لا يخفى على عاقل الوضع الكارثي الذي وصلت إليه المجتمعات الإنسانية من انحراف للقيم، وتشوه للثقافات وتنميط لها، والذي يتزامن –الانهيار الإنساني- مع ازدهار مذهل للعالم المادي، وكأن ماركس بيننا الآن فهو الذي أقر بهذه العلاقة وتحدث عنها بإسهاب. حين نقارن الحاضر بالماضي القريب، ولو في أبسط الأشياء كنوعية الرسوم المتحركة، أو المسلسلات التلفزيونية، فإننا نذهل من عمق الوادي السحيق الذي يفصل بينهما، فشتان بين ما كنا نشاهده من رسوم متحركة أيام الصبا، وبين ما يشاهده صغار اليوم، فالماضي يحدثنا عن رسوم تزرع الأمل، وحب الحياة، وقيم المشاركة والبذل في سبيل الآخرين، بينما معظم رسوم اليوم تدور أحداثها عن حرب بين هذا وذاك، ومجموعة وأخرى. عنف غير مبرر، الكثير من العنف يتخلل ما يعرض على الشاشات. أما عن المسلسلات التلفزيونية، ففي الماضي القريب كنا نشاهد مسلسلات عائلية تعالج مشكلات اجتماعية تواجه المجتمعات العربية والإسلامية، كما تناقش أموراً تاريخية وسياسية.. وهكذا. بينما يطغى على مسلسلات الحاضر موضوعات لا علاقة لها بما عُرض في الماضي لا من قريب ولا من بعيد، فمعظم المسلسلات التي تأتينا من الخارج موضوعها واحد لا غير "الحب"، ويا ليت هذا الحب ما كنا نسميه حباً في ما مضى؛ فالعالم اليوم تلاعب بالمفاهيم ومسخها، وجردها من كل حمولتها، فأصبحت لا تمثل إلا ما يراد لها، فحين نتحدث عن الحب المعروض على الشاشة فإنه غالباً حب بين رجل متزوج وامرأة كذلك، أو بين مراهقة وبين عمها، أو بين طفلين لم يبلغا الحلم بعد. وهذا عن المسلسلات الأجنبية، فماذا عن المسلسلات العربية؟ هذه الأخيرة قد تأثرت بالأولى، فالحب هو الطاغي، والمشكلات الزوجية أساس الحبكة الدرامية، والبطلة متزوجة وتحب شخصاً آخر، وجارها واقع في حبها، وزوجته تعشق مديرها. وكأن الدنيا ليس فيها سوى هذا النوع المشوه من الحب. وحتى وإن حاول بعض المخرجين الخروج عن النسق، فإنه لن يخرج من دائرة مركزها "هدم القيم"، فأغلب الظن أن ما سيعطينا إياه على شاكلة بعض المسلسلات الرمضانية، التي يصبح فيها البطل بين ليلة وضحاها رجل عصابة أو قاطع طريق، وهكذا. وقد يدافع البعض عن هذا الإنتاج باعتبار أنه يناقش الشارع أو الواقع، وينسى أن الشارع يعرف ما دون هذا وما فوقه وبدرجة أكثر حدة، والمصري في حقيقة الأمر لا يؤلمه وجود بلطجي واحد، إن ما يهمه هو كون مستقبله بيد غيره، والجزائري لا تهمه حياة الشابة الفلانية، بقدر ما هو بحاجة إلى معرفة السر وراء فقره رغم غنى بلده. الصحافة الجديدة وعندما نتحدث عن التلفاز، فإننا بالتالي نتحدث ضمنياً عن الإعلام، وبحديثنا عن الإعلام فإننا نتذكر لزاماً ما درسناه في مادة التربية على المواطنة عن كون الصحافة "سُلْطة رابعة"، لأنها وببساطة تتحكم في المجتمع كما تفعل باقي السلطات، وتحكم الصحافة يبرز في نشر أو محاربة فكر معين، ودورها الخطير