ردا على محكمة العدل.. هنغاريا تتشبث بالشراكة بين الاتحاد الأوروبي والمغرب    قرار محكمة العدل الأوروبية.. بلجيكا تجدد التأكيد على تمسكها بالصداقة والشراكة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب    قرار محكمة العدل الأوروبية.. نواب أوروبيون يعبرون عن امتعاضهم من قرار "يمس بالمصالح الاقتصادية الأوروبية"    بلجيكا تجدد تمسكها بعلاقات الصداقة والشراكة الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي والمغرب    قرار العدل الأوروبية لا يعكس موقف مجلس أوروبا والمفوضية الأوروبية والدول الأعضاء    محكمة التحكيم الرياضي تخفف عقوبة توقيف بوغبا        المحكمة تأمر بإفراغ بركة زوج المنصوري بالقوة من منازل قرب ضريح مولاي عبد السلام    كيوسك السبت | مثقفون ورجال قانون وأجانب قاطعوا الإحصاء العام للسكان والسكنى    "ميتا" تعلن عن إنشاء نموذج ذكاء اصطناعي جديد    طقس السبت ممطر في بعض المناطق    مهنيون يرممون نقص الثروات السمكية    مدرسة التكنولوجيا تستقبل طلبة بنصالح    جماعة طنجة تصادق على ميزانية 2025 بقيمة تفوق 1،16 مليار درهم    المغرب يعتبر نفسه غير معني بقرار محكمة العدل الأوروبية بخصوص اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري        إقليم تطوان .. حجز واتلاف أزيد من 1470 كلغ من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك خلال 4 أشهر    منتدى الصحراء للحوار والثقافات يشارك في الدورة الثانية من مناظرة الصناعات الثقافية والإبداعية    خطاب خامنئي.. مزايدات فارغة وتجاهل للواقع في مواجهة إسرائيل    التعادل ينصف مباراة المحمدية والسوالم    هكذا تفاعلت الحكومة الإسبانية مع قرار محكمة العدل الأوروبية    مصدرو الخضر والفواكه جنوب المملكة يعتزمون قصْدَ سوقي روسيا وبريطانيا    مغاربة يحيون ذكرى "طوفان الأقصى"    قرار محكمة العدل الأوروبية: فرنسا تجدد التأكيد على تشبثها الراسخ بشراكتها الاستثنائية مع المغرب    إعطاء انطلاقة خدمات مصالح حيوية بالمركز الاستشفائي الجامعي الحسن الثاني ودخول 30 مركزا صحيا حضريا وقرويا حيز الخدمة بجهة فاس مكناس    ثلاثة مستشفيات في لبنان تعلن تعليق خدماتها جراء الغارات الإسرائيلية    ريدوان: رفضت التمثيل في هوليوود.. وفيلم "البطل" تجربة مليئة بالإيجابية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    امزورن.. سيارة ترسل تلميذاً إلى قسم المستعجلات    مرصد الشمال لحقوق الإنسان يجمد أنشطته بعد رفض السلطات تمكينه من الوصولات القانونية    صرف معاشات ما يناهز 7000 من المتقاعدين الجدد في قطاع التربية والتعليم    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″    بوريس جونسون: اكتشفنا جهاز تنصت بحمامي بعد استخدامه من قبل نتنياهو        باريس تفتتح أشغال "قمة الفرانكفونية" بحضور رئيس الحكومة عزيز أخنوش    إيقاعات ناس الغيوان والشاب خالد تلهب جمهور مهرجان "الفن" في الدار البيضاء    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    النادي المكناسي يستنكر حرمانه من جماهيره في مباريات البطولة الإحترافية    الاتحاد العام لمقاولات المغرب جهة الجديدة - سيدي بنور CGEM يخلق الحدث بمعرض الفرس    ارتفاع أسعار الدواجن يجر وزير الفلاحة للمساءلة البرلمانية    التصعيد الإيراني الإسرائيلي: هل تتجه المنطقة نحو حرب إقليمية مفتوحة؟    الفيفا تعلن تاريخ تنظيم كأس العالم للسيدات لأقل من 17 سنة بالمغرب    الفيفا يقترح فترة انتقالات ثالثة قبل مونديال الأندية    اختبار صعب للنادي القنيطري أمام الاتحاد الإسلامي الوجدي    الدوري الأوروبي.. تألق الكعبي ونجاة مان يونايتد وانتفاضة توتنهام وتصدر لاتسيو    وزارة الصحة تكشف حقيقة ما يتم تداوله حول مياه "عين أطلس"    عزيز غالي.. "بَلَحَة" المشهد الإعلامي المغربي    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحت أضواء الثورة التونسية
نشر في لكم يوم 02 - 02 - 2011

تحت أضواء الثورة التونسية
(نهاية مرحلة في الانتقال الديمقراطي)
ما زالت نخبتنا السياسية والمدنية عموما، تتعامل مع الثورة التونسية، وكأنها حدث قطري محض، لا يتعدى مفعوله وأبعاده مجاله المحلي، حتى ونخبتنا تقر بعظمة الثورة، وبما تحمله من عبر وخلاصات ودروس.
