ملاحظات حول الذوق الفني المعاصر “Nevertheless the passions, whether violent or not, should never be so expressed as to reach the point of disgust; and music, even in situations of the greatest horror, should never be painful to the ear but should flatter and charm it, and thereby always remain music.” Wolfgang Amadeus Mozart إن العصر الذي نعيش فيه يوصف عادة بمجموعة من الصفات، أضيف إليها أنه "عصر الخفة" L'ère de la légèreté . هذه الخفة أضحت مطلوبة في كل شيء. لذلك فكل شيء صار خفيفا خفة لا تحتمل، قياسا على عنوان رواية "ميلان كونديرا"M. Kundera : "L'insoutenable légèreté de l'être ") كائن لا تحتمل خفته(. ملكة جمال العالم عليها بالضرورة أن تكون خفيفة. ونكاية في هذه الخفة ربما، تم ابتكار مسابقة للبدينات، التي لا تحظى بنفس الأهمية، وبنفس القيمة. فمقياس الجمال هو الخفة. هذه الخفة أضحت محسوبة بشكل دقيق. فمحيط خسر المرأة لا يجب أن يتعدى ثمانية وثلاثين سنتمترا إذا هي أرادت أن تدخل في زمرة الجميلات. هذا المقياس يعني أنه يجب على المرأة ألا تدخر أي جهد، أو وقت أو مال، من أجل أن يظل محيط خصرها كما كان عليه عندما كانت مراهقة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن فكرة الحريم، أي مراقبة جسد المرأة والتحكم فيه، ليست موجودة في العالم العربي وحده، وإنما موجودة حتى في العالم الغربي. الفرق الوحيد هو أن الحريم العربي هو حريم مجالي- مكاني، أما الحريم الغربي فهو، إن صح القول، حريم زماني. وحتى بالنسبة للمراهقات، وكذا الطفلات، فقد تم ابتكار مسابقات خاصة بهن يتنافسن فيها على لقب أجمل مراهقة. هذه المراهقة، أو تلك الطفلة التي قد لا يتجاوز عمرها ست سنوات، يجب أن تكون، بالضرورة، خفيفة، لأن الخفة والجمال صارا توأما سياميا. وتنظم بالولايات المتحدةالأمريكية وحدها حوالي خمسة ألف مسابقة كل سنة من هذا الصنف، يصل عدد المشاركات فيها إلى 250 ألف مشاركة. وتثير هذه المسابقات جدلا واسعا وصل إلى الدوائر الحكومية كما حصل في فرنسا، التي عملت على منع هذه المسابقات، أو على الأقل، على تقنينها، من منطلق أنها ترسخ في الفتيات فكرة أن قيمتهن مرتبطة بأجسادهن، ولا تنفصل عنها، فضلا عن تحولهن لمادة دسمة للإعلام، الذي يستغل صورهن بشتى الطرق، وبأبشعها أحيانا. ويطلق على هذه المسابقات اسم:Miss teen وسعيا وراء الخفة، التي أضحت هوسا، ووسواسا يقض المضاجع، تعمل النساء، )وحتى بعض الرجال( في العالم الغربي بجهد جهيد على إنقاص وزنهن، وعلى الحفاظ على وزن مثالي، اعتمادا على آلات رياضية، وعلى أنظمة غذائية محددة، وعلى حميات صارمة. وقد امتد هذا التوجه حتى إلى دول العالم الثالث، خاصة مع ما يمكن أن نسميه ب"عولمة الجمال". فما عاد للجمال نماذج متعددة، وإنما أضحى له نموذج واحد. هذا يعني، من بين ما يعنيه، تنميط الجمال، وبالتالي