هوية بريس – أعدها للنشر: أحمد الجبلي في الثاني من شهر مارس 2017، نظمت دار الحديث الحسنية ندوة علمية في موضوع النوازل الفقهية عند المالكية تأصيلا وتطبيقا، شارك فيها ثلة من العلماء والخبراء في المذهب المالكي، وما ميز هذه الندوة محاضرة العلامة الدكتور مصطفى بن حمزة، حيث حضيت باهتمام كبير سواء من طرف الحضور الذي كان حضورا نوعيا حيث جمع أهل العلم والتخصص، أو من طرف وسائل الإعلام التي تناقلت شذرات ومقتطفات من هذه المداخلة المتميزة، ونحن إذ نقدم على نشرها كاملة إنما نبتغي بذلك وضعها مكتوبة تيسيرا على الطلبة والباحثين والمهتمين. فكانت مداخل العلامة كما يلي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين – فضيلة الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى. – فضيلة مدير دار الحديث الحسنية. – فضيلة رئيس اللجنة المنظمة. – السادة العلماء والعالمات. – أيها الحضور ذكورا وإناثا. إن هذا اللقاء يستوجب شكر الله تعالى على ما من به من الالتقاء على محور له مساس بالحياة الاجتماعية، وبالحياة الدينية، وهو لقاء يتم مع ثلة من العلماء تحمل مسؤولية الكلمة، وتضبط الأفكار على نحو شرعي يسد الخلل ويزيل كثيرا من أنواع الغبش الذي يلف بعض الأفكار. وأهنئ هذه المؤسسة على اختيارها هذا الموضوع ذا الحساسية البالغة، لأن العديد من الناس ينظر إليه على أنه مجرد موضوع تراثي يتحدث عن فقه قديم، وقد يسمونه فقها متكلسا ماضيا ضاربا في القدم، وفي هذه الحالة قد يسالم بعض الناس هذا الفقه ولا يتحدثون عنه كثيرا. ولكن، حينما يتعلق الأمر بالنوازل فالأمر يختلف، فالنوازل هي عبارة عن إطلالة الفقه على المجتمع من خلال الأجوبة الآنية الراصدة لحركة المجتمع، إن النوازل أوفقه النوازل ليس فقها عاديا، إنما هو فقه متجدد حاضر، ضابط يضبط حركة المجتمع. ولهذا قد نفهم لماذا يتبرم البعض أو يتضايق من الفتاوي، ويحاصرها ويلاحقها. في حين أنه لا يفعل ذلك مع الكتاب الفقهي القديم لأنه يعتبره فقها هو في ذمة التاريخ. ولهذا أيضا نفهم لماذا كان بعض الناس بمن فيهم بعض المتدينين يتندرون على برامج الإفتاء وركن المفتي، حين كان موجودا، وكان في بعض المرات يتخذ ملهاة، يفعل ذلك الناس عن قصد وعن غير قصد، ولكن كان الذين يدفعون في هذا الاتجاه يعرفون أن هنالك مجتمعا، الآن هو موجود وله عنوان جديد يجب أن ينفصل فيه عن تأثير الشريعة الإسلامية، وبالتالي فإن فقه النوازل والفتاوى تبقي الشريعة حية نابضة وضابطة لحركة المجتمع. لذلك حينما اخترت هذا الموضوع الذي هو موضوع النوازل أردت أن أعالجه بفكر النوازل أيضا. لأعالج من خلال هذا الكلمة نازلة أيضا من النوازل الثقافية المعرفية التي تروج. فنحن لا يمكننا أن نتحدث دائما عن شيء وقع في التاريخ فلذلك مجاله ولكن الذي نعايشه الآن ونسمعه ونغدو عليه ونروح هو دعاوى أخرى تتحدث عن شرعية الفتوى أصلا وعن أهمية الفتوى وجدواها في مجتمع مدني. أصبح الناس يستمدون من غير الأحكام التي تسمى أحكام الشريعة الإسلامية فهنا تيار موجود، ما كنت لأتحدث في هذا الموضوع لو أن الحديث فيه كان حديثا عابرا. ولو لم يكن حديثا معادا ومكرورا، لو لم يكن هذا الحديث يتهيأ لأن يصير فيما بعد أطروحة مجتمعية. فحديثنا نحن عن الفتوى وعن النوازل هو حديث نعود به إلى مصادره ومراجعه أي إلى المعرفة، والحقول المعرفية التي ينتمي