قال الباحث التونسي في تاريخ الغرب، الحسن بن الحسن إن الشباب الذي صنع ثورة تونس لم يتعرض لأي تأطير نقابي أو سياسي ولا لأي شكل من أشكال التنظيم الجماعي وهذا يدفع الأنظمة إلى مراجعات عميقة للتعويل على البوليس في ضبط التوترات الاجتماعية وعلى تدجين و تطويع مؤسسات المجتمع المدني، وأشار بن الحسن إلى أن ما حصل في تونس درس حقيقي للأنظمة العربية المفروض أن يدفعها دفعاً إلى مراجعة إستراتيجياتها الأمنية ومفهومها للأمن مراجعة جذرية وعميقة. ر زوأكد بن الحسن أنه لا يمكن إحلال التنظيم مكان المجتمع، وأن هذا الأخير في أحسن حالاته يمكن أن يكون طليعة اجتماعية ثقافية وسياسية للمجتمع نحو الإصلاح والتغيير، ولكنه لا يمكن أبداً أن يتوهم أنه يمكن أن يغير بإمكانياته وقدراته ووسائله الذاتية واقعه المجتمعي والسياسي. ما هي الثورة في الفكر الإنساني، وما أسبابها وعواملها؟ يطلق اصطلاح الثورة على التحول العميق الجذري الذي لا يكون ما بعده كما كان ما قبله، يطلق على التحول الحاسم الممتلك لقدرة القطع مع ما قبله ولقوة افتتاح حقيقي لما بعده. الثورة باستمرار تختزن قوة القطع وتستمد قسما هاما من طاقتها من هذه القوة وتمتلك أيضاً قوة الافتتاح، لذلك في التاريخ وقعت أحداث دموية كبرى ولم يطلق عليها اسم ثورات لأن مختزناتها الرمزية وقدرتها على القطع و الافتتاح كانت ضعيفة، لا نطلق اسم الثورة على الأحداث الجسام كائناً ما كان حجم هذه الأحداث وكائناً ما كانت دمويتها وكائناً ما كانت الأرواح التي تزهق فيها إذا لم تحدث شرخاً حقيقياً في الزمن لا يكون فيه ما بعدها كما كان ما قبلها. نحن نطلق اسم الثورة على الثورات السياسية ولكن نطلق هذه التسمية أيضاً على الثورات العلمية و الصناعية والمعرفية و الدينية و التأويلية الخ... ومعنى هذا أن كل حدث يمتلك هذه القوة، قوة الاختزان وقوة الافتتاح وقوة إحداث تحول حقيقي في مجرى التاريخ يمكن أن يعتبر ثورة في بابه، نتحدث عن الثورة الكوبرنيكية و عن الثورة التأويلية التي قام بها ديلتاي في اخضاع تأويل العهدين القديم و الجديد لقواعد معرفية واضحة قابلة للتحصيل و الاشاعة المعرفيين لأنها أحدثت منعرجاً في هذا الباب. لكن لا شك أن مصطلح الثورة ينطبق ويلتصق عادة بالثورات السياسية. وفي مقاربة الثورات السياسية لا نجد نظرية معرفية نهائية، كل الثورات تفتح أبوابا لامتناهية للمعرفة التاريخية و الاجتماعية و النفسية و غيرها، لكن على العموم لو أردنا أن نحدد العناصر الدلالية الداخلة في مفهوم الثورة والتي يمكن أن تساعدنا على فهم هذه الثورة أو تلك لأمكن القول بأن الثورة لا تحصل إلا في واقع ساكن طال سكونه، لا ثورة بدون وضعية سكون تاريخي طويل، سكون سياسي، سكون معرفي علمي...