افقاره بعدما كان غنيا بغنى الحضارات الانسانية، واختلاف الثقافات باختلاف الأزمنة والأمكنة. ارتباطا بالوزن يمكن الحديث عن الأكل. بخصوص هذا الموضوع يلاحظ أنه قد نبتت كالفطر، في كل المدن، محلات للأكلات السريعة والخفيفة Junk Food، ليس في العالم الغربي فحسب، وإنما حتى في بلدان العالم الثالث، وليس في المدن الصناعية الكبرى فحسب، وإنما حتى في المدن الصغرى. بعض هذه المحلات هي فروع لشركات عالمية عابرة للقارات ك"ماكدونالد" على سبيل المثال لا الحصر. ورغم أن هذه الأكلات الخفيفة ضارة صحيا، ويتوقع أن تخفض من معدل العمر المتوقع عند الولادة بسنوات غير قليلة، فالإقبال عليها كبير جدا. بعد تناولك لوجبة غذائية "خفيفة"، يمكنك أن تتناول فنجان قهوة "خفيفة"، مع سيجارة "خفيفة" أيضا، ولتكن إن شئت سيجارة الكترونية، وأن تشاهد برنامجا تلفزيونيا "خفيفا"، وأن تربط تواصلا "خفيفا" مع شخص ما عبر الهاتف أو عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي الكثيرة على شبكة الانترنيت، ولا بأس أن تكون مرتديا ملابس "خفيفة"، وأن تضع سماعات على أذنيك تستمع عبرها إلى موسيقى "خفيفة" هي الأخرى. في الواقع لا تعجبني أبدا، بل وتثير في نفسي الكثير من الأسف والحزن، عبارة: "موسيقى خفيفة "، أو ما يمكن أن أسميه ب Music light. إن القول بوجود موسيقى "خفيفة" معناه أن هناك، في المقابل، موسيقى "ثقيلة". والحال أنه ليست هناك ّأبدا موسيقى يمكن أن نصفها بأنها موسيقى ثقيلة. يقصد بالموسيقى الخفيفة، في العادة، ما يسمى أيضا ب"الموسيقى الشبابية" و"الموسيقى العصرية". الغريب أن هذه الموسيقى، بخلاف اسمها، هي موسيقى ثقيلة على الآذن، ولا تستطيع تحريك الوجدان، ولا النفاذ إلى الروح. توصف هذه الموسيقى بأنها خفيفة، لأن كل شيء فيها خفيف بدءا من كلماتها ولحنها، ومرورا بتوزيعها الموسيقى، وانتهاء بأدائها. ولعل الميزة المشتركة بين كل هذه المستويات هي البساطة. وكما هو ملاحظ فالحديث هنا مركز على الغناء، علما أن الكلمة اليونانية، التي تدل على الموسيقى وهي Mousike لا تعني فقط فن الأصوات، وإنما تعني أيضا الرقص والشعر. أضف إلى ذلك أن من سمات هذه الموسيقى الخفيفة أنها محدودة جدا من حيث الزمن. فهي لا تتعدى في الغالب بضعة دقائق، بينما كانت "أم كلثوم"، على سبيل المثال لا الحصر، تقضي على المسرح قرابة الساعة أحيانا في أداء أغنية واحدة، علما أن كل أغنية من أغانيها كانت تستغرق الكثير من الجهد، ومن الوقت، من أجل كتابتها وتلحينها وتوزيعها موسيقيا. إن انتاج الأغاني الخفيفة اليوم لا يستغرق وقتا طويلا. وكما أن انتاجها يكون سريعا فاستهلاكها يكون سريعا أيضا. مثلها في ذلك مثل انتاج واستهلاك الساندويتش. وعصرنا هذا هو "عصر الساندويتش"Sandwich . كل شيء فيه سريع وخفيف. حتى أنه يمكننا تشبيه موسيقى اليوم ب"ساندويتشات صوتية". رغم ذلك فهذه الأغاني هي التي يقبل عليها "الجمهور" عادة) من هو يا ترى هذا الجمهور ؟