إليها. لكن الحديث الآن هو شأن آخر إنه نقاش مجتمعي، وبما أننا نستلهم من فكرة النوازل جدتها ومواكبتها فيجب أن نتحدث عن الجديد أكثر مما نتحدث عما هو قديم حتى لا نغلب على هذا الجديد ويطغى علينا ونجد أنفسنا نعيش خارج التاريخ. قرأت في مدة ليست بالبعيدة وقرأ كثير منكم هذا حديثا غريبا، يقول فيه صاحبه، وأنا لا أريد أن أرد وليس من شأني أن أرد وإنما أحسب هذا عبارة عن معالجة وحوار. والحوار لا يضيق به أو يتبرم منه إلا من ليس له استعداد للدفاع عن أفكاره، يقول: لأن هذه الفتوى هي أصلا لا سند لها أبدا، وأن الفقهاء والمفتين هم بدعة طرأت على المجتمع المسلم. وإن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم يكن مفتيا بل إن الله نهاه عن الفتوى بموجب قوله تعالى: (ويستفتونك في الكلالة قل الله يفتيكم) بمعنى أن الله تعالى هو الذي يفتي وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن الفتوى. هذا كلام ثقيل يمس تاريخنا والفتوى وشرعيتها ومصداقيتها، وحينما ينتشر هذا الكلام ويتغلغل ويأخذ مكانه لا يكون من المفيد أن نتحدث عن صفة الفتوى والمفتي، لأن الفتوى تكون قد نسفت من الأصل فأقول: نحن الآن نحاور أناسا مثقفين ونطالبهم ويطالبوننا وهذا من حقهم، ولكن يجب أن نلتزم بمنهج معين في الحوار والنقاش، هذا المنهج هو أساس احترام الحقيقة، إن الإنسان عندما يعتدي ويتجاوز الحقيقة لا يكون كلامه مصنفا على أساس أنه كلام علمي، نحن نستطيع أن نسترشد ونجلب من تاريخنا وثقافتنا ومن نصوصنا الشيء الكثير، ولكن أن يدعو الإنسان بهذه الدعوى فلا بد أن نطالبه بأدلة حقيقية كي نصغي إليه، فلابد من ذلك، وهذا شيء لا يضار به أحد. فأقول: إذن الحديث عندنا عن شرعية الفتوى وتأصيلها وتأصيل وجودها هو جزء مما هو مبرمج في هذه الندوة، وعن حقيقة كون الفتوى تمت في تاريخ المسلمين و على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن تلاهم من العلماء. ثم أتحدث أيضا عن نقطة أخرى تضاف في هذا المجال وهي قيمة فتوى المفتي. وهذه أشياء الآن تذكر في كل المنتديات التي تؤمن بهذا المشروع. إن طلب المسلم للفتوى ليس أمرا اختياريا، بل هو أمر له دواعيه من النصوص الثابتة في الكتاب والسنة، وهنا لا بد أن نضع خطا وهو نحن نتحدث عن أمة تؤمن بمرجعية القرآن والسنة أما إذا لم نحسم هذا فلا يمكن النقاش إلا بعد تحرير مكان النزاع. إذن النصوص من القرآن والنصوص من السنة ومن إجماع العلماء كلها تتجه هذا المتجه. القرآن الكريم أحال على الفتوى ودعا المسلمين والمؤمنين إلى أن يسألوا أهل العلم، وكان القرآن دائما يرشد إلى وجوب أخذ المعرفة من أهل الخبرة بما في ذلك العلم بالله، (الرحمان فاسأل به خبيرا) وفي كل النصوص الشرعية القرآنية نجد دعوة القرآن المؤمنين إلى أن يعودوا إلى أهل العلم، ولو أن هؤلاء أعادوه، في سياق آخر، إلى الرسول وإلى أولي العلم لعلمه الذين يستنبطونه منهم. إن هذا منهج إسلامي في أن الإنسان لا يفتات على الله، وإنما يعود إلى أهل العلم إن لم يكن عالما، في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أيضا نصوص مثل هذا، وحينما جاءه أناس يتحدثون إليه عن رجل اغتسل من الجنابة وكان برأسه جرح ثم اغتسل بناء على مشورة بعض الناس فمات، قال النبي صلى الله عليه وسلم (قتلوه قتلهم الله) إنما كان شفاء العي السؤال. أي كان يدعوهم إلى أن