إلخ. وفي الحقيقة لا وجود للسكون التاريخي و ما يبدو سكونا هو اما حركة الى الخلف أو تجمع و تراكم صامت لأسباب الحركة الانفجارية الى الأمام. الثورة تحدث في الواقع الذي بدأ منذ زمن طويل يتحرك إلى الخلف، حتى يصل الانحطاط فيه إلى درجة غير محتملة، يقول الفيلسوف الألماني المعروف إيمانويل كانط إنه حين يصل الانحطاط في أمة ما درجة ليس لها ما بعدها نكون أمام أحد أمرين: إما العثور على طريق الصعود من جديد، أو الفناء والاندثار. وعادة يتخذ العثور على طريق الصعود من جديد شكل ثورة دينية علمية أو سياسية إلخ... إذن لا ثورة بدون وضعية تبدو ساكنةً لمدة طويلة، أو وضعية تراجع وتقهقر إلى الخف لمدة طويلة. وهذه أحد أسباب الثورة، أليس كذلك؟ نعم بدون أدنى شك إنها سبب رئيسي للثورة، خاصية الإنسان الكبرى هي أن الله خلقه بكينونة منفتحة، كينونة الإنسان في الحركة والمصير وكرامة الإنسان الوجودية هي باستمرار في الحركة، وتعطيل هذا المحرك الكبير للوجود الإنساني لا يعني سوى الانحطاط الوجودي الذي لا يمكن أن يستمر إلى ما نهاية، فما يبدو في ظاهره سكوناً ليس سكونا، كما قلت. يبدو لنا فيما أسميتموه بوضعية السكون التاريخي أن الشارع أو المجتمع لا يعاني من أية مشكلة مما تسميه الجمعيات والأحزاب فسادا وظلما وجورا، فهل هذا سكون بالمعنى التاريخي؟ أحد الشعراء الألمان الكبار ايكهارت يقول: السكون ليس غياباً ولكنه تجميع لعناصر الحركة، وشاعرنا أبو القاسم الشابي يقول: حذار فتحت الرماد اللهيب ومن يزرع الشوك يجني الجراح فما يبدو في ظاهره سكوناً على مسرح التاريخ وعطالةً هو في الحقيقة تجميع لعناصر الحركة وربما لخميرة الثورة، السكون يخفي باستمرار وضعية تاريخية بائسة من الظلم والتعدي على حقوق الناس والانتهاك لحرمات الناس. السكون هو باستمرار ثمرة وضعية سياسية استعبادية وضعية يهيمن فيها الخوف ويشل قوى الحركة التي في المجتمع المدني، الشيء الوحيد الذي يمكن أن يشل حركة الإنسان إلى حين ويشل حركة المجتمع هو الخوف والرعب، ليس شيئا آخر، ولذلك المستبدون عموماً ينحتون لشعوبهم وضعية يمكن أن نسميها بوضعية المهانة الوجودية و الوضاعة السياسية و السكون التاريخي كما يتوهمون، أهم خاصية لهذه الوضعية هي أن يتأله المستبد و ينحت لنفسه منزلة من لا يقبل التحدي ولا حتى الهمس مع النفس بالاعتراض عليه، وهذا يكون عبر مجموعة من التقنيات أهمها سلطة البوليس القائمة على إمكانية التعدي اللامحدود على حرمات المعارضين وانتهاك كل أحزمة الأمان الأدبية والأخلاقية التي سيجت بها الثقافة الإنسان. المستبد ينحت لشعبه وضعية يمكن أن نصفها بوضعية المهانة، وهذه الوضعية تصنع أيضاً عبر تقنية أخرى هي تقنية استخفاف العقول و ازدراء وعي العامة بتصوير أبشع وجوه التخلف الاجتماعي والسياسي على أنها تقدم والدكتاتورية على أنها دفاع عن المجتمع وعن حقوق الإنسان....