(!!. وهو الذي يطلبها. مشاهدة البرامج الغنائية يؤكد الاقبال على أصناف معينة من الموسيقى دون غيرها. قد يقول قائل: "الأذواق لا تناقش". والحال أن الأذواق تناقش أيضا. فالذوق، على غرار أشياء أخرى كثيرة، يحدد هو الآخر اجتماعيا. بعبارة أوضح: "قل لي إلى أي موسيقى تستمع، أقول لك إلى أي طبقة اجتماعية تنتمي". هذا ما يؤكده علماء الاجتماع وفي مقدمتهم "بيير بورديو"P. Bourdieu. عادة ما تكون ذريعة الفنانين، ومن وراءهم شركات الانتاج الفني، هي: "هذا ما يريده الجمهور". في الواقع، ما أبأس موسيقى تنتج تحت الطلب !! يحكى أن "بتهوفن" L.V Beethoven عندما أصيب بالصمم بدأ في تأليف سمفونيات غير مألوفة، تتميز بكونها غاية في الصعوبة والتعقيد. الشيء الذي عرضه لمجموعة من الانتقادات، كان يرد عليها بأنه يبدع للأجيال القادمة. فهو لم يرضخ لطلب الجمهور. لو أنه رضخ لكنا طبعا قد حرمنا من سمفونيات خالدة. إن الموسيقي الحق هو الذي يبدع أنغاما تجد طريقها السريع إلى الناس، حتى ولو لم تكن مستساغة لديهم، وغير مقبولة، وربما حاربوها في البداية بشتى الوسائل. كثير من الفنانين )ليس في الغناء فحسب وإنما في مختلف المجالات الفنية( تعرضوا في مرحلة ما من مراحل حياتهم الفنية، وخاصة في البداية، لصعوبات كثيرة، إذ لم يتذوق الناس أعمالهم، فهاجموها، وبقسوة أحيانا، لكن صبر هؤلاء ومثابرتهم، وإيمانهم القوي بموهبتهم، جعلهم يواصلون مسيرتهم، إلى أن تمكنوا في الأخير من غزو قلوب الناس، وصاروا محبوبين لديهم. ما يقف وراء انتاج أغنية ما تلبية لرغبة الجمهور، هو الرغبة في تحقيق النجاح "التجاري"، أي أن المتحكم في العملية برمتها هو هاجس الربح. لذلك فهذا النجاح لا يعني بالضرورة أنه نجاح "فني". الشهرة شيء لكن الفن شيء أخر مختلف تماما. يمكن لشخص ما أن يكون مشهورا لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنه فنان، علما أن النجم – الموسيقي في موضوعنا هذا- بات يصنع. وتلعب وسائل الاعلام المختلفة دورا أساسيا في هذه الصناعة. فمن الأشياء المبتدعة في وقتنا هذا بخصوص الموسيقى نجد المسابقات الموسيقية. ففي كل أركان العالم هناك الكثير من هذه المسابقات، التي تفرخ، في كل سنة، العديد من المغنيين والمغنيات، الذين يتشابهون إلى حد لا يطاق، يسمون نجوما، لكن سرعان ما يأفل نجمهم بحلول دورة جديدة للمسابقة، إذ تسلط الأضواء على وجوه جديدة.. وهكذا دواليك تدور العجلة، وتستمر في الدوران إلى ما لا نهاية. ولابد من الإشارة إلى الاقبال الكثيف على هذه المسابقات من قبل الشباب، لأنها تعد بوابة النجاح، كما هو محدد اجتماعيا، علما أن الأحلام والطموحات لم تعد كما كانت فيما مضى، إذ تغيرت هي الأخرى، لتواكب متطلبات العصر. شخصيا لا أحب تلك المسابقات، إذ لم يسبق لي أبدا أن تتبعت أي واحدة، لا عربية ولا اجنبية، وليس في نيتي أن أفعل ذلك أبدا. لا أعتقد أنها تضيف جديدا للفن باعتباره عنصرا أساسيا في بناء هوية أي مجتمع. ولأنها ناجحة جماهيريا ستتواصل تلك المسابقات، وستتكاثر على الأرجح. فالجميع، على ما يبدو، بات يرغب في الغناء. يدفعنا هذا الأمر إلى طرح الكثير من الأسئلة، منها: كم يبلغ عدد المغنيين والمغنيات العرب اليوم؟ شخصيا لا أعرف. دوما هناك وجوه جديدة. لقد بثنا نعاني ما أسميه ب"تخمة فنية". غير أن هذا الوضع لا يمنع من أن يظهر، من حين لآخر، مغني ما، يصبح بين عشية وضحاها، شهيرا، محليا أو حتى عالميا. لنتذكر بهذا الخصوص أغنية ""جانجنام ستايل" Gangnam styleللكوري الجنوبي "بسي"Psy، التي شاهد الفديو كليب الخاص بها حوالي مليار شخص عبر العالم، ورقصت على ايقاعها شخصيات عالمية. وطبعا من الصعب على أي فنان من الفنانين الجدد أن يحافظ على نجوميته طويلا. الأمر لا يتوقف على الفنان ذاته، إذ لا يعدو هذا الأخير كونه حلقة في سلسلة تستدمجه في حركيتها، وما تلبث أن تتجاوزه. فعبوره هو الآخر يجب أن يكون "خفيفا". عمر الأغاني اليوم لا يتعدى أحيانا بضعة أسابيع. ينطبق عليها قانون الحب ذاته، الذي تحدث عنه "ابن حزم" في كتابه "طوق الحمامة": فكما أن ولادتها تكون سريعة فنهايتها تكون سريعة أيضا. يمكن القول إن للأغاني مدة صلاحية محدودة. وهي تختلف من أغنية إلى أخرى. وعندما تنتهي هذه المدة تنسى الأغنية ببساطة. إن أغاني اليوم ليس لها تاريخ، وليس لها ذاكرة. إن الموسيقى ميزة خاصة بالإنسان وحده دون غيره من الكائنات الأخرى. فهو "حيوان موسيقي" Homo musicus. صحيح أن للبلابل موسيقى، وللبحر موسيقى، وللريح موسيقى...لكن هذه الموسيقى معطاة في الطبيعة. وهي تعزف بنفس الشكل منذ الأزل. فبالبلابل لم تتعلم كيف تغني أبدا، وإلا لكان بوسعها أن تغير موسيقاها من زمن إلى أخر، ومن مكان إلى أخر، كما هو حال الإنسان، الذي أبدع الموسيقى، ثم حاول فهمها وتفسيرها فأوجد لها علما خاصا بها سمي علم الموسيقى Musicologie. كما يوجد علم أخر يخص الموسيقى ويسمى Ethnomusicologie. ينطلق هذا العلم من كون الموسيقى ظاهرة اجتماعية. وهو يدرس مختلف الأشكال الموسيقية في سياقها الاجتماعي والثقافي. ويركز أصحابه اهتمامهم على ما يسمى بالموسيقى الاثنية، أو ما يسمى أيضا بالموسيقى الفلكلورية، لكن من منطلق النزعة الأوربية التي تميل إلى التمركز حول الذاتEuropéocentrisme . شخصيا أعشق الموسيقى الافريقية والموسيقى الأسيوية العريقة وحتى موسيقى سكان أستراليا الأصليين، لأنها ببساطة موسيقى أصيلة. علوم الموسيقى السابقة الذكر حديثة العهد نسبيا لكن الموسيقى في حد ذاتها ليست بحديثة العهد، وإنما هي قديمة، ربما قدم الوجود الإنسان ذاته. قبل اكتشاف اللغة كان الانسان يستخدم صوته كأي حيوان في الغابة. وأكيد أنه كان يميل إلى تقليد أصوات الطبيعة. ثم صنع فيما بعد ألات موسيقية، نصفها اليوم ب"البدائية"، من أشياء من الطبيعة