أثار تعليق نشاط مكتب الجزيرة بالرباط لغطا واسعا بين مؤيد ومناهض. الاستجواب التالي مع الخبير الإعلامي يحيى اليحياوي يوضح بعضا من خلفيات القرار. الحوار أجراه معه الزميل عبد العالي دمياني من جريدة الأحداث المغربية, نقدمه توسيعا لمجال النقاش. ما هي قراءتك لحدث تعليق نشاط مكتب الجزيرة بالمغرب, وسحب اعتمادات صحافييها ومراسليها؟ هناك قراءات مختلفة ومتباينة وفي بعض منها متحمسة أو ذات نبرة توحي بموقف رد الفعل أكثر من الفعل: هناك أولا الواقعة في حد ذاتها, واقعة قرار الحكومة, ممثلة بوزارة الاتصال, بتعليق نشاط المكتب وسحب ما بقي من اعتمادات صحفية, على اعتبار أن ثمة صحفيان كانا يمارسان دونما تجديد لاعتمادهم, ممارسة من الباطن أقصد. الخطاب الباني لهذا الموقف جاء في بلاغ لوزارة الاتصال تقول فيه بأن هذا القرار جاء بعد أن "تم رصد حالات عديدة انحرفت فيها القناة المذكورة عن قواعد العمل الصحفي الجاد والمسؤول". ويقول أيضا بأنه بعد جرد شامل وتقييمي دقيق للتقارير والبرامج الإخبارية التي تناولت الشأن المغربي على قناة الجزيرة، لوحظ "أنه ترتب عن هذه المعالجة الإعلامية غير المسؤولة، إضرار كبير بصورة المغرب، ومساس صريح بمصالحه العليا، وفي مقدمتها قضية وحدته الترابية، التي تحظى بإجماع وطني راسخ لدى كل فئات الشعب المغربي". ويتابع البلاغ بأن ثمة "تماديا مقصودا في الإساءة إلى المغرب، وتصعيدا ملحوظا زاد حجمه طيلة الفترة الأخيرة، مع إصرار واضح على تقديم صورة عن بلادنا، تتسم بكل الشوائب والمظاهر السلبية، في سعي محموم لتبخيس جهود المغرب في كافة المجالات الإنمائية، والتشويش على مشاريعه وأوراشه الإصلاحية الكبرى، والإنتقاص المتعمد من مكتسباته وإنجازاته، في مجال تكريس الديمقراطية وتثبيت حقوق الإنسان". هذا هو الموقف الأول وهو واضح من طريقة صياغة البلاغ ونبرته. الموقف الثاني, جاء من القناة نفسها في صيغ استنكارية تم بثها بنشرات أخبارها الرئيسية والموجزة وبالبنض العريض, وببرامج خاصة تمت إذاعتها لهذا الغرض بالمباشر الحي ومع ضيوف من كل الأطياف, بالمغرب وبما سواه, كلها منددة أو غاضبة أو شاتمة أو ما سوى ذلك...وضمنها منظمات دولية أو إقليمية للدفاع عن حقوق الإنسان أو حقوق الرأي والتعبير. الموقف الثالث أتى من أبناء طينتنا, هنا بالمغرب, بين مندد بموقف الحكومة على أساس هذه الخلفية أو تلك, وبين متبن لذات الموقف بالبناء على هذا الاعتبار أو ذاك. وهذا أمر أفهمه وأتفهمه أيضا بحكم تجاذب المواقف من القناة. تسألني عن قراءتي الخاصة لما وقع أقول لك التالي: أنا صراحة ليست لي مصلحة مباشرة في هذا الطرح أو ذاك, لكني لا أستطيع أن أخفي أسفي وتذمري من القرار, في طريقة إخراجه, في توقيته كما في الأسباب المقدمة لتبريره. أولا أنا متحسر لأن القرار يطاول أصدقاء لي بالقناة سحب منهم الاعتماد من مدة, ومتحسر على الذين سحب منهم الاعتماد بهذا القرار, وكلهم أكفاء, مكونون, مهنيون وأبناء الحرفة ومعظمهم مغاربة فضلا عن كل هذا وذلك. ثانيا, أنا لست راضيا عن التوقيت, سيما وأنه أتى في مرحلة لربما المغرب في حاجة إلى أكثر من منبر للترويج لقضاياه الكبرى, سيما بقناة لها جمهور واسع, وأعتقد أنه لها بعض من القول/الفصل في