الحب الاصطناعي و قولبة العقل العربي لقد مرّ وقت وأنا أعكف على الاستماع و الإنصات إلى بعض الإذاعات الوطنية على الراديو في الفترة الليلية خصوصا بعد منتصف الليل، وذلك استئناسا حيث أقضي لياليّ منفردا في غرفتي الفريدة .. لكن سرعان ما تغير هذا الاستماع من استئناس إلى اهتمام ومتابعة فعلية لأحد البرامج التي تفتح الأبواب للساهرين و الساهرات و للذين يعانون أزمة نفسية أو مشكلة اجتماعية أو حتى نوبات عاطفية – و ما أكثر هذا الصنف نسأل الله العافية و السلامة - .. و ما أثارني حقيقة و شدّ انتباهي و اهتمامي هو أن غالبية الإشكالات المطروحة هي عاطفية بمعنى سببها المباشر علاقة فتى و فتاة أو رجل و امرأة.. ومحورها الأساسي تختلف مظاهره : علاقة حب بدأت و لم تستمر / خلافات أسرية حادة سببها الخيانة الزوجية و نتيجتها تشريد الأسرة و الطلاق / علاقة غرام خيالية وهمية تربط بين رجل و امرأة لم يتقابلا قطّ إلا عبر الشات أو الهاتف .. "" المهم الذي أريد إثارته هو مسألة يعتبرها البعض أنها من حقه كيفما كانت وضعيته حتى و إن كان متزوجا و ارتبط بأخرى ( بمعنى خيانة ) و العكس صحيح ، و يعتبرها البعض الآخر هي الأوكسجين الذي يتنفس و الماء الذي يشرب و إذا ما انقطعت عنه الصورة انتهى أمره .. في حين تعتبرها أخريات مسألة ملأ فراغ ضرورية حتى و إن علمت أن الذي يمارس معها الحب لص أو خائن أو فاسق .. إنها مسألة الحب أو قل تصحيحا الحب الاصطناعي . أعتقد أن خطاب الحب و العشق و الغرام و العلاقة العاطفية التي تبث في الإعلام سواء عن طريق الفيديو كليبات الفاضحة منها و المستورة أو عن طريق مسلسلات و أفلام مصرية و هندية على الخصوص أو حتى عن طريق بعض البرامج الشبابية الفضائية و الإذاعية الوطنية – سامحها الله- التي تلعب دور الرابط العاطفي بين هواة الحب ، هو خطاب عالمي له وسائل و آليات نمطية لترسيخ ما يسمى : العلمانية الشاملة بمفهوم المفكر ذ. عبد الوهاب المسيري رحمه الله أي فصل الإنسان عن مبادئه و قيمه الدينية و الإنسانية ، ويمثل كذلك توجها عاما إلى قولبة العقل العربي المسلم (أي إفراغه في قالب مصطنع معين) على صورة نظيره الغربي ؛ هذا الأخير الذي تشكل الشهوانية الدروينية و الأنانية و الحرية الفردية - المستمدة من مفهومي الإفراط في عبادة الأنا و دعه يعمل دعه يمر - أهم مبادئ و نوازع تفكيره و فعله الإنتاجي. و الأخطر في هذا التوجه العالمي (في إطار العولمة ) هي أن يصبح الإنسان فاقدا لمناعته : فيفعل في العقل العربي المسلم كما يفعل الإيدز في الجسم الإنساني. و أن يفقد العقل الإنساني مناعته يعني أنه يصبح مهيئا لقبول أي فكر أو معنى أو توجه يتلقاه. ولعل نمط الاستهلاك الذي طغى على هذا العقل من بين مظاهر فقدان هذه المناعة ؛ حيث تجد الإنسان يستهلك سلعا سواء أكانت رخيصة أم غالية الثمن أو كان في حاجة أو غنى عنها ، و يبقى الرابح الأول و الأخير في هذه العملية هو الشركات الإنتاجية التي تسخر لتسويق منتجاتها ليس فقط الإشهارات و الإعلانات و الوصلات بل حتى الإنسان. و الأمثلة كثيرة لتوضيح خطر هذا الإيدز العالمي الذي يهدف إلى إفقاد العقل الإنساني مناعته و سنعود لباقي الأمثلة في المقلات القادمة بحول الله. إن المشكلة في الحب الاصطناعي هو أن بعض الناس يعتقد بأن هذا النمط من الحب هو الحياة ؛ وهي في الحقيقة كلمة حق أريد بها باطل من بين يديها و من خلفها: لأن بالحب الحقيقي يتنسم الإنسان حلاوة الحياة و حقيقتها ، لكن عن أي حب نتكلم ؟؟ سأتكلم في البداية عن الحب الاصطناعي أو الحب عبر اللاسلكي أو الحب الوهمي ، فارتباطا بما قلت من قبل يحاول الإعلام أن يصور للمتلقي صورة نمطية لممارسة الحب أو العشق أو العلاقة العاطفية ؛ ففي الأفلام و المسلسلات خصوصا المصرية و الهندية مثلا يصور المخرج و فريقه كيف أن شابا و شابة يمارسان الحب – هذا بالعلم أنهما غير متزوجين و ربما يدرسان في الإعدادي أو الثانوي أو الجامعي أو ربما كلاهم مرتبطان بزواج آخر فتضطرهما الظروف إلى الارتباط ، و لاحظ معي كيف أن مجموعة من المصطلحات و المفاهيم المحورية تصاغ في الفيلم على غير حقيقتها في إطار قولبة المفاهيم (أي إفراغها في قالب مصطنع معين) كالظروف و الارتباط في هذا المثال المذكور آنفا فعوض أن يوجَّه العقل و العاطفة إلى تحكم الإنسان بهما حتى لا يقع في الخيانة و ليس الارتباط بسب فقدان المناعة و اللاشعور بالمسؤولية و ليس الظروف .. نجد أن الحقيقة المصورة في الفيلم هي أن المرء يجب أن يستسلم لهاته الظروف كيفما كانت حتى و إن كانت تافهة أو متجاوزة وغير مبررة فيقع في ارتباط يصور على أنه ارتباط إنساني و راقي في أعلى درجات الوعي . و هاته الممارسة للحب تُجسَّد فقط على مستوى السيناريو و الإخراج، حيث يعيش العشيقان حبهما في البيت و الشارع و وقت العمل و في الكازينو و المدرسة و الجامعة و وسط القسم و المدرج و في السيارة و على الدراجة و في المرحاض –أعزك الله- ، وعبر السلكي و اللاسلكي و إما بالكلام أو الهمس أو اللمس أو الرقص و الغناء ..و في الليل و المساء و الصباح .. فيصور الحب بأن تمارس عشقًا مع عشيقتك كيفما كانت الظروف من خلال تلك المظاهر و في كل الفترات .. حتى أن احدهم قد يضحي بعمله و وظيفته فيلغي فترة عمله أو يسرق سويعات و أيام من وظيفةٍ المجتمعُ أحوج إليها أو قد يخسر أسرته و عشيرته أو حتى صحته في سبيل أن يستمر ذلك الارتباط .. الذي أريد أن أقول من هذا كله هو أننا صرنا نرى بالعين المجردة كل تلك المظاهر التي تصورها لنا الأفلام و المسلسلات العربية و الغربية ( ومعظمها إن لم أقل كلها من نسج الخيال و ليس بحقيقة) متجلية في أحوالنا – إلا من عافاه الله تعالى – و الفرق الكبير و الخطير بين ما نراه خيالا و وهمًا في الأفلام و المسلسلات و كذا الكليبات و بين ما نراه حقيقة مجسدا في أحوال بعض الشباب هو على مستوى النتيجة . فالفيلم ينتهي بعد ساعة أو ساعتين أو ثلاث و قد تكون نهايته مثالية تبقى في الخيال، أما في الواقع فتجليات و نتائج التمثُّل بالصورة الخيالية المثالية للحب الاصطناعي هو نشوء شريحة من الشباب العاطل فكريا و مهنيا قد يضحي هو أيضا بوظيفته و أهله و صحته في سبيل عشيقته و العكس صحيح بالنسبة للشابة، شاب يقضي معظم وقته في ربط العلاقات العامة و منشغل بالشات و الSMS و الBip ، شاب يهتم فقط بالمظهر الخارجي على حساب مظهره الكامن العقلي و الفكري و الروحي : إنه الضياع و التيه و الفوضى بأعينها .. و الحقيقة لما أُحدّث عن الشباب لا أوجه اللوم إليهم جميعا فقط لأني شاب و أعرف جيدا هذه الوضعية ، فنحن جيل واحد نواجه تحديات متعددة، لكن ما أحاول طرحه و أنبه إليه إخواني الشباب هو مسألة الممانعة و المدافعة ، أي اكتساب جرعات كافية من المضادات : فلا يمكن أن نقبل بكل شيء و لا نرد كل شيء . و هذا يدفعني أن أتحدث عن الحب الحقيقي ، فلقد ارتبط الحب في واقعنا بالغرام و حب الأنثى و ممارسات جنسية حتى أننا صرنا نخجل من كلمة أحبك إذا ما أردنا أن نعبر بها مثلا عن شعورنا النبيل و الحميمي الإنساني لأمهاتنا و آبائنا أو حتى أصدقائنا، لماذا؟ لأن الحب الحقيقي أفرغ من معناه الحقيقي .. الحب الحقيقي هو غير ما علقنا عليه آنفا تماما ، الحب الحقيقي بعيد تماما عن الحب الاصطناعي .. قد يقول قائل : الحب الحقيقي هو حب الوطن و الوالدين و الطبيعة و الكون ، أقول : نعم نعم و لكن .. هذا جزء من الحب الحقيقي و فرع منه ، لأن مركزية هذا الكون ليست للإنسان أو الطبيعة أو المادة كما تصورها لنا العولمة بآليتها ، لكن أقول : الحب الحقيقي مصدره و أصله هو : حُبّ الله . نعم إذا أحببت الله ستعرف كيف تحب .. ليس فقط زوجتك و أمك و وطنك بل كل الناس و كل الكون بل و نفسك أيضا .. أقول لك حبيبي و رفيقي في هذا الجيل الشبابي الصاعد جرِّب الحب الأول : أي الحب الاصطناعي ( ولاشك أن غالبيتنا جربه) ثم رُدَّ على نفسك ، و جرب الحب الثاني : أي الحب الحقيقي ثم رُدَّ عليَّ و على نفسك و على الناس أجمعين .. و ستجد حينها الفروق الألف بينهما.. [email protected]