وقد لاحظنا كيف أن كل الأحزاب والمنظمات المغربية، والإعلام بكل أصنافه، لم يرفعوا الصوت عاليا إلا بعد أن تأكد هروب الطاغية. أما ما قبل ذلك، فالتفاعل مع تطورات الانتفاضة، كان خجولا أقرب إلى الهمس منه إلى الموقف التضامني الصريح والفاعل.
الثورة التونسية ككل الثورات الكبرى في التاريخ، تمتد مفاعيلها وأبعادها، حتما، خارج نطاقها المحلي. وتختلف هذه المفاعيل والأبعاد بحسب طبيعتها التاريخية ووزنها على المستوى الكوني.
والثورة التونسية هي من هذا النوع الذي لن يعدم أثرا في الامتداد الجغرافي –الثقافي الذي تتداخل معه وتشكل جزءا منه ومن زمنيته التاريخية في النهوض والتقدم.
وإذا كانت هذه الثورة لم تكتمل معالمها بعد، وإذا كان مخاضها ما زال معرضا لمؤامرات شتى، فالذي لاشك فيه، أنها مضت بأشواط بعيدة في إحداث القطيعة مع الماضي، وأنها أرست مدماك هذه القطيعة وضامنتها بوجود شعب إمتلك الإرادة والوعي الكفيلين بنقله إلى مرحلة تاريخية أخرى تختلف نوعيا عما كانه في السابق.
كيف ستؤثر هذه الثورة في باقي "الأواني المستطرقة" العربية والمغاربية بالخصوص؟ لا مراء في أن ذلك سيتخذ أشكالا مختلفة تبعا لنسبية الاختلافات القائمة بينها جميعا، لا سيما بحسب عمق الشرعية التاريخية التي يحظى بها الحكم في كل منها.
الشيء المؤكد الوحيد، أن الثورة باعتبارها ستكون منارة ديمقراطية متقدمة، وبل جذرية، على ما عداها من النماذج العربية الأخرى، فستجعل من "قانون التدافع الديمقراطي" يفعل فعله في كل النماذج العربية المتأخرة عنها.
في هذا الأفق، وبهذا المعنى، يمكن القول وبدون تردد، أن الثورة التونسية قد أعلنت نهاية مرحلة قائمة، وبداية مرحلة جديدة في أعلى درجات التطور الديمقراطي لكافة البلدان العربية والمغاربية منها بالأخص.
بهذا الوعي الاستشرافي المستقبلي، الذي لا مناص من مساره، ينبغي على أحزابنا التقدمية ومثقفينا وكل قوى المجتمع المدني الحقيقية أن تفكر في مستقبل الديمقراطية في بلدنا. وبهذا الوعي عليها أن تضع أجندتها النضالية مستوعبة أبعاد الثورة ومفاعيلها الموضوعية على مسارنا الوطني بدل التسمر في وضعية الاندهاش والإعجاب الحالية.