العديد من القضايا الكبرى في العالم. وثالثا, أنا لست متأكدا من أن القرار قد خضع لدراسة متأنية بمقياس الخسارة والربح, بقدر ما أزعم أنه أتى كرد فعل على حالات سلبية محددة, أو جراء تراكم كانت القناة بظله مكمن عدم استحسان أو عدم رضى من لدن هذه الجهة أو تلك. ورابعا أنا متأسف لأن القرار, وإن كان مجرد تعليق لنشاط القناة, فهو لم يترك الباب مفتوحا كما يقال لتدارك القادم, سيما وأن القناة قد تعمد إلى التصعيد وهي التي تشتغل في بيئة ميزتها الأساس الثأر والفدية والبادي أظلم. لكل هذه الاعتبارات, فأنا أتصور أن القرار لم يكن مبنيا ومدروسا, حتى وإن كانت المسوغات معقولة وإلى حد ما متفهمة في خلفياتها. هل فعلا كان المغرب ارتكب خطأ عندما سمح للجزيرة بفتح مكتب به, وإطلاق نشرة مغاربية دون أن يتوفر على ضمانات باحترام "قضاياه المصيرية"؟ أنا صراحة لا علم لي كثير بما تدوول وتم الاتفاق عليه عندما قرر المغرب السماح لقناة الجزيرة بفتح مكتب لها بالرباط, ثم السماح لها ببث النشرة المغاربية من العاصمة, لكني أعتقد أن القرارين معا صائبين أيا ما تكن حسابات هذا الطرف أو ذاك. بعنصر السؤال الثاني, لست متأكدا من أن "الاتفاق" شمل ما تسميه القضايا الحساسة, بدليل أن القناة لم تتراجع مثلا عن استخدام عبارة "الصحراء الغربية" في نشراتها وبرامجها الحوارية, ولم تتحرج من الحديث عن البوليزاريو ولم تتردد في استضافة من يناهض وحدة البلاد, ولم تعمد إلى تصحيح خريطة المغرب بما يجعل الصحراء جزءا من المغرب, لا فضاء جغرافيا بلون مميز عن لون خريطة المغرب. كون المغرب لم يعمد إلى تجميد الاتفاق أو إلغائه, حتى باحتمالية احتجاجه على ذلك, يدل على أن مضمون "القضايا الحساسة" لم يثر, أو لم يتم تدقيقه, أو ترك على عواهنه, أو تم التسليم بأن القادم من أيام سيتكفل باستقطاب القناة للطرح المغربي. وهذا ما لم يتم منذ انطلاق مكتب الجزيرة بالمغرب, وحتى وهي تبث من قطر. أنا أتصور أن السبب في كل هذا هو تباين المرجعية بين الجهتين, بين الحكومة في المغرب وبين قناة الجزيرة في قطر, أو عبر مكتبها بالرباط. فالقناة لا تعير كبير اعتبار لما قد يكون "قضية حساسة" بالنسبة للمغرب. الأمر يقاس بالنسبة لها بما قد يدره هذا الحدث أو ذاك من نسبة المشاهدة ثم من شهرة ثم من إشهار. وهذا أمر معقول بكل الشبكات التلفزيونية بالعالم. ما العيب إذن أن نعاتب قناة الجزيرة على سلوك هو القاعدة بالإعلام التلفزيوني الأرضي كما الفضائي سواء بسواء. ثم ما قد يكون أمرا "حساسا ومصيريا" بالنسبة لهذه الجهة قد لا يكون بالضرورة كذلك بالنسبة للجهة الأخرى, سيما إذا كان الرهان متباين ومختلف بين الطرفين. أضف إلى ذلك أنه حتى لو كان قد تم التنصيص على هذه العبارة, فإنها تبقى هلامية وقابلة لأكثر من تأويل, لأنها نسبية ومحكومة بمرجعيات غير ثابتة. فمسألة حقوق الإنسان مثلا ليست بالثبات الموضوعي الذي يمكن البناء عليها للتعميم, إذ كل وفق سياقه وظروفه الذاتية أو هكذا يقال. ومسألة الأقليات وحقها في التميز تبقى أيضا غير ثابتة بين أعراق تتطلع للتميز وأغيار يسمونهم بالخليج "البدون", على الرغم من أنهم أبناء الوطن ازديادا ونسبا وإسهاما في التنمية...