر إلى المدى البعيد. ويتم التخطيط لها انطلاقاً من معرفة مفترضة بالحتميات الاجتماعية والثقافية. في النظام الرأسمالي يمكن لهذا التخطيط أن يؤدي إلى" استعمار جديد "... ويمكن للمثاقفة المُخَطّطة أن تنشأ بناء على طلب مجموعة تتمنى رؤية تطوير شكل حياتها لتشجيع تطورها الاقتصادي على سبيل المثال (15). ويبدو من خلال المعطيات الواقعية، أن الولاياتالمتحدة تسير وفق الحالة الثانية أي المثاقفة السلبية المخططة والمضبوطة رامية إلى عولمة النموذج الثقافي الأمريكي واحتواء باقي الثقافات بما يحقق مصالحها السياسية والاقتصادية والحضارية، انطلاقا من إدراكها المسبق لما للثقافة من أهمية متمثلة في أنها العامل الأساس في أي عملية تغييرية وحضارية، وأن محور عملية التغيير السياسي والاقتصادي الذي تسعى إليه هو عقلية الإنسان ونفسيته واستجاباته الاجتماعية وتفاعلاته القيمية والأخلاقية. فجوهر أي عملية تغييرية إنما يمس بالأساس جوهر الإنسان ونفسيته، وإلا كانت العملية مجرد صورة خارجية لا تعكس حقيقة هذا الكائن الاجتماعي، ولا تحرك قدراته ومكنوناته الداخلية قصد التفاعل مع النمط الجديد. هذا النمط (الأمركة) الذي لا يتحقق إلا من خلال تركيبة علائقية كلية، يدعم الثقافي فيها ما هو سياسي وما هو اقتصادي... العلاقة بين الثقافي والسياسي فعولمة الثقافة الأمريكية تهدف بشكل كبير إلى إسقاط كل عناصر المقاومة والنضال ضد الخطط السياسية للرأسمالية الجديدة. وهو ما يستنبط من خلال تحركاتها على عدة مستويات لتشكيل عقل إسلامي يتبنى أفكارها وأطروحاتها. فقد حدث أن تقدم السيناتور "تيد كيندي" لمجلس الشيوخ بمشروع قانون يحمل اسم " الجسور الثقافية لعام 2000م" يهدف إلى المزيد من الاحتواء الثقافي لشباب العالم الإسلامي، وإلى صناعة قادة المستقبل في العالم الإسلامي داخل المؤسسات الثقافية الأمريكية وبين العائلات الأمريكية. وفي معرض شهادته دعما لمشروع القانون قال "كنتن كيث" مدير الاتحاد من أجل تبادل ثقافي وتعليمي دولي(16): (( لكي نكسب الحرب ضد الإرهاب فإن ذلك يتطلب منا أكثر من مجرد قوتنا العسكرية.. يتطلب منا اجتذاب شعوب العالم الإسلامي إلى قيمنا ومجتمعنا؛ إن كان لنا أن ننجح في تحقيق التفاهم والتوعية والاحترام المتبادل، وهو ما سيشكل الأسس لعلاقات سلمية مثمرة، وإن التبادلات (الطلابية) التي يقرها مشروعكم هي أقل السبل كلفة عند أخذ المردود بعين الاعتبار لتشجيع العلاقات الشخصية والمؤسساتية التي من شأنها تعزيز أمننا القومي على المدى البعيد... ينبغي للولايات المتحدة أن ترد على الخطر الإرهابي على مستويات عدة، فنحن بحاجة لأن نضمن أن دفاعاتنا قوية وحدودنا آمنة)). فهته الشهادة هي بمثابة اعتراف لمدير اتحاد يضم خمسا وستين منظمة / آلية من آليات العولمة الثقافية. ف"كنتن كيث" يحيلنا من خلالها إلى مجموعة من الرؤى التي تحكم العقلية الأمريكية، من بينها اعتبار قيم الآخر العالم الإسلامي بما فيها الدين مصدرا للإرهاب، وبالتالي من الواجب إقصاءه ليس فقط من خلال القوة العسكرية، بل من خلال تشكيل عقول وقيادات ورسل أمريكيين داخل العالم الإسلامي يضمنون ترسيخ قيم أمريكية جديدة داخل أوطانهم لخدمة مصالح العم سام القومية. ومع نفس الشهادة دائما نستخلص أن الإحترام المتبادل والعلاقات السلمية مع العالم الإسلامي من منظوره لا تتحقق إلا في حال تخلي هذا الأخير عن قيمه وطموحاته لصالح الأهداف الأمريكية. وهذا الموقف ليس نشازا، بل يتعدى شخص "كنتن كيث" إلى شخصيات ورموز بارزة على الساحة الأمريكية. فالكاتب "صموئيل هنتنجتون" مثلا يقول: " إنه لا مجال ولا إمكانية للتعايش مع الحضارة الإسلامية لأنها تختلف عن الحضارة الغربية وإن المواجهة التي انتهت ضد الحزب الشيوعي تركت الفضاء مفتوحاً أمام مواجهة جديدة لا تكون إلا مع الغرب وقيمه ، والإسلام الذي هو غير قيم