يسألوا، وكان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم بالإضافة إلى أنه كان المفتي الأكبر، كان الناس في حالات مستعجلة يستفتي بعضهم من بعض، ويخبر بذلك الصحابي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول إن أهل العلم أخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام. فكان الناس يستفتي بعضهم من بعض في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكان عليه السلام يبارك هذه العملية، ويدعو الناس إلى أن يستفتوا، وهذا أم سند ثان، وسند ثالث هو أن الأمة الإسلامية تقرر في منهجها وفي دينها أنه لا يجوز لامرئ أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، والقرافي يذكر أن الشافعي ذكر الإجماع على هذا، كما ذهب إلى هذا غير واحد من العلماء. وسند هذا من السنة ما بوب عليه البخاري ما أسماه باب العلم قبل القول والعمل، إذن الاستعلام والاستخبار وأخذ الفتوى من الآخرين هو أصل في الشريعة الإسلامية في التصرف في الجانب الديني. ثم هناك أصل آخر في هذا المجال وهو أن العلم هو أول المطلوبات والواجبات الشرعية قطعا، أنتم تعلمون أن الأشاعرة، خصوصا، يقولون إن أول ما يكلف به العبد هو العلم، ويذكر هذا ابن عاشر بقوله أول واجب على من كلف ممكنا بالنظر أن يعرف، إذن المعرفة هي الواجب الأول، ونحن نشرف في ديننا عندما نقول للناس أن أول فريضة في ديننا هي العلم، فالذي يريد أن يمضي على سنة سليمة ومنهج سليم يتعين عليه أن يعلم. أن يستفتي لأن الناس ليسوا كلهم يعلمون وحتى الذين هم متفرغون للعلم لا يعلمون كل الأشياء. هذا جانب من السؤال أجبت عنه. والجانب الثاني وهو ذهاب هؤلاء إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مفتيا بل إنه نهي عن ذلك. وأعود إلى الأصل الذي ذكرت أننا نحتكم إلى الحقيقة العلمية، فمن أين يستقي إنسان بأن قول الله تعالى (يستفتونك في الكلالة قل الله يفتيكم) فيها نهي، فكيف دلت هذه الآية على النهي؟ هل دلت عليه دلالة تضمن؟ أو مطابقة؟ أو التزام؟ لا تدل على هذا من حيث اللغة أبدا. أي أن تقفز من كلمة لتنتهي إلى حكم لا صلة له به فهذا نوع من العبث. ونحن نريد حتى عندما نختلف أن تبقى الحقيقة ، على الأقل، محترمة. نقول إن النهي في شريعتنا ليس كلاما يقال هكذا، بل له أصول وأدلة وأساليب النهي محررة ومعروفة في الشريعة الإسلامية، فيها لا تفعل، فيها ترتيب العقوبة، فيها الأمر بالترك: وذروا، (وذروا ظاهر الاثم وباطنه) إذن عندنا باب معروف في أصول الفقه يقيد كل النصوص التي يستفاد منها من حيث العربية التي اعتمدها القرآن واعتمدها المسلمون ليستفاد منها النهي. فأين توجد هذه القرائن في قوله تعالى (يستفتونك في الكلالة قل الله يفتيكم) ليخلص منها إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهي عن الفتوى. وإن الفتوى لم تظهر عند المسلمين إلا في زمن العباسيين ولست أدري لماذا زمن العباسيين؟ ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم له واقع عملي معروف وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان مفتيا لهذه الأمة، وفتاواه هي أكبر من أن تغطى أو تحجم. فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتي والناس كانوا يستفتون، بل إن الناس في بعض المرات كانوا يبالغون في الاستفتاء وكان عليه السلام يفتي في داره، وفي أحكام الحج كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس ويأتي الرجل فيسأل ويقول فعلت كذا وكذا فيقول له افعل ولا حرج، ويسأل آخر فيقول له: افعل ولا حرج، وهذا في موكب واحد وهو موكب الحج، ثم كان الناس في مجالسه يكثرون عليه من الأسئلة حتى أن الله تعالى قال (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) إذا كان الله تعالى ينهاهم عن أن يسألوا إذن كانوا يسألون والرسول صلى الله عليه وسلم يجيب. ويقول عليه السلام إن هناك أناسا بكثرة أسئلتهم عن أشياء قد تحرم وقد كانت مباحة، وإن من أشد الناس عذابا رجلا سأل عن شيء كان حلالا فحرم لأجل مسألته. إذن السؤال في عهده صلى الله عليه وسلم كان واضحا جليا وهذه شواهد لمن كان لا يعرف ذلك. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في حالات وكان الوحي يقره أو يسدده وكان الأمر دائما على هذا النحو، إن فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم ليست غائبة عن مصادرنا بل هي موجودة في كتب الحديث، وقد جمعها بعضهم في كتب مستقلة من ذلك فتاوى إمام المفتين، وحينما تقرؤون في إعلام الموقعين في الفصل الأخير منه تجدون أن ابن القيم قد خصه بالفتاوى التي أفتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي شيء كثير، أي حوالي 110 من الصفحات كلها حول فتاوى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمرن أصحابه على الإفتاء في حياته، فكان الصحابة يفتون في محضره ليتدربوا على ذلك. والمفتون من الصحابة معروفون، تقصى الناس أخبارهم وهي موجودة في الكتب والمثبت مقدم على النافي، وحينما تعودون إلى كتاب أريد أن أشير إليه وهو الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي للحجوي في جزئه الأول ستجدون عدد الصحابة الذين ذهب معهم بعيدا وتقصى العدد الأول إلى أن وصل إلى 114 صحابيا ثم قال الحجوي في نهاية هذا الفصل: إن كل الذين أوكل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم مهمات كانوا يفتون، ومن كان قاضيا لا بد أن يكون مفتيا، ومن كان يتولى إمارة من الإمارات لا بد أن يكون مفتيا، لأن الخصومات كانت تقع فترفع إلى القاضي وقد ترفع إلى العالم فتصبح فتوى. إذن فهذا الأمر كفينا فيه بما قدمته هذه المصادر، وهذا جانب أرجو أن أكون قد أوضحته. ثم أقول: هناك كلمة الآن يتداولها الناس، وفي بعض المرات تحدث للناس ارتباكا وهي أن العلماء يقولون: إن المفتي موقع عن الله، وبعض الناس لا يقبل بهذا، أي ليس موقعا عن الله، لماذا؟ فمن ناحية كونه رأيا شخصيا يمكن قبوله، لكن من الناحية العلمية هو هكذا. فالشاطبي يتحدث عن هذا، ويتحدث ابن القيم عن هذا ويقول إن المفتي كالنبي في قومه، فالمفتي كاشف عن حكم الله، لأن حكم الله هو في القرآن وفي السنة، وإن لم يكن هناك من يكشفه للناس ويبينه لهم فإنه حينئذ سيكون إما متروكا وإما أن يتناوله جميع الناس. وأنا أذكر هنا، بالمناسبة، أننا في كثير من المرات حينما تثور بعض دعوات العنف والإرهاب، فأقول: إن من أسباب الإرهاب وفشوه وانتشاره تسيب الفتوى. فمن أزال العلماء عن الفتوى فقد فتحها أمام جميع الناس، لأن الناس لن ينتظروا والطبيعة ترفض الفراغ. فإما أن يفتي عالم يتحمل مسؤوليته ويعرض علمه، وإما أن تسمعوا هذه الأشياء التي سمعتموها والتي أحرجتنا أمام بعض الأمم. فتاوى لا خطام لها ولا زمام ولا