تروج هنا وتتردد هناك, بمغرب الوطن العربي كما بمشرقه, وفي أعقاب انتفاضة الشعب التونسي, مقولة مفادها أن ما جرى بتونس بداية هذا العام, العام 2011, إنما يدخل ضمن نطاق الاستثناء الصرف الذي لا يمكن البناء عليه للخلوص إلى تثبيت القاعدة أو تعميمها, أو البناء عليها لاستشراف ما قد يجري بهذا البلد العربي أو ذاك. تتلخص دفوعات "المشارقة" في القول بأن ما جرى في هذا البلد "البعيد" جغرافيا, إنما هو نتاج سياق معين, محصور الأبعاد, محدود النتائج والتداعيات. فالبلد برأيهم, خضع لحكم ممركز, أداتاه قوتا النار والحديد, ترتب عنه تكميم للأفواه والأفكار, تفقير للشعب, بشرا وأرضا, ونهبا للثروات خطير, أصبح الحاكم بموجبها مالك السلطة الأقوى, ثم صاحب الأملاك الأوحد, ثم الضامن, بالارتكاز على ذلك, لمنظومة في الحكامة ظاهرها الاستقرار, فيما باطنها الاحتقان والاستقطاب والتذمر المعمم. أما دفوعات "أهل المغرب" فمفادها الزعم بأن ما جرى ويجري ب"تونس المجاورة", إنما هو شأن داخلي خالص, استنبتته ظروف ومعطيات ذاتية, أدى تدافعها بالزمن والمكان إلى انفجار الجماهير الغاضبة بوجه حاكم أساء التقدير أو تجاهل مجريات واقع الحال, أو لم يدرك التحولات من بين ظهراني أبناء جلدته, أو ارتكن لمديح الحاشية المنبطحة وتطمينات "الغرب المنافق". هؤلاء كما أولئك يقولون هذا في قرارة أنفسهم وفيما بين بعضهم البعض, وجهارة في بعض الأحيان, لكنهم يؤكدوا مجتمعين وبصلب كل ذلك, بأن ما جرى ويجري بتونس, إنما يجب رده إلى خصوصية الشعب التونسي وطبيعته ونمط علاقته مع السلطة. بالتالي, فلا مجال, يقول هؤلاء, لتعميمه أو التطلع لتدويله على خلفية من "قياس مجحف", لا تتساوى بمقتضاه بالمرة كل السياقات والخصوصيات. لا يكتفي هؤلاء وأولئك بذات القول والاعتقاد, بل يناهضون لحد التعصب كل من يقول بعدوى هذه الانتفاضة, أو بمدى أبعادها الإقليمية أو الجهوية, أو باحتمالية انتشارها انتشار النار في الهشيم...حيثما وجدت ذات النار هشيما من أمامها وريحا عاتية تزكيها. ليس ثمة من شك حقيقة في أن لكل دولة عربية, بالمشرق كما بالمغرب, خصوصياتها أو خصوصيات محددة تميزها عن محيطها المباشر والبعيد...حتى وإن تماهت شعوبها في اللغة والتاريخ والدين والأدب وما سواها. وليس ثمة من شك أيضا في أن ما جرى بتونس كان معطى خاصا واستثنائيا, إذا لم يكن بالسياق العام الذي انتظمت في إطاره البلاد لأكثر من خمسين سنة, فعلى الأقل بالقياس إلى تسارع وتيرة انتفاضة أزاحت طاغية برأس الدولة في أقل من شهر من الزمن. لكن الذي لا يصمد أمام التحليل, بالنظر إلى واقع حال دول المشرق والمغرب, إنما ضعف مقومات خطابهم, وتجاوز ذات الخطاب على الحقائق بالأرض, وهروبهم للأمام تحت مسوغ "الاستثناء" عندما تتهاوى إحدى منظومات هؤلاء, ويضيق الخناق من حول رقبتهم, وتحاصرهم شعوبهم بالتعاطف مع ما يجري, أو بمجرد الإشارة بالأصبع أو بالكلمة أو بالصورة بأن القادم سيء وقد يكون أسوأ. إن ما جرى بتونس ببداية هذا العام, ليس ولن يكون بالمرة استثناء أو معطى خاصا صرفا, أو حالة محددة عابرة, إنه نتاج سياق واحد قد لا يختلف, لدى المشارقة والمغاربة, عن السياق الذي أفرز انتفاضة تونس وضيق على رأس الدولة, حتى اضطره للهرب والبحث عن ملجأ رفض عتاة أصدقائه منحه إياه, فما بالك بالأعداء: °- إنه سياق الفساد السياسي الذي تشترك فيه كل النظم العربية الحاكمة, بالمشرق