إلخ. والتقنية الثالثة التي يستخدمها المستبد لنحت وضعية المهانة التاريخية لشعبه هي ما يمكن أن نسميه بتأليه الفرد أي رفعه فوق المحاسبة الشعبية وفوق المساءلة التاريخية وتحويله إلى صنم ووثن أصم تجاه أي نصح أو أي احتجاج، بحيث يبث ولا يستقبل، هو جهاز بث ولكنه ليس جهاز استقبال، التأليه و احاطته بحاشية المتملقين و الوصوليين و الانتهازيين يعطل فيه كل منافذ الاستقبال. هذه هي اذن الوضعية التي ينسجها الاستبداد و التي يمكن أن نسميها بوضعية المهانة التاريخية. و داخل وضع كهذا يقوم على استخفاف العقول وعلى تأليه الفرد وعلى الانتهاك الشامل للحرمات لا بد أن تتشكل خميرة الرفض الذي قد يصل حد الثورة، ، فتتولد مشاعر النقمة والغضب ويتفاقم التوتر بين الواقع والواجب ، وبقدر ما تنسد مسالك تصريف هذا التوتر وبقدر ما تنسد منافذ الحلم والتطلع إلى المستقبل، بقدر ما يؤدي هذا إلى ما يمكن أن نسميه بالوضعية الثورية. الثورة التونسية كانت ثورة مفاجأة، كيف نفهم هذه الخاصية المفاجئة للثورة؟ ابتداء كل الثورات كانت مفاجئة لا الثورة التونسية فحسب، الثورة تبدو لأول وهلة حدثاً متلفعاً بالغموض، لا يمكن توقعه ولا فهمه، الثورة حدث كبير يفاجئ عادة كل التحليلات ويظهر أننا لا نعرف ما كنا نظن أننا نعرف، مرجع هذه الضبابية الرئيسي للثورات هو ما يمكن أن نسميه بفقدان الدوال المعرفية أو المؤشرات المعرفية التي يمكن أن تمكننا من فهم ما يحصل في نفوس الناس. الاستبداد لا يقوم ولا يستمر إلا عن طريق صنع وضعية سيكولوجية شعبية وعامة تتسم بالخوف وبالترهيب من المعارضة ومن الاقتراب من الشأن السياسي. وهذا على المستوى السيكولوجي النفسي يخلق ما يمكن أن نسميه بحاجز القمع والكبت، هذا الحاجز النفسي الكبير الذي يمنع الناس حتى من مجرد التفكير في المعارضة أو الجهر بما يمكن أن يعتمل في نفوسهم هو حجاب معرفي حقيقي يمنع من رؤية ما يعتمل في نفوس الناس وما يتراكم ويختزن تحته ويحول بيننا وبين أي إمكانية فعلية للوصول عن طريق دوال معرفية محددة وعلمية إلى ما يعتمل وراءه . لذلك فان معرفة الثورات تتم باستمرار بما يمكن أن نسميه بأثر بعدي، بمعنى أن الثورة تعرف بعد أن تقع، وتبدأ معرفتها ويبدأ البحث عن العوامل وعن أسبابها القريبة والبعيدة... ومع ذلك أقول إن الثورة ليست حدثاً متلفعاً بالغموض مائة بالمائة، بل إن هناك دوالا معرفية يمكن أن تقربنا من فهم ما يجري خلف ما أسميناه بحاجز القمع و الخوف ، من هذه الدوال يمكن أن نذكر خطوط المنع والقمع السياسي التي يتحول الكلام عندها إلى همس للضمير ومونولوج داخلي ، و هذه الخطوط حواجز ترسم حدود المحرم السياسي الذي تتمرتس خلفه قوى اجتماعية متنفذة. حدود المنع السياسي تتحول إلى حاجز نفسي للقمع والكبت تتجمع تحته كل الطاقة المتولدة من انغلاق منافذ الإفصاح والتعبير والأمل وانسداد قنوات التعبير عن توترات الشرعية السياسية، و للتوضيح نقول ان شرعية الأنظمة السياسية منقوصة باستمرار و ليس هناك نظام في التاريخ شرعيته كاملة والفرق بين الديمقراطيات وغيرها هو أن الديمقراطية تسمح بظهور