يتجلى في إقرار وتنزيل فكر شخص أو طبقة ما على المجتمع. ولكون الصحافة جزءاً من الإعلام فما يقال عنها يقال عنه، فكلاهما باستطاعته تغيير المجتمعات، وإنزال نمط معينٍ من التفكير، أو محاربة تفكير آخر. وهذا الإعلام وهذه الصحف تتقلب وفق هوى المسيطر ورغباته، فلا يمكن توقع المسار الذي تتخذه الصحف والجرائد، ولا القنوات الإخبارية أبداً. وهي تنشر ما يروقه ويساير هواه، وترفض ما دونه، وكمثال بسيط على هذا تؤكد القنوات أن القرار الفلاني الذي أقره الرئيس الفلاني "قرار تاريخي"، فإذا ما مرت الفترة الانتخابية وتغير الرئيس، وغير ذاك القرار قالت: "الرئيس يقرر تغيير القرار الفاشل الذي أقره الرئيس السابق"، وهكذا دواليك. غوبلز وزير الدعاية الألماني النازي أحدث نظرية تمكن النظام من السيطرة على العقول وفق نظرية التأطير Framing Theory، وهذه النظرية أصبحت وسيلة مهمة في تمرير السياسات فيما بعد. وتعريف النظرية بكل وضوح، أن يعمد سارد القصة إلى إبراز جوانب من القصة أو الحدث والتَّركيز عليها، وإغفال، أو تجاهل، أو طمس أجزاء أُخرى، حسب هوى المتحدث وميوله بالنسبة للأشخاص، وحسب موافقتها لسلم الأولويات في القناة الإعلامية. ببساطة إنها تفرض نمطاً معيناً من التفكير، أي إنها تقول للمشاهد هذا ما يحب أن تكون عليه، هذا ما يحب أن تحب، وخاصة لدى النّشْء "أي الأطفال". تعمل الصحف والقنوات الإخبارية على اختزال الأحداث وإفراغها من محتواها، ثم تضفي عليها لمسات تجعل منها مطلباً لفئة معينة من الناس، وعلى العموم؛ فالصحف لا يمكن توقع مواقفها؛ لأنها تغيرها بتغير الأنظمة وبتغير المواقف، فمثلاً كتبت الصحف الفرنسية حين هرب نابليون من جزيرة ألبا Alba " الوحش يهرب من ألبا"، وكتبت حين اقترب من فرنسا "نابليون يهرب إلى فرنسا"، وحين أيقنت بعودته للحكم كتبت "الإمبراطور يدخل البلاد" (كتاب: نظام التفاهة، آلان دونو). ولك عزيزي القارئ أن تصف وتقرر من خلال هذا المثال البسيط للغاية دور الصحافة وأهميتها. تسمى هذه العملية أيضاً بالإضافة إلى نكهات أخرى -حسب كل دولة وكل نظام- ب"صناعة الوعي"، ويسميها البعض من المتخصصين بالجيل الرابع من الحروب، وتسمى بالحروب لما لديها من قدرات تدميرية هائلة؛ فباستطاعتها تدمير أمة بأكملها، وتغيير معالم مجتمع، بل مجتمعات، في فترة وجيزة. وقد ألف الكاتب الكندي مالكوم غلادويل كتاباً سماه "نقطة تحول"، حقق مبيعات ضخمة "مليوني نسخة"، وتبرز أهمية هذا الكتاب في كونه يبين كيفية تأثير الأشياء الصغيرة في سلوك الأفراد، وتأثير الجماعة على الأمة، وكيف تستغل السلطة هذا الأمر. والمتتبع للصحافة العربية وغيرها، وخاصة الإلكترونية، يلاحظ هيمنة نوع معين من الجرائد، وهي ما يطلق عليها الآن دونو "صحافة التابلويد Tabliod"، وهي الصحف التي تهتم بنشر الشائعات والفضائح وملاحقة الفنانين والمشاهير. وهذه الجرائد تلقى رواجاً في