كما بالمغرب, حتى ليخيل للمرء أن الفساد بات عنصر منافسة حقيقي, تتسابق ذات النظم لتتولى السبق فيه بهذا التقرير أو ذاك, بهذا المقياس أو ذاك. لا يقتصر عنصر الفساد السياسي على مركزة أسس نظام الحكم في الحزب الواحد والزعيم الأوحد, ولا على ما يستتبع ذلك من زبونية ومحسوبية وارتشاء وارتهان الأفراد والجماعات, بل يتعداه إلى لجم الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والإعلام والمثقفين والمفكرين وما سواهم. ولا يقتصر هذا العنصر على اضطهاد المعارضين والتنكيل بهم بالداخل, بل يذهب لحد محاربتهم بالخارج واستهدافهم في الرزق والحق في الحياة إلى أبعد مدى ممكن. وعلى الرغم من اعترافنا بأن بعض دول المغرب والمشرق تتوفر على أحزاب ونقابات و"إعلام حر" وانتخابات وبرلمانات وما سواها, فإنها تنهل مجتمعة من منظومة الفساد بهذا الشكل أو ذاك, لا تختلف حالة بلدانها عن "تونس بن علي" إلا في الدرجة, وليس في الطبعة أو في الطابع. °- ثم إنه سياق الفساد الاقتصادي الذي يرتهن بموجبه الحاكم وعائلته وحاشيته كل مصادر الثروة, المتحرك منها كما الساكن, فيما يشبه وضعية الريع المطلق, التي لم يسلم منها بتونس, حتى مواطن بسيط كالشهيد محمد البوعزيزي, لا يلوي إلا على عربة مهترئة بها بعض الفواكه والخضراوات. لا ينحصر هذا الفساد في احتكار كل القطاعات أو ارتهان الفاعلين فيها جملة أو بالتفصيل, بل يتعداه إلى استصدار كل مشروع منافس, أو مبادرة خاصة, أو نية في الفعل الاقتصادي ببلد شهدت له معظم التقارير بنجاعته النيوليبرالية, والتزامه بمبادئ السوق وطقوس العرض والطلب. إنها منظومة تحتكم للسلطة والقوة لتستصدر ثروات البلاد وأرزاق العباد, سواء كان ثقلها بالميزان مرتفعا أم خفت الموازين بالضفة المقابلة. صحيح أن الفساد الاقتصادي بالمغرب كما بالمشرق, مستويات ودرجات, لكنه هو ذاته هنا وهناك, لا يختلف في الطبيعة, بقدر ما يختلف بمدى جشع هذا الرئيس وحاشيته, وجشع ذاك الملك أو الأمير وبطانته, وهكذا. الفساد بناء متراص, تقتات المنظومة كلها من مدخلاته كما من مخرجاته, لا استثناء من بين ظهرانيه إلا لمن لم تطله يد الحاكم حتى وإن كان مجرد رغيف خبز حاف وجاف. °- وهو أيضا سياق في فساد القضاء, باعتباره ملجأ المتظلمين ومقصد المظلومين. بهذه النقطة, أستطيع القول بأن القضاء "بتونس بن علي" كما القضاء بمعظم دول المغرب والمشرق, إنما هو قضاء مستهان, مرتهن, مقيد, مستصدر الإرادة والفعل...لا بل هو جزء من منظومة قوامها الفساد السياسي والاقتصادي, لا يفلت من عقالها إلا متظلم سانده الحظ, أو أغفلته العين, أو تغاضت عنه الأطراف لهذا الاعتبار أو ذاك. إن كل مفاصل المنظومة القضائية, بهذا البلد العربي بالمشرق كما بالمغرب, لا تستطيع الإفلات من فلك السلطة, لا بل وتحولت إلى حام لها, مسوغ لقرراتها, مدافع عنها, محتضن لها, مندغم بأجهزتها لحد النخاع. قد يكون ثمة, بهذا البلد العربي كما بذاك, بعض من الحياد للسلطة القضائية, لكنه غالبا ما يكون ممنوحا أو لذر الرماد في الأعين, أو للادعاء بحكامة القضاء وتجرده عن مجريات واقع الحال. أنا أسأل بالبناء على ما سبق: إذا كان ثمة من يدعي بأن انتفاضة تونس هي معطى استثنائيا, لا يطاول الجميع ولا يخضع لقاعدة تستوجب التعميم, فليقنعنا بعدم صوابية المقولة بأن نفس الأسباب تعطي نفس النتائج...تكون مساوية لها في القوة أو متجاوزة عليها في المدى.