توترات الشرعية في مجال الرؤية عن طريق اقرار حقوق الاحتجاج و ارساء آليات التفاوض الاجتماعي في حين لا تسمح الأنظمة القمعية بظهورها، وهذا يخلق هذا الحاجز، وبقدر ما تصبح هذه الخطوط أكثر صلابة وأكثر اتساعاً بقدر ما يكون ما يعتمل وما يختزن تحت حاجز القمع والكبت أكثف وشحنته الانفجارية أكبر. ومن الدوال المعرفية التي يمكن أن تساعدنا على فهم وجود خميرة ثورية في مجتمع ما، يمكن أن نذكر أيضاً درجة تركيز الفساد المالي والسياسي والإداري وتكثيفه الاجتماعي ودرجة ظهوره للعيان، وهو ما يساعد الطاقة النفسية أو طاقة الغضب في التصويب نحو وجهة محددة وصحيحة. الدوال المعرفية موجودة اذن و لكن تتطلب قدرة على الاصغاء و النفاذ المعرفي الى الطبقات النفسية المعتمة ، ولكن هذا لا يمنع أننا عادة ما نفهم الثورات بأثر بعدي ولا نتوقعها قبل وقوعها. نريد أن نعرف هل الثورات عموما شعبية أم نخبوية؟ هل هي صنيعة النخبة أم الشعب؟ الثورة هي ثمرة التبادل بين النخبة والشعب وإلا فليست ثورة. ثورة شعبية صرفة فقيرة ثقافيا هي مجرد حركة احتجاج اجتماعي وتنفيس للاحتقان والغضب، أي ليست ثورة. إذا لم يكن للحراك الشعبي الكبير مختزنات رمزية وقدرة تحويلية وافتتاحية حقيقية لا يسمى ثورة، وهذا لا يكون إلا إذا كان هناك تبادل حقيقي بين النخبة وبين الشعب، أو بين ما يمكن أن نسميه بالأفكار العالمة والحساسية العامة، وعادة هذا التبادل يتم عن طريق مجموعة الوسائط الرمزية التي تبسط الفكرة و تجعلها قابلة للاشاعة كالخطابة و الأدب و الشعر و الغناء و المسرح و عبر وسائط تواصلية مادية توصل الفكرة الى الناس فعلا كالصحف و الكتب و المنتديات و الصالونات الفكرية و المسارح و الأشرطة و الأقراص المدمجة و الأنترنت و الفضائيات الخ... في الثورة الفرنسية كانت هناك قنوات ووسائط لانتقال الأفكار الثورية و رواجها و اليوم هناك وسائط أخرى أسرع و أبلغ و أنفذ بما لا يقاس. وليس هناك ثورة من الثورات في التاريخ إلا وفيها هذا التبادل، هذا التبادل هو شرط تشكل ما يمكن أن نسميه بسيكولوجية التغييرو شرط تحول التناقضات الموجودة في المجتمع إلى باطن الوعي وتحول الظلم الاجتماعي إلى طاقة للرفض و ارادة للقطع والتطلع إلى المستقبل، هذا التبادل شرط أيضاً لفتح أفق لحالة الاحتقان عن طريق رسم أنموذج متخيل بديل للاجتماع السياسي. من قاد الشارع التونسي أو الثورة التونسية، الشباب العاطل أم الشباب المثقف؟ في تونس الشباب العاطل متعلم في أغلبه. شعب تونس كما هو معروف هو أكثر الشعوب العربية والافريقية تمدرسا، وهذا بدون أدنى شك كان ثمرة سياسات انتهجت منذ الاستقلال على يد بورقيبة ثم واصلها خلفه، ومن الطبيعي أن يؤدي انتشار التعليم الحديث الى رفع سقف التطلع و المطالب الاجتماعية ، فاذا وافق ذلك انسدادا للآفاق و تحولا مافيويا في طبيعة الدولة أصبح أرضا خصبة لخميرة الثورة ، يمكننا هنا أن نقول