وهكذا. والقصد هو القول بأنه ما قد يبدو لنا مصيريا قد لا يكون كذلك بالنسبة للطرف الآخر, صديقا كان أم غريما. وما قد يكون نقطا حساسة عندنا قد لا تبدو كذلك له وهكذا. لا بل ولربما قد يكون له المصلحة في ألا تكون كذلك وإلا جر ذلك عليه فقدان منفعة أو مصلحة أو مال أو جاه لدى هذه الجهة أو تلك. هل استحضرت وزارة الاتصال كل ذلك قبل اتخاذ القرار؟ لست أدري اللهم إلا إذا استحضرت نظرية في المؤامرة لا أومن بها كثيرا. من خلال تتبعك لعلاقة الشد والجذب بين المغرب والجزيرة بسبب ما يعتبره المسؤولون استهدافا لصورة المغرب وتحيزا في مقاربة مجموعة من قضاياه الحساسة, إلى ماذا ترد ذلك, وما هي الخلفيات السياسية التي تحكمه؟ أعتقد صراحة أنه من المخجل أن نحول قضية ثانوية بين بلد ذا سيادة وقناة تلفزيونية, كائنة ما تكن قوتها وتأثيراتها, إلى قضية رأي عام تجند لها الأفواه والأقلام والحناجر من هذه الجهة كما من تلك, ويتحدث فيها كل من هب ودب, حتى الذي لا علم له بما جرى ويجري وعلى أساس أية خلفية أو محك تم ذلك. أعتقد أن حالة الشد والجذب بين المغرب والجزيرة كانت قائمة قبلما يتم اعتماد مكتبها وصحفييها بالرباط, إذ, وإن لم يكن بصحافة قرب مباشر, كانت تقدم برامج وتستضيف وجوها مغربية من عيار ثقيل أو متوسط لا تتحرج في فضح سلوكات السلطة, أو تعرية الواقع الاجتماعي والاقتصادي والحقوقي, أو تثير قضايا تعبر عن تجاوزات لا يمكن السكوت عنها, أو كانت من آخر المفكر فيه من لدن الإعلام الرسمي. تسألني عن مدى استهداف القناة لصورة المغرب وتحيزها لهده الجهة أو تلك في معالجة قضايا المغرب الكبرى, أقول لك صراحة بأني لا أؤمن كثيرا بنظرية المؤامرة كون هده الأخيرة تبقى اختزالية وتسطيحية ولا تتناول الحيثيات والخلفيات بجدية. بهده النقطة أنا لا أتوفر على كل التسجيلات التي تناولت فيها الجزيرة قضايا المغرب, سواء في مسائل الشأن الجاري أو فيما يتعلق بقضية الوحدة الوطنية. لكن المرء مع دلك لا يمكن أن يغفل جدية القناة في تناول العديد من الملفات, في حين أنها كانت تقصر في بعضها الآخر, أو لربما تتناولها ببعض من الإثارة والمبالغة, وهدا لربما جزء من خطها التحريري إذ التلفزة عموما تقتات من هدا الجانب. بخصوص قضية الوحدة الترابية للمغرب, أعتقد أن موقف القناة منها واضح مند اليوم الأول ولا أدل على دلك مرة أخرى, خريطة المغرب المجتزأة, واستضافة ممثلين عن جبهة البوليزاريو, وسياسيين من الجزائر واستخدام عبارة الصحراء الغربية في التغطية. هل هدا انحياز. لا أظن دلك ما دامت الأممالمتحدة داتها تتحدث على أساس هدا المنطق. هل للأمر خلفية سياسية محددة, لا أستطيع الإجابة حقيقة. لربما يجب البحث للرد على هدا السؤال عن طبيعة العلاقة بين دولة قطر والمغرب. وهدا يتجاوز كثيرا على هده الدردشة. ألا تعتبر تعامل الجزيرة مع المغرب بهذه الطريقة راجع في جانب منه إلى وجود جزائري في موقع القرار التحريري بمكتب الجزيرة؟ مرة أخرى أقول بأني لست من أنصار أطروحة المؤامرة, وليست لدي معلومات عن عدد الجزائريين العاملين بالقناة والدين لهم بعضا من سلطة قرار توجيه الخط التحريري للفضائية. بالتالي فالحديث بهده الجزئية يحتاج إلى معطيات ودلائل وتحديد الحالات. وأقول أيضا بأن فرضية الضغط على القناة قد لا يأتي بالضرورة من داخل القناة, بل بتوجيهات عن بعد ومن الباطن, وبأساليب ماكرة قد لا يعلمها إلا من بيده سلطة تحديد التصور العام وأدوات تصريف الخطاب. يجب أن أذكر من جهة أخرى, بأن تعليق نشاط مكتب الجزيرة بالرباط لا يعني أن القناة ستغير من سلوكها, على العكس فقد تصعد وقد تدفع بالطروحات المقابلة وبقوة, دونما أن يكون للمغرب منبرا للرد وهدا لربما هو مكمن الخطر الأكبر. صحيح أن القضايا المصيرية لا تقبل المزايدة, لكن لا يجب أن ننسى أن التكتيك أنجع من الاستراتيجيا في العديد من الحالات سيما وان المسألة تتعلق بقناة ليست عادية تماما. كيف تفسر تعاطي الجزيرة مع بعض الدول العربية مثل المغرب ومصر وتونس والجزائر مثلا بأسلوب يعتبره بعض المتدخلين متحاملا بينما تصمت عما يجري في دول أخرى منها قطر ودول الخليج العربي وسوريا وليبيا؟ أنا لا أعلم بالنوايا ولا بالخبايا ولا بالحسابات الخفية التي لربما تحكم فلسفة اشتغال القناة, وتدرج خطابها بين تصعيدي هنا وتخفيفي هناك. لكن أعتقد مع دلك بأن جزءا من الجواب قد نجده في النمطية المؤكدة التي غالبا ما يبني عليها الإعلام بالخليج مواقفه من بلدان المغرب العربي وقضاياه الداخلية. وحتى وإن سلمنا بدلك فإن النبرة بإزاء هده المنطقة ليست دائما حادة, وقد كان للقناة الفضل في إثارة الكثير من الملفات وأسهمت إلى حد بعيد في تقريب المواطن المغاربي من واقعه, عكس ما يقوم به الإعلام الرسمي المتكلس الذي لا يهتم بالمرة بكدا قضايا. بهده النقطة, أتصور أن قوة الجزيرة هنا إنما تتأتى من ضعف الإعلام الرسمي. ولكم وعد بعض المسؤولين بالمغرب بعزمهم إقامة قناة على نمط الجزيرة, فإذا بهم يخرجون علينا بفضائيات ماسخة لا تهش ولا تنش. أما عن تخفيف نبرتها بإزاء ما يجري بقطر, فهدا أمر لا يحتاج إلى كبير عناء للرد عليه. كيف تريد من قناة تمولها دولة قطر أن تنتقدها...لا بل سيكون الأمر من الفعل الشائن أخلاقيا حتى. وإلا فهل يعقل أن تعض اليد التي تطعمك. يجب أن نخرج من سذاجتنا عندما نتناول هدا التفصيل. ألا تعتبر تبعا لهذا أن الجزيرة تخدم أجندة سياسية محددة؟ هدا السؤال يستوجب التحفظ والحذر, وإلا لاعتبرنا أن استضافة صهاينة بالقناة من باب التطبيع مسألة تخدم أجندات محددة, قد تكون إسرائيل وقد تكون قطر وقد تكون بعض الفصائل الفلسطينية وقد تكون بعض النظم العربية وقد تكون غيرها. بالمقابل نلاحظ أن القناة تعرضت لأكثر من هجوم في تناولها لمعاناة الفلسطينيين أو الحروب المتتالية التي تقدم عليها إسرائيل بغزة وبالضفة الغربية. ويستوجب الحذر أيضا لأن الدولة المقر للقناة هي التي استضافت القيادة المركزية التي أدارت الحرب على العراق في مارس 2003, لكنها هي القناة نفسها التي تميزت في تغطيتها لهده الحرب وفقدت جراءها بعضا من صحفييها. هل نزعم بأنها تخدم الأجندة الأمريكية بالمنطقة. لا أستطيع قول دلك. هل تخدم حكومة الاحتلال ببغداد. لا أظن دلك. هل تخدم أجندة المقاومة العراقية. لا أستطيع قول دلك أيضا. بالتالي, فالمسألة تحتاج إلى دراسة معمقة حتى لا يصدر المرء الأحكام على عواهنها, أو يكون نقده مبنيا على رد فعل عابر لكنه مضر بالأمد القصير والمتوسط. أنقر هنا لزيارة موقع الدكتور يحيى اليحياوي