ممن نتعلم «فقه الحياة»، وكيف السبيل للوصول إلى هذا الفقه المنشود، الذي من خلاله يستطيع المسلم أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. هل نتعلم «فقه الحياة» ممن يتمسك بأدلة الشرع فحسب؟ أم نتعلمه ممن يتمسك بأدلة الشرع مع النظر كذلك إلى الواقع؟. هذه الأسئلة وما يتفرع عنها من قضايا، وما يتعلق بها من مسائل وإشكالات، هي موضوع «المائدة الفقهية» الدسمة التي يقدمها العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوميا على قناة «أنا» الفضائية (التردد 12226 أفقي نايل سات) طوال شهر رمضان، وذلك من خلال برنامج «فقه الحياة»، والتي ستعمل «المساء »على نشرها بشراكة مع قناة «أنا» شدد العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على أن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال والعرف يعد من العوامل المؤكدة على صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، موضحًا أن دائرة الأحكام المتغيرة تشكل أكثر من 95 في المائة من الشريعة، بينما النسبة الباقية تمثل الأحكام القطعية التي لا يجوز اختراقها. وأشار القرضاوي إلى أنه يختلف مع من أفتوا بحرمة التجنس بجنسية أخرى، موضحًا أن ذلك ينطبق على الدول المحتلة، كما هو حال أمريكا في العراق وأفغانستان، حيث لا يجوز للعراقي أو الأفغاني التجنس بالجنسية الأمريكية، أما بالنسبة للأقليات المسلمة فلا بأس في حمل أفرادها لجنسية الدول التي يقيمون بها. وتطرق القرضاوي، خلال حلقة الأمس من برنامج «فقه الحياة» الذي يستضيف العلامة القرضاوي طوال شهر رمضان على قناة «أنا» الفضائية ويقدمه أكرم كساب إلى العوامل التي اتفق العلماء على تغير الفتوى بموجبها، وهي تغير الزمان والمكان والحال والعرف. وأوضح القرضاوي أن الفتوى قبل الابتلاء بالفعل، غير الفتوى بعد الابتلاء به، بمعنى أنه إذا ابتلي الرجل بالشيء فعلى المفتي أن يجد له مخرجًا. - الفتوى من الأمور التي عرفت منذ القدم، ومازال الناس حتى الآن يستفتون والعلماء يجيبون، ونود في البداية أن نعرف ما الفتوى؟ > بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا، وأسوتنا، وحبيبنا، رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد.. فالفتوى يراد بها بيان الحكم الشرعي في اجتهاد المفتي، أي كما يراه المفتي من خلال الإجابة عن سؤال، وهناك في بيان الأحكام نهجان، حتى في القرآن نفسه: بيان مبتدأ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) وبيان إجابة عن السؤال (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ) (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) إلى آخره. وهذان هما الطريقان لبيان الأحكام الشرعية؛ فإما أن يبدأ الإنسان ببيان هذه الأحكام، كما نفعل في تأليف كتب الفقه، وهناك كتب للفتاوى، وبعض المذاهب تسميها كتب النوازل، بمعنى الحوادث التي تنزل بالناس ويسألون عنها العلماء، فهذه تسمى «الفتاوى»، وجاء في القرآن (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ) فالمفتي الأول هو الله عز وجل فهو الذي يبين الحكم، والنبي مبلغ عنه، والعالم يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول الشاطبي، فهو ينوب عن الله أو يوقع عن الله كما يوقع بعض الناس عن الملوك والأمراء، فكأن الله أعطى حق التوقيع لهؤلاء العلماء الراسخين، الذين يبينون الحلال من الحرام. ** هل ثمة فرق بين الحكم والفتوى؟ > البعض لا يرى فرقًا بين الحكم والفتوى؛ ولذلك قالوا إن الفتوى تتغير والأحكام تتغير، وفي مجلة الأحكام العدلية الشهيرة، المادة التاسعة والثلاثون منها، تقول: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان» ولكن الأولى أن نفرق بين الحكم والفتوى، ولذلك أنا أؤيد تعبير الإمام ابن القيم، بأن الفتوى هي تنزيل النص على الواقعة، أو تنزيل الحكم ودليله على الواقعة، ولذلك تغير الفتوى وارد؛ لأن الواقع يتغير، فيتغير بذلك الحكم المنزل على هذه الوقائع. الثبات والتغير - إذن الحكم له خاصية الثبوت، والفتوى لها خاصية التغير؟ > ليس كله، ولو قلنا هذا لأبطلنا قاعدة المجلة «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان»، وأنا كانت لي ملاحظات على صياغة هذه المادة، إذ إنه كان من المفروض أن يقول: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، وأن يقول الأحكام الاجتهادية أو الأحكام الظنية، إنما الأحكام القطعية لا تقبل التغير بحال من الأحوال. - الشريعة الإسلامية من صفاتها الثبات، فهل هذا الثبات يتناقض مع تغير الفتوى؟ > الشريعة أيضًا لها دائرتان: دائرة ثابتة لا تقبل التغير ولا الاجتهاد، وهي دائرة القطعيات، بمعنى الأحكام الثابتة بسندها القطعي ودلالتها القطعية، فهذه تمثل وحدة الأمة العقدية، والفكرية، والتشريعية، والسلوكية، وهي تمثل الثوابت التي لا يجوز اختراقها، وهذه الدائرة محدودة جدًّا لكن مهمة جدًا، أما الدائرة الأخرى فهي واسعة جدا، وتشمل حوالي خمسة وتسعين أو أكثر من أحكام الشريعة وهي قابلة للاجتهاد، وقابلة للتغير بموجبات التغير المختلفة. - ذكرتم أن الإمام ابن القيم رحمة الله عليه اعتبر المفتي موقعًا عن رب العالمين، والبعض يظن أن في هذا نوعًا من أنواع المبالغة؟ > المفتي هو بمثابة من يوكلهم الملوك ليوقعوا عنهم، ففي بعض الشركات والوزارات، يقوم المسؤول بتوكيل شخص للتوقيع نيابة عنه، وهكذا المفتي فكونه يقول هذا حلال وهذا حرام فإنه يتحدث باسم الشرع، أو كأنما يتحدث باسم الله، وإن كان الحديث النبوي قد نهى عن أن يقول الإنسان: هذا هو حكم الله، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : فإن أرادوا أن تنزلهم على حكم الله تعالى فلا تنزلهم، فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم، ولكن أنزلوهم على حكمكم» فمع أن هذا هو اجتهاد المفتي، لكن يترتب عليه أن تمتثل الناس لهذا الأمر أو تمتنع عنه، أي يحل لهم أو يحرم عليهم، وهذا بمثابة من يوقع عن الله عز وجل. خلود الشريعة - لفضيلتكم كتاب بعنوان «موجبات تغير الفتوى» وذكرتم فيه عشرة موجبات، فيها أربعة ذكرها الأقدمون، ومنَّ الله عليكم فذكرتم ستة موجبات أخرى، فهل تحدثنا عنها؟ > الأقدمون ذكروا أن الفتوى تتغير بتغير المكان، والزمان، والعرف، والحال، والإمام ابن القيم ذكر ذلك، وذكره قبله الإمام شهاب الدين القرافي المصري، كما ذكرها من بعده علامة المتأخرين من الحنفية ابن عابدين في رسالته الشهيرة «نشر العرف فيما بني من الأحكام على العرف»، وذكر فيها أحكامًا عدة عند الأحناف، غير فيها المتأخرون الفتوى عما كان عليه المتقدمون، لأن الزمن تغير، وكذلك الحال. وهناك بعض الناس يقولون إن الشريعة لا تصلح حاكمة لحياة الناس؛ لأن حياة الناس متغيرة، والشريعة ثابتة، فلذلك يجب أن يحكم الناس بالمنهج العلماني، لا بالمنهج الشرعي، وهذا ما قاله جماعة أتاتورك ومن تبعهم، حينما ألغوا الشريعة الإسلامية وأحلوا محلها القوانين الوضعية التي استوردوها من أوربا في ذلك الوقت. ونحن نرد بأن ما قالوه غير مسلم به في الناحيتين، فليست الشريعة كلها ثابتة، وليست الحياة كلها متغيرة. - هذا فيه تغير وثبات، وذاك فيه تغير وثبات؟ > نعم، فالحياة ليست كلها متغيرة، فهناك ثوابت، فالأرض أرض والسماء سماء، ولا تزال الشمس تطلع علينا وتغيب، وكذلك الشريعة ليست كلها ثابتة، وهذا من عوامل صلاحية الشريعة للخلود، حيث فيها من السعة والمرونة ما فيها، وقد ألفت في ذلك كتابًا ذكرت فيه أسباب المرونة والسعة في الشريعة الإسلامية، والتي أهلتها للخلود، وكان من هذه الأسباب رعاية تغير الفتوى بتغير موجباتها. تغير المكان - لنبدأ بالعامل الأول لتغير الفتوى، وهو تغير المكان، ما المقصود بهذا؟ > للأسف بعض إخواننا من العلماء المعاصرين يقول إن الفتوى لا تتغير بتغير المكان، وأن الذي انفرد بهذا هو الإمام ابن القيم، وأنا أخالفهم في هذا، وأرى أن التغير المكاني هو من التغيرات الحقيقية للإنسان، فالإنسان في البادية غير الإنسان في الحضر، والإنسان في البلاد الباردة غير الإنسان في البلاد الحارة، والإنسان في الإسكيمو أو عند القطب الشمالي له أحكام تتعلق به، فمثلاً حينما نقول: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)، فإنه في القطب الشمالي لا يوجد «صعيد»، فهو لديه ثلج، وفي هذه الحالة صعيده هو الشيء المناسب لمكانه. كذلك لا يوجد عنده أبقار، والكلاب هي التي تجر الأشياء، إذن فاقتناء الكلاب في هذه الحالة جائز وليس فيه حرج، كذلك هناك بلاد الشمس تغيب عنها ستة أشهر، وتطلع ستة أشهر، وهذه البلاد لها أحكامها الخاصة في الصلاة والصيام. والعلماء من قديم انتبهوا لذلك، فمثلاً راعوا أن البدوي له أحكام خاصة، حتى قالوا لا يصح أن يؤم البدوي الحضري إلا إذا خرج من بداوته وتفقه، وذلك أن الرسول نهى عن عودة الشخص بعد الهجرة إلى البادية وجاء في الحديث: «من بدا جفا»، يعني أصبح عنده جفوة، وإلى ذلك أشار القرآن (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ). كذلك فإن العلماء قالوا إن من أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، مثل الزكاة، والصيام، فقد كفر، إلا إذا كان حديث عهد بالإسلام ولم يتمكن من معرفة هذه الأشياء بحيث تصبح معلومة بالضرورة عنده، أو كان يعيش في بادية ليس فيها علماء على علم بالإسلام، فلابد أن يعطى فرصة حتى يتعلمها وتثبت عنده، وتصبح معلومة من الدين بالضرورة.