ما الذي أعلنت الثورة نهايته في النماذج العربية القائمة؟
أولا: إعلانها إفلاس نموذج من التنمية، ربما بلغ النموذج التونسي فيه أقصى ما كان يمكن أن يعطيه. ينبغي أن نشدد هنا على أن النموذج التونسي، الذي رفعت من شأنه المؤسسات الدولية إلى مستوى "الأسطورة"، لم يكن استثناءا فريدا في عالمنا العربي، بل هو في الحقيقة "النموذج المعيار" الذي كانت على منواله كافة البلدان العربية الأخرى بتفاوت نسبي في تحصيل نتائجه. ومن يتابع الخطابات الاقتصادية العربية الرسمية، في مفاهيمها وإجراءاتها وخططها وأهدافها ووسائلها، سيندهش لهذا التشابه الكبير بين كل تلك الخطابات وبين ما تتغنى به رسميا من منجزات ومزاعم التقدم . لكن عيوبها جميعا هي أيضا واحدة، ومنها:
-اعتمادها على بينة اقتصادية تقوم في جلها على قطاعات غير إنتاجية وغير صناعية بالتحديد. اقتصاد خدمات وسياحة وتصدير لمواد أولية فلاحية أو معدنية وصناعات فرعية تكميلية . اقتصاد مفكك ولا يلبي حاجيات السوق الداخلية ولم يعد يوفر الأمن الغذائي. وعلينا بعدها أن نتصور إنعكاس ذالك على البنية الاجتماعية وعلى الأزمة التعليمية والثقافية القائمة فيها جميعا.
*عجزها المزمن في حل المعضلات الاجتماعية وتحقيق قدر أمثل من العدالة الاجتماعية في ميادين الشغل والتفاوتات الاجتماعية والمناطقية وغيرها من أوجه التنمية البشرية ومقاربات النوع.
*تفشي الفساد بكل أنواعه في كل المجالات وفي كافة الدواليب مما أضحى يشكل عائقا رئيسا لأي مخطط تنموي، وبالنتيجة اتساع الهوة الدائمة بين الخطاب والأهداف المعلنة وبين ما يتحقق فعلا على أرض الواقع، ومما يفاقم بدوره من أزمة الحكامة البارزة في الإدارة العامة للدولة.
كانت هذه مجرد عناوين عريضة، وناقصة بالضرورة تلخص أزمة النموذج العام الذي اتبعته تونس وسارت في ركابه أيضا جل أو كل الأنظمة العربية في العقدين الأخيرين.
وأود هنا أن أضيف تعليقا سريعا على هذه الخلاصات، إذ حقا يندهش المرء ويتعجب، بعد أن كشفت الثورة كل المستور، كيف كانت تقارير المؤسسات الدولية تضع تونس في رتب متقدمة تبعث على الارتياح والاطمئنان، أليس من الفضيحة أن تزعم هذه التقارير رتبة متقدمة لتونس في ما تعتبره تصنيفا ل "جودة الحياة"، ألا تفضح هذه "الجودة" بلادة العقلية التكنوقراطية المتحكمة في هذه المؤسسات؟
وكذلك، وبعد أن تابعنا كيف سارعت كل الأنظمة إلى اتخاذ إجراءات وقتية للتخفيف من حدة الغلاء والبطالة وغيرها من المطالب المادية الشعبية، فإن الأمر يأخذنا في النهاية إلى القول، أنه ليس هناك قوانين اقتصادية حديدية ومجردة من موازين القوى الاجتماعية وعن مصالحها المتضاربة. فالذي يحدد في نهاية المطاف هذا الاختيار أو ذاك يظل تابعا لنسبة القوى الاجتماعية، إن كان على المستوى الوطني أو على مستوى الاقتصاد العالمي.