كعظام الحيوانات مثلا. وفي هذا السياق نشير إلى أن هناك بحوث ترجع ظهور الموسيقى إلى خمسين ألف سنة قبل ميلاد المسيح. لم يوظف الإنسان الموسيقى لغاية محددة بعينها. كانت الموسيقى تستخدم في جوانب حياتية كثيرة من حياة هذا الإنسان. ومن أهم هذه الجوانب: العبادة، والاحتفال، والحزن، والحرب،إلخ. من الناحية التاريخية، ارتبطت الموسيقى بالمقدس ارتباطا وثيقا، إذ استخدمت في البداية لأغراض دينية وسحرية. والاطلاع على الموسيقى التي كانت سائدة في المجتمع اليوناني القديم أو في المجتمع الهندي القديم يؤكد هذا القول. ما يلاحظ اليوم هو أن الموسيقى باتت تميل، شيئا فشيئا، إلى أن تقتصر على الجانب العاطفي للإنسان. فالأغاني التي موضوعها الحب هي الأغاني السائدة في عالم اليوم. وهذا توجه عالمي، يتماشى مع الطابع الخفيف للموسيقى المطلوبة في هذا العالم. غير أن هذا القول لا يعني أنه ليست هناك أغان تهتم بجوانب أخرى عدا الجانب العاطفي. الحقيقة أن هناك أغان وطنية جميلة. لكن انتاجها، في الغالب، يكون مناسباتيا: فزحف الربيع على بعض البلدان العربية كان وراء ظهور مجموعة من الأغاني الممجدة للوطن، والتي تحث على ضرورة حمايته، والحفاظ عليه. كما أن هناك أغان موضوعها الإنسان كإنسان، أي بغض النظر عما يفرق بين البشر كالدين أو الجنس أو العرق...بالإضافة إلى أغان تدعو إلى الحفاظ على الطبيعة، وإلى الحيلولة دون استنزافها. وذلك بهدف ضمان ديمومة خيراتها، حتى تتمكن الأجيال القادمة من الاستفادة منها. وطبعا هناك أغان دينية، تمجد الله، وتثني عليه، وتصلي على رسله، وتتغنى بفضائل الدين وقيمه،إلخ. وفي إطار الموسيقى الدينية يمكن الحديث عن الموسيقى الصوفية، التي هي "موسيقى إلهية" بامتياز. وعادة ما ترتبط الموسيقى في الصوفية بالسماع. من بوسعه أن ينصت إلى ناي يتأوه دون أن يهتز وجدانه، وتتحرك أشجانه، ويهتاج شوقه، إلى أن يفيض دمعه، فيدخل في "حالة" وجدانية لا يعرفها من لم يكن صوفيا. وقد كتب جبران خليل جبران أن الناي أبقى بعد أن يفنى الوجود. غير أن الموسيقى لم تستخدم في المجالات السالفة الذكر وحدها. وهي، إن صح التعبير، مجالات "خيرة""، بل استخدمت أيضا لأغراض "شريرة"، كبث الحماس في المحاربين، لتشجيعهم على القتل، وكوسيلة للتعذيب. المعروف عن الموسيقى أنها تبهج، وحتى إن هي أحزنت تحزن بشكل لطيف، لكن أن تعذب فهذا شيء يبدو غريبا. أكدت دراسة بريطانية نشرت بمناسبة الاحتفال بالذكرى الأربعين للانقلاب على "أغوستو بينوتشي" A. Pinochet بالشيلي Chili ، على أن الموسيقى كانت تستخدم، كوسيلة، إلى جانب طبعا وسائل أخرى كثيرة، لتعذيب المعتقلين السياسيين. لقد لجأ الجلادون التابعون لهذا النظام الديكتاتوري، إلى الموسيقى للنيل من نفس المعتقلين السياسيين، وللفتك بجهازهم العصبي، وللإضرار بأجسادهم، من خلال تشغيل أغان شعبية بصوت عال ولأيام متعاقبة كأغاني "داليدا" Dalidaو"خوليو