تستند إلى سند شرعي، وذهبت بعيدا حتى تورطت في الدماء. إن كل ما ترونه في العالم الإسلامي إنما ينتج عن فتاوى غير محررة، فتاوى لم يفتيها العلماء، ومن شاء منكم أن يقرأ شيئا أنا دائما أحيل إلى كتب المراجعات التي تمت في مصر وفيها فتاوى اقرؤوها إن شئتم، وكيف وصل الناس إلى تلك النتائج وكيف أقنعوا بها الشباب. وما دمنا لم نتوغل في هذه الأسس الثقافية للفكر الذي يتبنى الإرهاب فسوف نعالجه دائما إما معالجات أمنية وإما سطحية. إن الفتوى تحفظ للأمة سلامتها وأمنها، وإزاحة العلماء عنها تعريض للأمة للمجهول، فتح لباب خطير. فلماذا كان الناس يقولون: لا يفتى ومالك في المدينة، فهل هو تحجير أم استبداد؟ لا أبدا بل هو خوف من أن تتشعب الأمور، فأنتم تقرؤون في تراجم بعض العلماء حيث يقال لابن القاسم: إنه كان له رد على مالك في عشرين مسألة مما كتب في كتاب التوسط. كان الناس يتحدثون عن المازري وكان بعضهم يتعجب لما لم يدعي المازري الاجتهاد مطلقا. هؤلاء كانوا يعرفون أقدار أنفسهم وأنهم علماء كبار ولكنهم كانوا حريصين على أن يجمعوا كلمة المسلمين. ولولا ذلك لكان الناس أمام آلاف من المذاهب، ولكن حينما انحصرت المذاهب في هذا العدد فلأن الأمة كانت تريد استبقاء الخلاف في نطاق معين حتى لا يتشعب. أما حينما يفتح الأمر كما هو الآن في بعض الفضائيات ونسمع عجبا فالنتائج هي التي ترونها على الساحة والواقع. يقول العلماء في مباحث خاصة ومنها مبحث أحيلكم عليه وأرجو أن تقرؤوه وهو مبحث التصويب في كتب أصول الفقه، وفي نشر البنود خصوصا. وهو بحث عميق جدا، فحينما يختلف الناس فمن المصيب ومن المخطئ؟ يقول العلماء: غالبا إن المسائل العقلية فيها مصيب واحد ومخطئ إما ما كان من الجاحظ والعنبري مما قال بخلاف ذلك. ولكن في الأمور الفرعية يخطئ الناس فيكون لهذا موقف وللآخر موقف آخر، فيكون هذا مصيبا والآخر مصيبا وليست إصابة الأول بمعنى أنه أصاب الحقيقة وإنما بمعنى أنه بذل جهدا. ثم هم يقولون بعد ذلك: هذا الذي نسميه مصيبا هل هذه النازلة فيها حكم لله معين أم ليس فيها حكم لله معين؟ يقولون إنه حينما يقع مثل هذا فإن ما ينتهي إليه العلماء المجتهدون هو حكم الله في النازلة. أي أن حكم الله هو ما انتهى إليه المجتهد بعدما استفرغ الجهد. من أجل أن لا تضيع الأمور أمام الناس. والقرافي في كتابه المعروف الذي شرح به المحصول نفائس الأصول يقول: بأن الإجماع وقع على هذا، أي أن العلماء إذا اجتهدوا وبدلوا جهدا حتى لا تبقى هنالك مرحلة فراغ يكون ذلك هو حكم الله. فهذا ليس استبدادا ولا تطاولا ولا هجوما على حكم الله. بل من أجل سلامة الأمة ، وحتى لا يبقى هناك شغور أو فراغ. إذن أظن أن هذا يكفي في الإجابة عن هذه الأسئلة التي طرحت. إن الفتاوى المالكية التي سارت فيما بعد نوازل، أقول عنها كلمات منها أنها مصطبغة بالصبغة المالكية، أي أنها موصولة بكل أصول الفقه المالكي، وميزة هذه الفتاوى الآن، وأنا أظن أن العالم لإسلامي يجب أن يقرأها ليس المالكية منهم فحسب بل على الكل أن يقرأها، لأن عندنا معضلات كثيرة، والذي أسعف المالكية في هذا الأمر هو أنهم اعتمدوا أصولا كثيرة وهي نحو 16 أو 17 أصلا استنباطيا، أي كل أصل هو مجال وفرصة للاستنباط، في الوقت الذي نجد مذاهب أخرى ليس لها أكثر من خمسة أصول، لنقل مثلا إن قولنا بالمصالح المرسلة والمصلحة المرسلة هنا بالنظر إلى كليات الشريعة الإسلامية لا بالنسبة إلى آراء الأفراد. هذه المصالح المرسلة سمتها أنها ليس لها ما يشهد لها بالقبول ولا بالرد، فهي إذن في درجة وسطى، وقد أتاحت للمالكية أن يتصرفوا تصرفا واسعا في الاجتهاد وأن يروا أن كل شيء يحقق المصلحة بهذا المعنى والذي لا يناقض كليات الشريعة وليس اتباعا للهوى هو مصلحة تعتمد. فالذي ليس له هذا الأصل فكيف سيتصرف أو يجتهد؟ لاحظوا النوازل التي وقعت للمسلمين في المدة الأخيرة والتي كانت تثير ضجيجا عند بعض الناس فمثلا هل يجوز لنا أن نوسع المسعى بين الصفا والمروة؟ هل يجوز لنا أن نضع طوابق في رمي الجمرات؟ وكان بعض الناس يمنع ذلك لأن هذا لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم عادوا إلى تحكيم المصلحة المرسلة وقالوا: إن الإسلام من شأنه أن يحفظ الأنفس، وإننا لا يمكن أن نقبل بموت الآلاف في كل سنة ونحن مع ذلك نسمي هذا شريعة. فقبلوا بذلك كما قبلوا أن يصلي الناس في هواء وأسطح الكعبة لا في الكعبة، وهو الأمر الذي لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن فيه مصلحة للناس. وهكذا ذهب كل الذي كانوا يعتقدونه بدعة بموجب أنه لم يكن موجودا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنها شساعة المذهب المالكي، وكان لمحمد أبو زهرة رحمه الله كتاب يتحدث فيه عن مالك يقول فيه: إن بعض المالكية يعاب عليهم بأن لهم أصولا كثيرة، قال إن المالكية يجب أن يفتخروا بأن لهم أصولا كثيرة لأن كل أصل يتيح لهم متسعا في الاجتهاد والاستنباط. أضف إلى ذلك خصوصية أخرى وهي المذهب المالكي في الغرب الإسلامي، وهو أمر يجب أيضا أن نتوقف عنده، لقد كان المالكية في المغرب يتميزون بأشياء كثيرة، ومما خالف فيه المغاربة المشارقة في 300 مسألة وهي فتاوى علماء مالكية مغاربة. أذكر منها أن مالكا كان يرى أن أفنية المساجد وأرض المسجد هي حبس لا تستعمل في غير الصلاة، لكن الأوزاعي كان على نقيض من ذلك وهو كان في الشام وإن دفن في بيروت، كان يرى أن بالشام خضرة وأشجارا فقال لابأس أن تغرس الأشجار في ساعات المساجد لأن ذلك يكسبها ظلالا ومنظرا ويكون ذلك أدعى إلى أن يجلب الناس إليها. فالمالكية في الأندلس والمغرب أخذوا بهذا الأمر وأفتوا بأنه يجوز غرس الأشجار في أفنية المساجد وهو موجود في مساجد المغرب، بل وأن بعض المساجد يسمى بأسماء الأشجار التي فيه كمسجد الزيتونة ومسج الكرمة…بل إن الفقه نفسه جاء ليترت عن ذلك، فقال بعضهم إن الشجرة التي تكون في المسجد يأكل منها من شاء من المسلمين، فأباحوا ورتبوا على ذلك حكما في استغلال المباح للجميع. إن هذا جزء مما تميز به فقه النوازل في المذهب المالكي، أي فيه رحابة وشساعة وفيه سماحة. والأمر ليس تفريطا في الشريعة وغنما هو أخذ بما يحقق المصلحة بالمفهوم الشرعي. ومن هذا الجانب سأذكر بعض الأشياء منها أن هذا الفقه يقال فيه أنه يجب ألا يخرج عن فقه العبادات، ولا دخل له في فقه المعاملات أو في الأمور والإدارية والسياسية وغيرها. والواقع أن الأمر لم يكن كذلك، لأننا وجدنا في حالات كثيرة كان المغرب يعيش أمام حالات من التسيب وكان بعض الناس يغير على بعض، أو يغيرون على النساء فيأخذوهن ويتزوجوهن، أي يتزوجون من هؤلاء النساء المخطوفات، فقال الفقه المالكي: إن هذه المرأة التي تختطف تحرم على من اختطفها تحريما مؤبدا، وهي حالة غير موجودة ضمن المحرمات من النساء، فلماذا إذن حرمها الفقه المالكي؟ إنه حرمها ليحرم الهجوم عليها، أو ليحرم الطريقة التي يتم بها هذا الأمر، وهذا شيء وجب أن يتحدث عنه المغاربة فيرفعون رؤوسهم في السماء.أي من أجل حماية المرأة من العنف والاضطهاد. كما قالوا بحرمة زواج المرأة من الرجل الذي يفسدها على زوجها أي حتى تبقى الأسر مستقرة. إن هذه الفتاوى لا وجود لها، ولو رآها غير المالكية لعجبوا منها. وأذكر لكم فتوى موجودة وقد طبعت مفادها أن رجلا من الجنوب المغربي وهو محمد الكيكي أحد علماء المغرب يقول إن في البيئة التي عاش فيها كان الناس يمارسون ضغطا على المرأة وبموجب هذا الضغط كانت المرأة تتبرع لأخيها من أجل أن تبقى عضوا في الأسرة، فكانت تتبرع لأخيها فكان محمد الكيكي يقول: إن ما تتبرع به المرأة لا يجوز، لأنه غصب بطريقة اجتماعية. إن هذه فتوى كبيرة جدا وهي الآن في كتاب حققه الدكتور أحمد توفيق. فالفقهاء كانوا مع كل الحالات السياسية، فالمغرب ابتلي ابتداء من وسط القرن الثامن عشر بظاهرة كانت موجودة في الشرق كتركيا، وهي ظاهرة الاحتماء بالأجانب، وكان الناس يأخذون حمايات من القناصل، أي أن القنصل تعطى له صلاحيات فيعطي حمايته لمن يشاء من المواطنين، فهؤلاء المواطنون الذين يحضون بهذه الحماية لا يخضعون لقوانين الدولة ولا يؤدون الضرائب مما كان يضعف مالية الدولة. ويتحولون إلى جواسيس. ولذلك كتب فيهم العلماء كما فعل محمد بن جعفر الكتاني حيث كتب كتابا في هذا الأمر، كما كتب اسباعي أحد علماء المغرب ومفتي مراكش كتب وكفر وتحدث عن رفع المستور في حقيقة كفر أرباب الباسبور. لاحظوا كيف كان وعيدهم السياسي سابقا وكيف كانت الفتاوى؟ إنها فتاوى حمت البلاد حمت المغرب. ونفس الشيء يقال عما حدث في الجنوب حيث كانت هناك فتن وقد كان أحد علماء سوس وهو محمد مهدي السكتاني الذي أفتى ورد على أحد المتغلبين على تارودانت يحيى الحاحي وأفتى بأن حكمه ليس شرعيا وأنه غير صحيح وخرج. وأختم لكم بآخر قضية وهي أن فرنسا عندما أرادت أن تنهي قضية الاستعمار وتوطنه كانت تبحث لها عن شرعية، فجمعت أكثر من 350 من الأعيان والعلماء بضغط كبير في فاس، ودعتهم إلى إقرار البيعة لهذا الذي وضعته، ولكن الطايع بلحاج رئيس المجلس العلمي بفاس قال إن هذه البيعة ليست شرعية ولا صحيحة. فانفض الجمع وانتهى الأمر. ووقع بعدها ما وقع حيث نفي بعض العلماء وسجن بعضهم بسبب هذه الفتوى التي أنقضت البلاد. وآخر فتوى يمكن أن أختم بها وهي فتوى الفقيه محمد المرير بتطوان، الذي دعاه المقيم العالم الإسباني في الشمال وعرض عليهم أن يلتحقوا بإسبانيا ويكون لهم شيء من الانفصال، واستفتي رأي الفقيه المرير فقال لا أفتي حتى أدرس، ودرس الأمر، وبعد ذلك أجاب بفتوى وهي أن هذه المنطقة المنطقة الخليفية تابعة للمغرب وأن بيعة الملك محمد الخامس لازالت في عنقه، وعليها أن تلتزم بها أو تحيد عنها، فأفسد ذلك مشروع استقطاع المغرب وأجهض مشروع الدولة التي كان يهيأ لها أن تكون في الشمال. إن هذه إذن فتاوى مالكية مرت في كل الاتجاهات، لها شساعة الفتاوى المالكية ولها أيضا خصوصية الجهة وفيها نفحة محلية. وأظن أننا حينما نقرأ هذه الفتاوى نعلم أن الذين يفتون هم علماء لهم مسؤولية ويعرفون أنهم يجب أن يحافظوا على الشريعة الإسلامية ويبلغوها بسماحتها وبيسرها. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.