يتودد التاريخ إلى الأدب، وبالمِثل يتودد الأدب إلى التاريخ. شَدَّت بينهما علاقة قرابة طويلة في الزمن تعيد الصدى الطويل لأنساق التفكير إلى الواجهة…مع سُيولات التحول في مسارات الفكر البشري كان قد استعجلا إعلان وثيقة الفراق، وجَرى ذلك تحت وَقع مدرسة تاريخية فرنسية ظهر فيها شارل سينوبوس وفيكتور لانغلوا في الصدارة، من خلال كتاب مرجعي في هذا الصدد حمل عنوان: "مدخل إلى الدراسات التاريخية". نافح سينوبوس ولانغلوا عن وجوب تسييج المعرفة التاريخية من الدخلاء، وطالبا بنقلها من الهواية نحو التخصص، فظن البعض أن بهذه المحاولة الجريئة، تمَّ تشييع الأدب إلى منتهاه الأخير، وفُصل التاريخ عن الأدب، إلى أن خرج الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، في لحظة التصادم العلني مع رواد مدرسة الأنال الفرنسية لينافح عن مركزية السرد في الكتابة التاريخية. يقول ريكور: التاريخ يظل في النهاية محكوما بالسرد والحِبكة. حديثا، هناك من لا يزال يحمل رواسب هذا التطرف، ويقول: التاريخ ابن عاق للأدب، وعكس ذلك قد يجوز أيضا حسب ذاتية التخصص وانهجاسات الانتماء. مثل هذه المواقف توجد هنا وهناك. القاسم المشترك بين التاريخ والأدب الاشتراك في الذوات…ذوات شَقية تستعطف بالحكي حتى تنقل الألم، وأخرى تبحث عن الهروب من ذاكرة من ذاكرة العنف والعنف المضاد وتعيد صناعة الفرح، وثالثة تنتشي بالبوح والكتارىسيس من هَوس الضمير وعذابات الماضي الأليم، لكن ماذا يُمكن للأديب في أزمنة التكلس أن يضيف إلى حقل التاريخ؟ وهل يمكن للأدب له أن يُبحر بنا بعيدا إلى ضفة مكاشفة الحقيقة التاريخية؟ ومن خلالهما أين يرتاح القارئ أفي لغة الأديب الموسومة بالتخييل والابداع؟ أم في لغة المؤرخ المقَمَّسة من صَنْعة التاريخ؟ حينما تنهجس الرواية بحكي وقائع الزمن الراهن، وتفاصيل ذاكرته القريبة من نبض إحساسات الحاضر ورهاناته الحارقة، هنا يرسم أُفقا جديدا، ويساهم في إعادة إنتاج وقائع أغفلها التاريخ المكتوب، اضمارا أو عَمدا، تبعًا لتجاذبات اللحظة السياسية، ونفوذ مالكي وسائل الانتاج والاكراه الجدد في مصادرة الحق في كتابة التاريخ، ويُعري عن انجراحات ذاكرة الذوات المُنتحبة بالألم…يتعلق الأمر، بألم تتضيق منه الصدور، وتتنطع به العقول من مقاومة آفة النسيان. والحق، أن رواية زمن الخوف للأكاديمي المغربي إدريس كنبوري، الصادرة سنة 2016، عن منشورات طوب بريس، في حوالي 178 صفحة، تعمد إلى استقراء جزء من هذه المُضمرات السرية كما يصفها الصحفي الفرنسي جيل بيرو، وتنتصر لفكرة المصارحة قبل المصالحة. هي إذن، رواية إبداعية تحدد مبتغى واضح جدا: العودة بسردية الحكي إلى المطمورات المتقعرة في أقبية النسيان في تاريخ زمننا الراهن. تكتب الرواية عن القبيلة في المغرب، عن انقساميتها السياسية، وعن توافقاتها الداخلية، عن استمرارية معادلة الانشطار والانصهار، عن التقاذفات المعيبة التي جعلت مغاربة الاستقلال يتدافعون نحو اقتسام تَركة الرجل الأبيض…وضع جديد صُنع في المغرب، وبهندسة اجتماعية جديدة، حكم على المقاوم أن يقتعد كراسي البؤس والحرمان، ومن الخائن أن يجلس في كرسي السيادة والنفوذ. تتوسل الرواية بجنس الحكاية. تحكي عن مقتل ذئب، تفرق دمه بين قبيلتين متجاورتين بمنطقة الغرب، الأولى تدعى قبيلة بوحزيطات، والثانية تدعى قبيلة الحشالفة، وسط غابة من أشجار وقفت حجابا بين قبيلتين متناحرتين، وبينهما مخزن شبح وقف متفرجا أمام ذئب ينهش شاة، ولكن هل يأكل المخزن الذئاب؟ (ص12)، لابد أن يكون هذا الذئب اللعين، الذي يحدث كل هذه الجَلبة أكثر من حيوان (ص 17)، ولابد أن يكون مقتله مجلبة للعار (ص 26). تدور أحداث الرواية كلها داخل فضاء القبيلة، وتسترغب في مكاشفة دهاليز مؤسسة "اجماعة"، والأمر هنا يتعلق من حيث التوصيف، بتنظيم اجتماعي وسياسي فاعل في ضبط التوازنات الاجتماعية والاقتصادية، يرأسه أمغار يدعى "سيدي بوغالم"…يصير المشهد كالتالي: قبيلة حكيمة في مقابل قبيلة جسورة…حِكمة قبيلة بوحزيطات، مقابل جسارة قبيلة الحشالفة المدعومة من طرف رجال المخزن والحزب الجديد التي تهافتت على أراضي الغير، بمباركة من السادة الجدد. قَتْل الذئب سيزعزع استقرار القبيلة، وسيجر عليها أكبر النكبات بسبب تحكيم جائر، فالصبيحي مثلا قَسم ألا يجالس الناس، وأن لا يخرج من بيته، وأن لا يصلي في جماعة، والدعدوع لم يظهر له أثر منذ الحادث (ص 35)، بينما والد الدعدوع نزل إلى المدينة، وساءت طبائعه فسرقته إحدى النساء، واختفى عن الأنظار، وقيل مات، وقيل حصل على الأوراق، فهاجر إلى دولة أخرى ليعيش ما تبقى له من العمر هناك، أما أم الدعدوع تقطع قلبها على رحيل ابنها، وأضحت تائهة في الدروب باحثة عنه، وفي كبدها لوعة الغياب، إلى أن أدركتها يد المنون حزنا على فراق لم تكتبه الموت (ص37). في الرواية، تحضر شخصية المعلم "عبود". يبدو عبود شاهد أمين على توثيق الذاكرة، وناقل منصف لشواهد الماضي إلى أجيال الحاضر من خلال التدوين وتقصي الأخبار. عبود هذا، صوت العقل في مواجهة سراديب الفقه المتكلس، وصوت الحكمة في مجابهة نعرات التطرف والعصبية. تحضر دروس التاريخ داخل القسم وخارجه، وهي دروس عن الاستعمار والمقاومة والحركة الوطنية حتى يتحقق الأمل، أمل توضيح الأشياء واستجلائها، وحتى تنتصر روح المصالحة المفقودة. تنشغل الرواية كثيرا بالتاريخ، وتنقل دروسه الكبرى، فالتاريخ شيء مخيف، لأن الناس تخشى التحديق في الخلف، حتى لا تسقط (ص 63). ليس التاريخ الحقيقي مكتوبا جُلُّه، لكنه ما يزال موجودا في صدور الرجال، يعيشونه كقصص، لا كتاريخ، وهذا ما حصل مع حادث الذئب. التاريخ ليس ذئابا وحيوانات، التاريخ وقائع (ص59)، هكذا يُلقي المعلم عبود إلى بطل الرواية أحمد بثقل توثيق ذاكرة الذبح؛ مذبحة سوق أربعاء الغرب بين قبيلتي بوحزيطات والحشالفة، وكشف تجاذبات السياسة والسياسيين، بين من ناصر حزب الشورى والاستقلال، وبين من أيَّد حزب الاستقلال…ففي سوق أربعاء الغرب ذُبح الناس مثل الدجاج، وسُرقت الأراضي بالقوة، تحت مباركة الحزب الجديد، دون تدخل من الدولة، لأن الدولة هي الحشالفة أنفسهم (ص 73). في مقابل ذلك، تبرز شخصية عَلُّولة داخل قبيلة بوحزيطات، وهي شخصية واشية، وناقلة للأخبار إلى العدو، وستكون وراء وشاية توجه أعيان القبيلة نحو الرباط، لإعلام السلطان محمد بن يوسف بتجاوزات قبيلة الحشالفة، ومن خلالها استفادة فئات من مغرب ما بعد الحماية، المغرب الذي خرج منه المسلمون ودخل إليه النصارى (ص 95). "…لو كنت أعرف أن أمثال هؤلاء هم الذين سيرثون الفرنسيين لما قاتلت، لدخلت بيتي وقعدت أنتظر الموت، الموت خير من حياة كهذه…" (ص132)، بهذا يَصدح حكيم القرية سيدي بوغالم بعد سكوت طويل، أهذا هو الانسان الذي كان؟ أين نبض الحياة وحركتها؟ أين الذكريات والتاريخ الذي يقول المعلم عبود أنه في صدور الرجال؟ أين صدر والدي الذي مات بسبب الكمد" الفقصة"(ص 137)، وكأن قَدر قرية بوحزيطات أن يُكتب عليها الهَمّ، تصارع الطبيعة، وتصارع السلطة سواء بسواء، أي حكمة موجودة في السماء؟ (ص 142). حزب الاستقلال، سادن جديد في مغرب الاستقلال، أنشا سجونا في عدة أماكن لتأديب من يخالف رأيه…حضر في. الرواية سجن "الدادة" و"دار بريشة" تعبيرا عن معتقلات الشوريين من حاملي شعار: "المغرب لنا لا لغيرنا"، "…فلا أحد ينظر إلى السماء وقت المطر، لكنك يجب أن تفتح عينيك وتنظر إلى الخلف، أنتم تعيشون ماضيكم من جديد في كل مرة ولذلك لا تستطيعون النظر إليه لأنه يتحرك فيكم كل وقت…". (ص 166). ختاما، "رواية زمن الزمن" تتأتى قراءتها في اقتراب مع مُنجز "أدب الاعتقال" المكتوب حول مغرب ما بعد الاستقلال، وهي فُسحة إبداعية تُعَري عن الحديقة السرية لتاريخ المغرب غير المكتوب، وتكشف عن انجراحات الانطولوجية المغربية المقهورة بطعم السياسة، كما تتحدث عن ثقل فاتورة الذاكرة في كتابة تاريخ مغربي، يُسهم فيه الجلاد والضحية بمحبر واحد، في أفق يبتغي تحقيق المصارحة أولا قبل المصالحة، وتلك قصة أخرى لا يعرفها إلا المؤرخ أو من له مزاج المؤرخ.