ينبغي إذا الاستحضار الدائم لهذه الخلاصة الأولية في هذا الزمن الذي شاعت واستثبت فيه عقلية "الصنمية الاقتصادية" كإيديولوجيا سائدة عالميا بقصد شل كل خلق وإبداع وتحرر إنساني.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، ليس صحيحا أن نجاح النموذج التونسي اقتصاديا هو الذي أدى إلى المطالبة بالحريات كضرورة تالية وحتمية لهذا النمو الاقتصادي الليبرالي. فعدا أن هذه الأطروحة قديمة وميكانيكية، فهي تحتوي في الحالة التونسية والعربية عموما على مغالطات فجة أكثر مما تحتويه من صحة جزئية.
إن الذي فشل بالذات هو هذا النموذج الاقتصادي التبعي الليبرالي المشوه، الهش والمختل وغير العادل اجتماعيا ومناطقيا. الفشل إذن وليس النجاح هو الذي فجر تلك الثورة المجيدة.
هذا في الشق الاقتصادي الذي تناولناه بالكثير من التعميم دون التفصيل والتدقيق، لكي ندعو اقتصاديينا المغاربة التقدميين الذين يدركون جيدا، أن نموذج التنمية الذي اخترناه إلى اليوم، يشكو هو الآخر من نفس المعضلات البنيوية التي ألمحنا إليها كمشتركات مع باقي البلدان العربية في زمن العولمة هذا... ندعوهم إلى التأمل النقدي في هذا النموذج الذي كشف عن اعتواراته الكبرى وتقديم البديل بما يفك المعضلات السابقة وينجز التنمية البشرية المأمولة، وبما يقيم الاقتصاد الوطني والمندمج الذي يتناسب وبناء مجتمع المعرفة والعدالة الاجتماعية. فالذي ينبغي الانتساه، أن العزوف الشعبي العام عن العمل السياسي، وتراخي الروابط الحزبية التقدمية مع معظم القوى الشعبية، مرده بهذا الشكل أو ذاك، إلى نوعية البرنامج الاقتصادي –الاجتماعي الذي أقيم في الواقع العملي، والذي لا ترى فيه جل الطبقات الشعبية جاذبا ومحفزا لها.
ثانيا: كما أعلنت الثورة التونسية –على المستوى السياسي- نهاية مطلقة لمرحلة من تجارب نظم سياسية عربية إما معدومة الديمقراطية وإما ديمقراطيتها مبتورة ونسبية.
لقد وضعت الثورة التونسية كل أنظمة الحكم العربية أمام التحدي الديمقراطي الراديكالي، إن صح هذا التعبير. معياره ونبضه الوحيد "الحكم للشعب" ولا أحد غير الشعب بمؤسساته المنتخبة انتخابا حرا ونزيها وعلى قاعدة المواطنة الحقة والكاملة.
أوصاف النظام التونسي الديكتاتورية معروفة ولا تحتاج منا المزيد من التوضيح، إذ يكفي القول، أنها أوصاف بلغت حدا من الغلو والقسوة والشطط، أشعر كل مواطن تونسي بالذل والمهانة والحقارة، فكانت الثورة بحق، ثورة العزة والكرامة الإنسانية، قبل وأكثر من أي داع آخر.
ما يهمنا نحن إذا هو أن نستشف مفاعيل هذه الثورة على أوضاعنا الوطنية بحكم الارتباطات التاريخية والثقافية ومفاعيل قانون "التدافع الديمقراطي" في المنطقة، ولما سيكون لهذه الثورة من نفس ديمقراطي راديكالي دافع.
لا أحد يجادل في أن التجربة الديمقراطية المغربية في العقدين الأخيرين، كانت إلى الأمس القريب، أكثر التجارب الديمقراطية العربية تقدما، وبلا منازع أو منافس إلا أن هذا الامتياز النسبي، ما عادله نفس الوقع، ولا نفس القيمة، بعد الحدث التونسي الذي بخطوة واحدة عملاقة تخطى كل الزمن البطيء واعتواراته العميقة التي ما زلنا نعاني من تخبطاتها في ما أسميناه "انتقالا ديمقراطيا". ولا حاجة لكي أنبه، أن هدف الارتقاء بالتجربة الديمقراطية المغربية استدعته شروط موضوعية وطنية قبل الثورة التونسية، وكان مثار نقاشات ومدار عزائم قبلها أيضا، إلا أن الثورة ستفرض على الجميع، دولة وأحزابا ومجتمعا مدنيا، النظر إلى الأمور وإلى الزمن بعيون أخرى، وبغير تلك التي اعتدنا النظر منها إلى تجربتنا الوطنية الخاصة.