بأن السحر انقلب على الساحر. الشباب الذي قاد الثورة ونزل إلى الشارع شباب متعلم ويعرف ماذا يريد، والدليل على ذلك أن الثوار لم يخضعوا للتنازلات التي قدمها بن علي وأسقطوه، ثم فيما بعد لم يخضعوا لما قدمته الحكومة الجديدة لأنهم يعرفون أن أرجل الطاولة السياسية ما زالت كما هي لم تتغير تغيراً جوهرياً، وهم مصرون إلى الآن على استكمال ثورتهم حتى بلوغها أهدافها، و كلما أسقطوا حجراً من البنيان السياسي الفاسد الذي ثاروا عليه، تقدموا نحو حجر آخر، وهذا مستوى من الوعي مبهر. لا شك أن الحديث كله يدور حول مسألة الاستئصال ولا شك أن الإمعان في القمع أدى إلى الثورة، فهل الاستئصال خطر أم أنه فرصة لتراكم أسباب الرفض و للتغيير بالنسبة للمجتمع؟ يقول الكاتب السياسي المعروف توكفيل إنه لو حصل أن حكم فرنسا مستبد مستنير قبل عشرين سنة من وقوع الثورة الفرنسية لما حصلت الثورة. لا شك أن انسداد كل منافذ الأمل والحركة والتطلع يؤدي إلى وضعية انفجارية. إن ما حصل في تونس درس حقيقي للأنظمة العربية المفروض أن يدفعها دفعاً إلى مراجعة إستراتيجياتها الأمنية ومفهومها للأمن مراجعة جذرية وعميقة. إن الثورة وقعت في تونس في بلد كل مؤسسات مجتمعه المدني مدمرة، والشباب الذي صنع الثورة التونسية شباب ولد إما بعد حكم بن علي أو قبله بسنوات معدودة بمعنى أنه عندما حكم بن علي كان الشباب الذي صنع هذه الثورة إما لم يولد بعد أو أن عمره لم يتجاوز العشر سنوات في أقصى الحالات، هذا الشباب لم يتعرض لا لتأطير نقابي ولا سياسي ولا حزبي ولا لأي شكل من أشكال التنظيم الجماعي، ولكن تكوينه الحضاري وروحه الحضارية ومستوى تمدرسه وتعلمه جعله يلتقط بسرعة عجيبة وغريبة الإمكانات التي يتيحها العصر للتواصل وللمبادرة الاجتماعية، هل تعرف أنه يوجد أكثر من مليوني شاب تونسي على الفيسبوك في بلد لا يتعدى عدد سكانه عشرة ملايين؟ خُمُس الشعب التونسي على الفيسبوك. الشباب الذي قام بالثورة لم يتعرض لأي شكل من أشكال التأطير، وهذا يدفع إلى مراجعات عميقة للتعويل على البوليس في ضبط التوترات الاجتماعية و على تدجين و تطويع مؤسسات المجتمع المدني. ان كل ذلك لا يحول اليوم في عصر الثورة الإعلامية والمعلوماتية الشاملة، دون قيام ثورات تاريخية كبرى وعاصفة. و الأنظمة العربية اليوم بالنسبة حصل في تونس أصناف، هناك أنظمة لها قدرة تزيد و تنقص على التكيف، وهناك أنظمة قدرتها على التكيف تكاد تكون صفراً، هناك أنظمة لها عمود فقري مرن وقادرة على الاستماع والإنصات ولها حاسة استقبال مفتوحة إلى حد ما، وهذه الأنظمة قد تتطور تطوراً حقيقياً وتفتح منافذ وأبواب حقيقية لا وهمية للإصلاح السياسي الاجتماعي ، وهي إن فعلت هذا تضمن استمراريتها واستمرار شكل الحكم. أما الأنظمة التي حاسة الاستقبال السياسي عندها معطلة تعطلا شبه كامل فقدرتها على التكيف صفر، وهذه الأنظمة وصلت إلى مستوى البلطجة السياسية