الغرب ؛ بل هو مغاير للحضارة الغربية ، ولحقوق الإنسان ، ولسيادة الحق والنظم الديموقراطية يجب مقاومته ". وهذا ما صرح به "نيكسون" في كتابه "الفرصة الأخيرة": "إنه بعد سقوط الشيوعية لم يعد هناك عدو سوى الإسلام". فالحل بالتالي في نظرهم هو مزج الأمم في الحضارة الغربية. وإذا كان الاختراق الثقافي للعالم الإسلامي من خلال البعثات الطلابية والمخيمات والمنتديات والمعاهد داخل الولاياتالمتحدة من الآليات الواردة لنشر الثقافة الأمريكية، فإن الوسائل الحديثة تتعدى ذلك، بحيث أن الثقافة اليوم لم تعد "كما كانت في الماضي خاضعة لوسائل تقليدية في النشر والانتشار وإنما أضحت متأثرة إلى حد بعيد بالتكنولوجيا عامة والتكنولوجيا الاتصالية خاصة، هذه التكنولوجيا التي استطاعت القيام بالاختراق الثقافي.أي أن السيطرة أصبحت للتكنولوجيا ، التكنولوجيا تحمل الثقافة، الثقافة محمولة عبر التكنولوجيا إذ بإمكان التكنولوجيا بث الثقافة التي تريد "(17). وهذا ما يتضح على شبكة الانترنيت، إذ أن المواقع التي تساهم في نشر الثقافة الأمريكية هي أكثر عددا من مثيلاتها الإسلامية والصينية ... وهو ما يخلق مثاقفة أنترنيتية تميل أكثر للجانب الأمريكي. ويذهب في نفس السياق أحد الأمريكيين من أصل هندي، إذ يعتبر الولاياتالمتحدة، وبالرغم من أن ثقافتها ليست بشكل من الأشكال الوحيدة ذات الحضور العالمي في عالمنا المعاصر،فإنها هي "من يحدد الخطى في كثير من البنى الاجتماعية والثقافية العالمية، وذلك لأن الولاياتالمتحدة تمتلك قدرة لا تضاهى على الوصول إلى وسائل إنتاج ونشر أفكارها وطراز حياتها في جميع أنحاء العالم من جهة، ولأن الولاياتالمتحدة تمتلك مجموعة فريدة من الخصائص الثقافية والتاريخية التي تمكن من ذلك النشر"(18). ولهذا الرأي ما يدعمه، خصوصا وأن للفن السابع الأمريكي مثلا قدرة لا تضاهى في مجال التسويق للثقافة الأمريكية، سواء من حيث الميزانيات المخصصة له والتي تفوق ميزانيات العديد من الدول المتخلفة، أو من حيث انتشارها في دور السينما والمحطات التلفزيونية العالمية، أو حتى من حيث اللغات التي تعرض بها (تعتبر اللغة الإنجليزية من اللغات الأكثر انتشارا في العالم مما يسهل تسويق الأفلام الأمريكية، كما وتترجم الأفلام الأمريكية إلى مختلف اللغات العالمية كالفرنسية والعربية والإسبانية...) والتي تتيح التواصل مع عدد كبير من الشعوب والثقافات. وللسينما في عيون بعض الشخصيات أهمية كبيرة، فنيل م.روزندورف مثلا يقول (19) بأن السينما ستكون "في المستقبل المنظور أكثر أهمية من الإنترنت أو حتى من التلفزيون والراديو كوسيلة لنشر الثقافة الشعبية الأمريكية في الخارج". ويبني قوله هذا على اعتقاده بأنه خارج "الولاياتالمتحدة وحفنة من الأمم الغنية الأخرى لا تزال الإنترنت ضرورة بالنسبة للنخبة"، وهبوط أسعاره وإن كان سيوسع من مجال انتشاره كثيرا، فإن افتقاد معظم البيوت إلى الاتصالات الهاتفية بسبب المودم أو الكهرباء من أجل التلفزيون، سيبقي لعرض الأفلام عروضا عامة دورها الرئيسي في بث حلم الثقافة الشعبية الأمريكية". بل ويذهب أكثر من ذلك، فهو يرى أنه "حتى عندما يصبح لكل بيت توصيلات كهربائية، وتلفزيون واتصال بالإنترنت، سوف تقف هوليود وحدها تقدم الحلم: أيقونات تجعل من الأيقونات وفي المناظر البعيدة وحتى المنتجات تماثيل بتقديمها أكبر من الحقيقة بالمعنى الحرفي؛ والتلفزيون والإنترنت بالمقابل يصغران الصور ويجعلانهما عملا يوميا مملا. وحتى التلفزيون بشكله المكبر لن يصل إلى الحجم الأسطوري لشاشة السينما، وبالتأكيد لن يقترب من قبولها الشامل. إن أجهزة الراديو وسيلة صغيرة ورخيصة الثمن ومتوفرة في كل مكان لنشر الموسيقى الشعبية والإعلانات، ولكن لا تزال الصورة تساوي ألف كلمة. وسوف تستمر هوليود لتكون كما كانت دائما، مصنع الحلم الأمريكي حتى أن شخصيات مثل ستالين