هذه ضرورة موضوعية لا مناص منها، ولن يزيغ عنها إلا مكابر عنيد ضيق الأفق.
ولعل من أهم الدواعي التي تدعونا إلى التفكير من جديد في ما يحتاجه البناء الديمقراطي لدينا، أن نظامنا في مجموعه، مؤسسات منتخبة وحكومة وأحزاب ومنظمات مجتمع مدني ودستور ناظم لهم، لم يعد ينتج في الحصيلة دينامية مجتمعية سياسية، لم يعد يولد السياسة. وكما قال أحد الإخوة المتدخلين في المجلس الوطني للاتحاد الاشتراكي اجتماعه الأخير، إن دستور 96 قد استنفد كل إمكانياته، وما كان لبنيته المنطوقة والمتضمنة، إلا أن يفرز هذه الظاهرة من "الخواء السياسي"، أو، ما كان له أن ينتج إلا مجتمعا يعاني استلابا سياسيا فاقعا، يشل ويجمد حيويته الداخلية.
ليس المجال هنا لتحليل لماذا وصلنا إلى هذه الحصيلة المؤلمة، وهل كان بالإمكان تجنبها والإفلات منها، ومن المسؤول عن ذلك؟ إنما الأهم أن نقر ونعترف جميعا بخطورة هذه الإعاقة التي تنذر بشتى المخاطر على كافة المستويات، ومنها تضخيم كل تلك المعضلات البنيوية التي تحدثنا عنها في نموذج التنمية المتبعة.
إن نتائج "الاستلاب السياسي" الناعم ليست أقل خطورة من نتائج الكبت في الأنظمة المغلقة المستبدة. والحل بالأولى والأحرى، ليس في التعويل على أي أداة حزبية فوقية متضخمة، لم تلدها التطورات المجتمعية العضوية، وإن كان لسد الفراغ السياسي المستحدث ولو مؤقتا. فلقد علمتنا التجربة، أن هذه الحلول الترقيعية، كما تولد قيصريا بسرعة، تنطفئ وتنهار بنفس السرعة. لا مناص إذا من معالجة المشكل الديمقراطي لدينا من أساسه. ولا سيما بعد أن سرعت الثورة التونسية الزمن، وبعد أن وضعت كل الحلول الانتظارية الجزئية على هامش التاريخ.
الحل إذن في إصلاح دستوري جذري يفضي في النهاية، وبدون الحاجة هنا إلى التذكير بكل أوصاف النظام الديمقراطي، إلى تحرير المجتمع من هذا الاستلاب السياسي الذي يعاني منه، لكي يصير المجتمع هو الذي ينتج السياسة، ويضع من عنده اختياراته الكبرى بإرادته المستقلة، وهو الذي يتحاسب في ما بينه على نتائجها ويقر ديمقراطيا في مسؤولياتها.
إن ظاهرة العزوف السياسي، في ظرفية انتقالية نحن فيها في أحوج إلى المشاركة الشعبية الكثيفة، هي بالضرورة نتيجة لمنظومة سياسية تكرس آلياتها الإبقاء على المجتمع خارج السياسة. إنه "مجتمع الرعايا" أكثر منه "مجتمع المواطنة الكاملة".
مرة أخرى، إن نتائج الاستلاب السياسي الناعم ليست أقل خطورة على الدولة والمجتمع من نتائج الكبت في الأنظمة المغلقة المتشددة. ولذلك بات واضحا أننا بحاجة إلى تسريع وثيرة الإصلاحات وفي مقدمتها الارتقاء بدستورنا إلى أعلى مستويات النظام الديمقراطي. وفي هذا الأفق، نملك من عناصر التفاؤل الشيء الكثير للرصيد التوافقي الذي أنجزناه في هذا الشوط من المرحلة الانتقالية. وإذا ما استطاع المغرب أن يستثمر هذا الرصيد التوافقي، وهذه الخصوصية المغربية، فلا شك أنه سيقدم نموذجا ديمقراطيا راقيا وفريدا، أكثر ثباتا ورسوخا وأكثر فاعلية.