اغليسياس" J. Iglisais و"جورج هاريسون" G. Harrison ، إلخ. ورغم كل شيء تبقى للموسيقى مكانتها الهامة في حياة الإنسان. ووعيا منه بأهميتها فقد بات الإنسان يستخدمها في مجالات حيوية بالنسبة له، كالمجال الطبي، إذ أصبحت وسيلة علاجية للكثير من الأمراض، التي يعج بها عالمنا المعاصر. نتحدث عما يسمى بالموسيقى العلاجية. كما باتت تستخدم في المجال التربوي، حيث توجد موسيقى تربوية يمكن أن تساعد التلاميذ على استيعاب أكبر للدروس، وعلى جعلهم أكثر عطاء وإبداعا. ووعيا بأهميتها فقد قيل في الموسيقى الشيء الكثير، ومنذ قرون طويلة خلت. ف"شوبان" Chopinمثلا، كان يقول إنه يريد أن ينفجر بالموسيقى. وكان "أندري مالرو" A. Malraux يقول إنها الشيء الوحيد، الذي يستطيع أن يتحدث عن الموت. أما "رولان بارت" Barthesفقد كان يقول إنها تجعلنا تعساء بشكل أفضل. بينما كان شارل بودلير C. Baudelaire يقول إن الموسيقى تخترق السماء. أما "فريدريك نيتشه" Nietzsche فقد كان يعتبرها شكوى صوتية. وهي التي ألغت، في نظره، احتمال أن تكون الحياة خطأ، ويؤكد على أنه بقدر ما يكون الإنسان موسيقيا بقدر ما يصير فيلسوفا. في حين كان أفلاطون Platonيعتقد أنها تهيء روح الإنسان للخير عن طريق الجمال. وقد تم تناول موضوع الموسيقى في الكثير من الأعمال الفنية بأصنافها المختلفة. ففي مجال الرواية مثلا نعثر على شخصية متميزة بحبها الكبير للموسيقى سواء عزفا أو غناء أو رقصا. نقصد طبعا شخصية "زوربا اليوناني"Zorba the Greek ، الذي هو بطل رواية تحمل نفس الاسم لصاحبها "نيكوس كزانتزاكيس"N. Kazantzakis، والتي ترجمت إلى العديد من اللغات العالمية، منها اللغة العربية. لا يتخلى زوربا أبدا عن آلته الموسيقية، التي هي "السانتوري". وهي ألة موسيقية وترية معروفة في اليونان. وقد كان يحملها معه أينما حل وارتحل، ويرفض التخلي عنها مهما كان السبب. كان يعزف عليها ويغني ويرقص كلما وجد نفسه ممتلئا سواء فرحا أو حزنا. عندما توفي ابنه الصغير مثلا رقص حتى قيل إنه مجنون، لكنه لولا الرقص لما استطاع أن يوقف الألم، ويحمي نفسه من الجنون. وقد تحولت هذه الرواية إلى فيلم سينمائي أخرجه "مايكل كاكويانيس" M. Cacoyannis سنة 1964. وهو من بطولة "أنطوني كوين" A. Quinn. الفيلم رغم جماليته لا يغني أبدا عن قراءة الرواية. في مجال السينما أيضا يمكن الوقوف على فيلم "أماديوس"Amadeus ، لصاحبه "ميلوس فورمان" M. Forman. وهو من بطولة "موراي أبرهام" F. M. Abraham ، و"طوم هولس"T. Hulce . وقد ظهر سنة 1984، وحصل على مجموعة من جوائز الأوسكار، من بينها أوسكار أفضل فيلم. هذا الفيلم، يدور في فييناVienna ، يوم كانت فيينا عاصمة الموسيقى العالمية، ولا أدري لماذا فقدت ريادتها العالمية في هذا المجال، الذي اشتهرت به، وكان يضرب بلياليها الموسيقية المثل، حتى أن أسمهان، الفنانة العربية، خصتها بأغنية شهيرة هي ليالي الأنس