وغوبلز حلموا فقط بتقليدها"(20). هكذا إذن يتضح موقع السينما كوسيلة حديثة نسبيا في التفكير الأمريكي، وسر قدرتها على تكوين رأي عالمي ومحلي بالخصوص حول مختلف القضايا السياسية، وسر قدرة هوليود على التضليل السياسي وإيهام الشعب الأمريكي لفترة طويلة بقدرات أمريكا الخيالية على حماية مجالها القومي ضد الأخطار الأجنبية، إلى درجة دفعت البعض بعد الحادي عشر سبتمبر وبعد افتضاح الضعف القتالي للقوات الأمريكية على الأرض إلى القول بأن قوة أمريكا صنعتها أفلام هوليود. في المقابل فإن الثقافة الهندية وجدت جماهير عالمية بفضل صناعة الأفلام ( Bolly Wood بولي وود). وهكذا استطاعت أمريكا والهند إيجاد جمهور عريض لثقافتهما المحلية، عكس صناعة الفيلم الإسلامي الذي يبقى ضعيفا في نشر ثقافته، وغير مستفيد من هذه الوسيلة في التعبير عن نفسه، مع غياب استراتيجية حقيقية للنهوض بهذا القطاع في سبيل خدمة القضايا الإسلامية. العلاقة بين الثقافي والاقتصادي إلى جانب دورها السياسي، نجد أن للعولمة الثقافية دورا آخر اقتصادي، فهي تساهم في إشاعة الثقافة الاستهلاكية، وخلق عادات استهلاكية علي نطاق عالمي تهدف بالأساس إلى ضمان معدلات توزيع عالية لمنتجات الشركات العالمية الكبرى، وكذا نشر القيم الرأسمالية الجديدة التي تختزل الإنسان في بعده المادي الاستهلاكي والمصلحي. هوامش 1. يحيى اليحياوي، العولمة الموعودة ص:88 منشورات عكاظ 1. جمال سلطان، الإعلام الإسلامي وتحديات العولمة، مجلة البيان العدد:170 ص:61 / شوال يناير 2002 2. المرجع السابق. العولمة وصراع الحضارات، أ.د.جعفر شيخ إدريس، ص:27 3. الحكم في عالم يتجه نحو العولمة، Pipa Noris- ص:221 - مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى 4. مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية / د.محمد عمارة / موقع الشبكة الإسلامية 5. عبد الخالق عبد الله، "العولمة: جذورها وفروعها وكيفية التعامل معها"، مجلة عالم الفكر، العدد 27، كانون أول، الكويت، 1999، ص 50 6. نورمان فان شربنبرغ، فرص العولمة، ص:23 / مكتبة العبيكان 7. حسب الجزيرة نت فإن الكاتب سعيد حارب يشير إلى هذا الجدال في ما كتبه بشأن الصراع في كوسوفا (الصفحات ما بين 133 و 149) من كتاب الثقافة والعولمة / نشر دار الكتب الجامعية العين الإمارات العربية المتحدة. 8. راجع المقالة المطولة لنعوم تشومسكي: ماذا يريد حقيقة العم سام؟ ترجمة ونشر الملتقى الطبعة الأولى 2003 مطبعة النجاح الجديدةالدارالبيضاء 1. دكتورة "فاندانا شيفا": عالمة طبيعة وايكولوجية وناشطة ومحررة ومؤلفة للعديد من الكتب. وقد أسست فى الهند حركة "نافدانيا" وهى حركة للحفاظ على التنوع البيولوجي وحقوق الفلاحين. وهى مديرة مؤسسة الأبحاث فى العلوم والتكنولوجيا وسياسات الموارد الطبيعية. 2. الدكتور محمد حامد السامرائي، العولمة السياسية وأخطارها على العالم العربي. مقال منشور بموقع الوحدويون العرب على الإنترنت 3. الحكم في عالم يتجه نحو العولمة، روبرت و. كيوهن / جوزيف س.ناي الابن، ص:40 4. مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية - دوني كوش - ترجمة:د.قاسم المقداد. دراسة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 2002 http://www.awu-dam.org 5. المرجع السابق 6. المرجع السابق 7. هذا المعطى وارد بمقال "الاستحواذ على العقول.." للكاتب الصحفي شعبان عبد الرحمان. مجلة البيان العدد 183 / يناير 2003 8. عولمة الثقافة.. بعد إسقاط عناصر المقاومة الحضارية موقع بلاغ على الإنترنت 9. الحكم في عالم يتجه نحو العولمة نيل م. روزندورف: العولمة الاجتماعية والثقافية: المفاهيم ودور أمريكا ص:163 10. المرجع السابق، ص:182 183 11. المرجع السابق. هشام زهراوي / طالب بشعبة الاقتصاد والتدبير جامعة محمد الأول وجدة [email protected]