هناك قضية أخيرة لابد من الوقوف عندها:
لقد أعادت الثورة التونسية إلى كل الأذهان الدور المستقل الذي تضطلع به الجماهير في صناعة التاريخ. والحقيقة أن الثورة التونسية ليست في هذا المضمار استثناءا، فكل الثورات الكبرى كانت كذلك، إذ في جميع الثورات الشعبية الكبرى التي شهدها التاريخ، كانت المبادرة من صنع الجماهير، وكان اتساع وحجم مشاركتها أكبر بكثير من دور الأحزاب أو القوى السياسية التي تتبناها. لذلك سيكون من الإجحاف والتجني أن نجرد المجموعات السياسية التونسية التي كانت تراكم وتقاوم النظام الديكتاتوري طيلة ثلاثين سنة، من أي دور في صنع هذا الحدث التاريخي الكبير. فوسائل الاتصال الحديثة، والتي استعملت بكثافة في اندلاع وتنظيم الحركة الشعبية، لا تصنع بحد ذاتها ثورة، وإن ساعدت في ذلك أما الذي يصنع الثورة فهو الإنسان والتراكمات الحاصلة في وعيه وعزيمته واستعداداته. وفي كل الأحوال، فلابد لكل ثورة في النهاية أن تنتقل من العفوية العارمة إلى التنظيم والقيادة السياسية، وإلا ضاعت أهدافها وتشتت قواها في فوضوية قاتلة.
كثيرة هي القضايا التي تستحق منا وقفة تأمل في هذا الموضوع، لكن ما نود طرحه بعجالة في هذا السياق، هو، التساؤل عن وضعنا الجماهيري الشعبي المغربي الخاص.
ربما كنت من القلائل الذين ركزوا في ما يكتب على موضوعة "الدور الجماهيري المستقل" في العمل السياسي وفي صنع التقدم بوجه عام. وقناعتي الراسخة أن من يسقط من حسابه هذا الشق من الجدلية السياسية: الحزب، الدولة، القيادة، من جهة. والجماهير، المجتمع، الدور المستقل لهما من جهة ثانية، هو بالضرورة ليس ديمقراطي القناعة والفكر، ناهيك عن أن يكون أكثر من ذلك.
ولذلك، كانت الإشكالية المركزية في أزمة الإعاقة التي عانت منها طويلا التجربة الديمقراطية المغربية، في نظري وقناعتي، ليست بالأولى في اختيارات الدولة ولا في سلوكاتها القمعية لمرحلة طويلة فارطة، ولا في أخطاء وقصور الأحزاب الديمقراطية، رغم أهمية كل ذلك، بل أساسا في كل العوامل الموضوعية والذاتية، الاقتصادية والثقافية وغيرها، التي تفاعلت فيما بينها لتنتج هذه الإعاقة في نمو الكتلة الشعبية العريضة، جاعلة خطها البياني السياسي ينحو في اتجاه الانكماش والتفكك والعزوف والانحدار، بدل من أن يكون خطا متصاعدا يتناسب والتضحيات ويزداد قوة وفاعلية سياسية. ولأن هذه الإعاقة لم تكن خاصة بالمغرب، رغم أنه كان يملك، ولمرحلة، من المؤهلات الشعبية النضالية أكثر من غيره، إحتل جانب الموروث الثقافي بين البلدان العربية، موضوع المقارنة، أهمية خاصة في فهم وتفسير هذه الإعاقة. ولذلك بدا، وكأن عملية إحياء وتجديد صعود الكتلة الشعبية العريضة، سيحتاج إلى استراتيجية ثقافية تحديثية طويلة النفس.