المجتمعات الاستهلاكية؛ كونها تشبع الجمهور العاطفي، وتملأ عليه وقته الذي يضيع دون فائدة. مثل هذه الصحافة لن تنتج لنا إلا مجتمعاً عليلاً، تجتمع عليه أسقام أهل الأرض جميعاً. ولأن الإنسان خلق لنفسه أسلحة يواجه بها حقيقته، ومنها الإنكار والتكبر والتبرير، فإنه لن يعترف بمرضه، بل سيدعي عكسه، والأهم سيحارب كل من هو ضد أفكاره، أو من كان سليماً معافى في بدنه، كإنسان الزومبي "zombie"، الذي تصوره السينما الأمريكية وهو يركض وراء الأصحاء، ولا يسلم منه إلا من كان على شاكلته. وسيبدو الذي ينتقد هذا الصنف شخصاً متحذلقاً وليس شخصاً متشائماً. والتشاؤم في مجتمعات اللهو، هرطقة. التغيير يحدث لن نناقش حرمة الموسيقى فالأمر معروف وسبق لشيوخ كثر التطرق للموضوع، بل دون الحاجة لشيوخ يكفي قراءة الأحاديث النبوية ليدرك المرء أن هذه الأغاني التي يستمع إليها الناس هي المعازف التي أشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث مشهور. حين أقارن موسيقى جيلنا بموسيقى هذا الجيل، فإن ما أشعر به هو الخوف، نعم هذا ما أشعر، أخاف من الغد وأنا أرى اليوم ظلاماً، وأشاهد أجمل ما يمكن أن يزدان به مشوهاً كالمسوخ، وأرى حجم الإسفاف الذي تحمله الكلمات الغنائية سواء في بلدي الحبيب أو بلداني الأخرى "الإسلامية". يقال: "إذا أردت معرفة شعب معين استمع لموسيقاه"، وهذا القول صحيح إلى حد بعيد، باعتبار الموسيقى أكثر من لحن يعزف وكلمات تقال، الموسيقى حمالة لثقافة مجتمع وتاريخ بلد، والموسيقى تحمي لك ما لم تقله الكتب، فمن ينكر كون أغنية "كعكاع يا زوبيدة" تؤثر في كل شخص ينتمي للريف المغربي؟ لا أحد، ومن ينكر كونها تحكي ما لم تأتِ به الكتب؟ لا أحد كذلك، ومن هذا الذي لا يعرف أغنية "بابا ينوفا" الأغنية التي تغنى بها جيل كامل، بل أجيال من الجزائريين والمغاربة على حد سواء؟ الكل يعرف لم كانت الفتاة خائفة، فمن أخبرنا؟ ولِم لم تتغير الأحداث؟ الموسيقى بإمكانها حفظ الكثير. منذ زمن ليس ببعيد كان الشعب المصري الذي يتغنى اليوم جزء منه بأغاني المهرجانات وكلماتها الهابطة، يردد كلمات الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، ويبكي بكاء الطفل حين يسمع للشيخ إمام ويقرأ لفؤاد نجم. أو على الأقل يستمع لموسيقى عبدالحليم وأم كلثوم وغيرهما، واليوم يجد المصري أن أغاني المهرجانات تطارده في كل مكان كأنها القدر؛ يبتلع كلماتها المقرفة رغماً عنه، وتملأ أذنيه بلحنها السريع والمزعج ولو سدهما بالإسمنت، وهي في سيارة الأجرة؛ في التوكتوك؛ عند البقال، وفي حفل التخرج الجامعي كذلك. لم يسلم منها أحد، وعوضاً عن أن تصبح حدثاً عارضاً أضحت الأساس؛ وعوضاً عن أن تتقادم، تطورت بل اكتسحت الواقع، فعاد مغنوها أبطالاً، ومنتقدوهم جهالاً، وانقلب الوضع رأساً على عقب، وهذه البداية فقط؛ فالأمريكي الجد بروتستانتي متزمت، وها هو ذا حفيده متعايش مع