الوقحة كمصر، وهذه الأنظمة بدون أدنى شك هي الأكثر عرضة لاستقبال الهزات الارتدادية لما حدث في تونس. هناك أيضا جانب آخر هام وحاسم في هذا الباب وهو منسوب الشرعية لدى الأنظمة العربية فهو ليس واحداً، نعرف أن شرعية النظم السياسية شرعيات: هنالك الشرعية الديمقراطية أي شرعية صناديق الاقتراع، وهذه جل الأنظمة العربية لا تمتلكها امتلاكاً حقيقياً، وهناك الشرعية التاريخية بمعنى أن هناك أنظمة هي امتداد لعائلات حكمت على مدى قرون، وهذه وشائجها الوجدانية والنفسية أقوى مع شعوبها من وشائج الأنظمة التي لا تمتلك هذا التجذر التاريخي. وأخيرا هناك شرعية الأداء والإنجاز و ما حققته هذه النخبة الحاكمة أو تلك لشعبها وهي شرعية حاسمة و لا شك أن هناك علاقة سببية بين الشرعيتين الديمقراطية و الانجازية، والنظام السياسي يكون أقدر على الاستمرار كلما ازداد نصيبه من الشرعية. ماذا يجب أن يستخلص الحكام والمسؤولون من الثورة التونسية؟ بالنسبة للدروس التي يمكن أن تستخلصها الأنظمة العربية من كل هذا هي أولاً: أن دولة البوليس أي دولة الانتهاك الشامل لحرمات المعارضين والتعويل على الآليات البوليسية تعويلاً كاملاً لضبط توترات الشرعية و توترات الشارع، هذه الدولة أو هذا النموذج بصدد الأفول والزوال ولا يمكن التعويل عليه بالنسبة للأنظمة في المستقبل، وهذا درس كبير جداً. وثانيا إن ما وقع في تونس هو أن الديمقراطية الديكورية الموجودة في عدة دول عربية أفضل من غيرها كانت قبل الثورة التونسية مطمحاً للتغيير في دول فيها انسداد سياسي كامل و أما بعد هذه الثورة فقد ارتفع السقف الوجداني للمطالب السياسية العربية عاليا . و المقصود بالديمقراطية الديكورية سكون الجوهر السياسي رغم حركة السطح ، في الديمقراطيات الديكورية هناك أحزاب و حرية للصحافة و هيئات للمجتمع المدني و معارضين في الحكم غير ان جوهر المشهد السياسي و عمقه ساكن لأن الحكم يتم من وراء ستار، و بدون تأثير فعلي لكل ذلك. أظن أن هذا النوع من الديمقراطية اليوم يشهد نهايته عن طريق الثورة التونسية التي رفعت سقف تطلع الشعوب عالياً، ولذلك فالدول التي فيها ديمقراطية جزئية أو ديمقراطية ديكورية عليها القيام بمراجعات حقيقية. الدرس الثالث هو النهاية الحاسمة والكاسحة والتدمير الرمزي الثقافي والمعنوي و المادي لنموذج الحزب الواحد و لعقلية ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد و لعبادة الزعيم والفرد، هذه بعض الدروس الكبرى التي ينبغي أن يستخلصها من لا تزال حاسة الاستقبال لديه حية. طبعاً بالنسبة للمستقبل نحن لا يمكن أن نتنبأ بالصورة التي يمكن أن يتخذها التغيير في العالم العربي عموماً، ولكن ما يمكن قوله هو إن التغيير قادم بسرعات متفاوتة لا محالة في كل الدول العربية، لكن التاريخ يعلمنا ممارسة الحذر المعرفي فالتغيير يمكن أن يكون من داخل النخب الحاكمة نفسها، ويمكن أن يكون عن طريق حاكم مستنير، فهو لا يخضع لشكل وصورة نمطية واحدة، لكن التركيبة الكيماوية للزمن السياسي العربي الآن هي تركيبة انفجارية. ماذا يمكن أن يستفيد الإسلاميون والعلمانيون والحزبيون عموما من هذه الثورة؟ بالنسبة للحركات التي تحمل هم الإصلاح والتغيير سواء كانت إسلامية أو غيرها يمكن استخلاص الدروس الآتية من التجربة التونسية: أولاً أن التغيير التاريخي الحاسم والكبير هو مسألة المجتمع لا مسألة تنظيم، لا يمكن لتنظيم من التنظيمات مهما كانت قوته أن يتوهم أنه يمكن أن يحل محل المجتمع، لا يمكن إحلال التنظيم مكان المجتمع كما يقول الدكتور محمد جاسم سلطان، التنظيم في أحسن حالاته يمكن أن يكون طليعة اجتماعية ثقافية وسياسية للمجتمع، ولكن لا يمكن أبداً أن يتوهم أنه يمكن أن يغير بإمكانياته وقدراته ووسائله الذاتية. كل من توهم التغيير في العالم العربي عن طريق التنظيمات فشل، واليوم يرتسم أفق جديد حقيقي للتغيير، في تونس الآن النخب السياسية تتبع الشارع وليس العكس، تظن النخبة أن حركة الشارع ستتوقف مطلبياً في لحظة معينة فتفاجأ بأن الشارع يتقدم نحو مطالب أعقد وأكبر ، فالشارع قد غير أرجل الطاولة السياسية فعلاً، وهذا أمر هام وحاسم لكل الحركات التي تتطلع للتغيير. الدرس الثاني هو ضرورة اتفاق كل القوى السياسية وقوى المجتمع المدني في بلد ما على أرضية مشتركة للتغيير الاجتماعي، وهذه الأرضية لا يمكن أن تكون إلا أرضية الحريات وبناء نموذج دولة القانون والحريات العامة، التغيير الآن ينبغي أن يتجه نحو هوية سياسية للدولة لا هوية أيديولوجية، ونحو تشكيل سياسي لا ايديولوجي أو أساسي للحقل العام، التشكيل السياسي للحقل العام يعني أن كل فكرة في المجتمع لها الحق في أن تطرح نفسها في الحقل العام شريطة توفر شرط واحد فيها وهو ألا تكون فكرة فتنوية أي أن لا تنذر بتمزيق مجتمعها أو بجره الى وضعية التحارب وأن لا تكون فكرة مناقضة للديمقراطية ، إذا لم تكن فكرة فتنوية مناقضة للديمقراطية فيمكن أن تطرح في الحقل العام كائناً ما كان مضمونها، فالحقل العام يتحدد تحديدا سياسيا لا أساسيا. من أسباب نجاح الثورة التونسية هو أن المجتمع المدني في تونس منذ نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات انتظم كله حول فكرة مركزية وأساسية واحدة وهي دولة القانون والحريات، وهذا ما جعل حركة الثورة والجماهير تتجه نحو هدف واضح ومحدد، فالحركة الإسلامية في تونس لم ترفع شعار تطبيق الشريعة، واليساريون لم يطرحوا شعار دولة دكتاتورية البروليتاريا، الجميع انتظم حول مطلب واحد وهو بناء دولة تخضع فيها السلطة للقانون وتضمن الحريات الأساسية للمواطن، الانتظام حول مطلب يتعلق بالهوية السياسية للدولة، لا بهويتها الأيديولوجية والمعرفية، وهذا الارث الرمزي في المجتمع التونسي هو الذي جعل دقة التصويب في هذه الثورة عالية جداً، وجعل الطاقة النفسية لا تتشتت.