ومن هذا المنظور بدا أيضا من الضروري توجيه كل سهام النقد الصريح والدائم إلى كل المواقف المستعارة من أوضاع اجتماعية حداثية متقدمة، تخطت بزمن بعيد وضعيتنا الانتقالية المتأخرة. وعلى رأس هذه المواقف المستعارة كل التنظيرات التي تسوغ انعزالية المثقفين عن العمل السياسي، وكل التنظيرات الاستقلالية الانعزالية الشبيهة التي تفرغ أدوات المجتمع المدني من محتواها السياسي لتجعل منها أدوات تقسيم وتجزئة وتدرير اجتماعي للكتلة الشعبية العريضة.
والسؤال اليوم في ضوء الثورة التونسية، ما هي الاستنتاجات التي يمكن الخروج بها ؟
أولا: لم يكن بمستطاع أحد أن يتنبأ بالحدث الذي يمكنه أن يفك عقدة لسان الكتلة الشعبية ويطلقها من قمقمها، لا في تونس ولا في أي مكان آخر، إلا أنه ينبغي التمييز بين الوعي والفعل السياسييين الذين قد يحملان شعارات وأهدافا متقدمة، كالحرية والديمقراطية والمواطنة الكاملة وما إلى ذلك، وبين الوعي الثقافي، أو بالأصح، نواته الصلبة إن صح هذا التعبير. ما أريد قوله باختصار: إن الوعي والفعل السياسيين قد يحسنا ويطورا ويعجلا، آنيا أو في مدى طويل نسبيا، الوعي الثقافي للكتلة الشعبية العريضة، لكنه قد لا يغير من ذلك تغييرا جذريا وفاصلا. ولنا في المرحلة الناصرية، والمد التقدمي إبانها بوجه عام، أفضل مثال بارز لهذا التداخل النسبي في هذه المعادلة. إذ بالرغم من كل التقدم الحاصل وقتذاك في الوعي العام للكتلة الشعبية العريضة، إلا أنه سرعان ما استعادت النواة الثقافية التقليدية الصلبة هيمنتها من جديد. وفي الخلاصة، تحتفظ إذا الاستراتيجية الثقافية التحديثية بكل أهميتها الفاصلة في استنهاض وتجديد الكتلة الشعبية على المدى التاريخي العميق.
ثانيا: لقد أطاحت الثورة التونسية بكل التعاريف المدرسية الشكلانية عن "الاستقلالية". فلا النقابة العمالية التي لعبت في مراحل مختلفة أدوارا طليعية، كما لعبت نفس الدور في هذه الانتفاضة (الجهويات بالخصوص)، كانت مجرد أداة "خبزية" للمصالح المادية لمنضويها، ولا المثقفون بكل أصنافهم نأوا عن الانخراط في العمل الميداني المباشر مع بقية جماهير الانتفاضة، ولا منظمات المجتمع المدني كانت خارج هذا السياق. هكذا لا يدل هذا الانخراط الواسع لكل فئات المجتمع وبكل أدواته في كتلة شعبية واحدة ومتراصة على أنه استثناء في ظرفية استثنائية، بل هو القاعدة لمجتمع ينشد الحرية ويبني الديمقراطية. إنه قانون المجتمعات الانتقالية حيث تظل فواصل "الاستقلالية" متحركة ومتداخلة.
وإذا كان من درس ينبغي استخلاصه في ساحتنا الوطنية، فالدرس سيكون أن نسعى جميعا لبناء هذه الكتلة الشعبية الموحدة والمتضامنة في جبهة مدنية عريضة تضم كل القوى ذات المصلحة في الديمقراطية والتقدم، سياسية كانت أو نقابية أو إعلامية أو مهنية أو ثقافية وغيرها، وأن نهدم كل الأصنام المفاهيمية التي تكرس التجزئة والتشتت، وتشيع العدمية السياسية في نهاية المطاف... فذاك هو طريق إعادة الثقة للجماهير في العمل السياسي، وطريق اسنتهاض وتجديد المجتمع المغربي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.