كل أنواع الرذائل. في المغرب بدأ الأمر يخرج عن السيطرة منذ عشر سنوات تقريبا،، من اعتزاز الفتى برجولته إلى صباغة شعره بالألوان وطلاء وجهه بمستحضرات التجميل تحت مسمى الاحتفال والفرح، وارتداء ملابس ضيقة وممزقة بمبرر الموضى وصيحات نجوم كرة القدم. ومن الاستماع إلى أغاني ناس الغيوان وجيل جيلالة ولمشاهب ، أصحاب الكلمة والمعنى الذي يمس عمق القضايا المجتمعية، فيعالج الفقر والسياسة وينصر القضية الفلسطينية ، إلى أغاني مبتذلة ذات كلمات هابطة، تروج لمفاهيم ثقافة التسكع، فيغني الشاب عن أماكن الدعارة والخمور دون أي رادع أخلاقي يردعه، فليس المهم ما تقدم للشباب والأهم هل ما تقدمه قابل للاستعلاك أم لا، والواقع يقول أن أرذل الرذائل هي قابلة للاستهلاك داخل أمعاء وعي شباب مغيب! وقد صدق أحدهم حين قال "المعدة أذكى من العقل، فالمعدة تتقيأ الفاسد، بينما يقبل العقل الصالح والفاسد". يستحي المرء حين يسمع مثل هذه كلمة تتداولها الأفواه وتتغنى بها الأجيال الصاعدة، وتنشرها الفتيات بل ويؤدينها على شكل مقاطع قصيرة على التيك توك والانستغرام، وكلهن ابتهاج وانتشاء. ليس عليك أن تفكر كثيرا وتتسأل عن مصير مجتمع مثل هذا، فالأمور باتت واضحة للكل وليس هناك تكهنات وتفسيرات معقدة، بل انتظار للحظة التي يصل فيها هذا المجتمع إلى القاع، ورغم أن البعض يعتقد أننا فيه منذ زمن، إلا أن هذا غير صحيح، فلنقارن أنفسنا مع بعض الدول نجد الفرق الشاسع، فالدول الأوربية مثلا تجاوزتنا بمراحل وأمريكا كذلك، وقد يقول القائل "لما علينا مقارنة انفسنا بهم؟"، أقول أن هذه المجتمعات كانت مذ أمد محافظة ومتشبثة بتقاليدها، وليس ذلك منذ قرون خلت، إنما بداية القرن العشرين فقط. شيئا فشيئا تحول المجتمع الأمريكي من مجتمع يرفض الزنا إلى مجتمع يدافع عنها، ومن مجتمع يراقب طول تنورة الفتاة إلى مجتمع يرفض الاحتشام، ونساؤه يخرجن دون ملابس تقريبا، وكما حدث مع الأمريكيين سيحدث مع المجتمعات الأخرى تحت الضغط الهائل للميديا والقوانين الغربية التي أباحت كل شيء بل وجعلت الدولة حامية للرذيلة، ففي أمريكا دور الدعارة مرخص لها والعاهرات يقدمن على أساس باحثات كما حدث واستقبلت جامعة أوكسفورد عاهرة سابقة لتحاضر في موضوع الثقة بالنفس! لهذا، فهذه البداية فقط فالتغيير الحقيقي لم يحدث بعد. نهاية لابد منها ليس كباقي نهايات القصص المثالية عن زواج الأمير بالأميرة واحتفال بالنصر، نهايتنا بداية ربما؛ فالأمر بات مقلقاً للغاية، والأنوار خرجت عن السيطرة، ولم يعد للصمت معنى، وإن أضحى الكلام بدون معنى، ولا جدوى، فأحياناً -وربما غالباً– لا يسعنا سوى المراقبة والتزام الصمت أمام غطرسة وقوة التيار الجارف، الذي لا يترك للمرء فرصة للنجاة ولا للتغيير، وشيئاً فشيئاً يفقد المرء القدرة على السيطرة على نفسه وعلى أهله، ويستسلم رغماً عنه، ولسان حاله يقول: "مكره أخاك لا بطل".