في فيينا . ويصور الفيلم قصة موت المؤلف الموسيقي الشهير "موزارت" W. A. Mozart(طوم هولس). وحسب الفيلم فقد كان المؤلف الموسيقي الايطالي "أنطونيو ساليري"A. Salieri (موراي أبرهام) هو الذي يقف وراءه. لكن بينت دراسات حديثة أن "ساليري" بريء من تهمة تسميم صاحب " Don Giovanni"، و"Noces de Figaro". لذلك هناك محاولة لإعادة الاعتبار لهذا المؤلف الموسيقي في مسقط رأسه بايطاليا، إذ يعاد عزف مؤلفاته الموسيقية، رغبة في احياء تراثه الموسيقي، الذي يحوي ما يناهز أربعين أوبراOpéra . إن الفيلم يعرض عبقرية "موزارت" الموسيقية، التي يقال أن "ساليري" كان يغار منه بسببها. "ساليري" هذا كان مولعا ب"موزارت" وكارها له في نفس الآن. إن موسيقى "موزارت" في نظر "ساليري" تتمتع بجمال مطلق، بل إنها معجزة. وهي تمثل "صوت الرب" The Voice of God، الذي اختار موزارت ليبلغه إلى الناس. لذلك فقد كان ساليري ناقما على الله، معتبرا إياه عدو، يجب القضاء على ذلك المخلوق، الذي اختاره ليبلغ صوته إلى الناس. علما أن شخصية موزارت، كما يصورها الفيلم على الأقل، هي شخصية مستهترة وداعرة وشبه مجنونة، لكنها عاشقة للحياة، ومقبلة كل الاقبال عليها. فقد كان موزارت يقضي أوقاته في الشرب واللهو والمرح مع الأصدقاء، ولا تفارقه، حتى في أحلك اللحظات، وأصعب المواقف وأحرجها، ضحكته العجيبة. لقد كان "موزارت"، حسب الفيلم دائما، واعيا بطبيعة شخصيته، لكنه كان واثقا من جمالية الموسيقى التي يبدعها. كان يعرف أنه إنسان سوقي لكن ما يبدعه موسيقى مثالية، لن يستطيع أن يبدعها غيره. يقول في إحدى حواراته مع الملك : " Forgive me, majesty, I'm a vulgar man, but, I assure you, my music is not وهذا ما يشهد له به "ساليري" ذاته، إذ يقول إن بناءه الموسيقي متكامل ومتناسق بحيث لو حذفت منه جملة موسيقية واحدة انهار البناء كاملا. ولا ننسى طبعا فيلم "البؤساء"Les Misérables، المستلهم من رواية " فيكتور هيجو" V. Hugoالشهيرة، التي تحمل نفس الاسم. صاحب هذا الفيلم الدرامي الموسيقي هو "طوم هوبر".T. Hooper وهو من بطولة "هوج جاكمان" H. Jackman و"راسل كرو"R. Crowe وغيرهما. ويمكن عده "اوبرا سينمائية"، عندما تشاهده لا تستطيع ألا تعيد مشاهدته مرات ومرات دون أن يجد الملل طريقه إليك. مآل القول إن الموسيقى هي الموسيقى فحسب. لا توجد في الواقع موسيقى خفيفة أو ثقيلة، وإنما هناك فقط "موسيقى" أو "لا موسيقى". أو بعبارة أقل حدة، وباستعارة لغة المناطقة، الذين يميزون بين "قضية" و"شبه قضية" يمكن القول إن هناك "موسيقى" و"شبه موسيقى". الموسيقى المقصودة هنا هي، في اعتقادي على الأقل، تلك التي تصنع لك أجنحة، وتطير بك نغماتها إلى أفاق بعيدة. إن الموسيقى تحررك من كل تبعية كيفما كانت طبيعتها. إنها بتعبير "أبو حيان التوحيدي" تسرقك منك وتعيدك إليك". إذا استطاع موسيقي ما أن يسرقك منك ويعيدك إليك فاعلم أنه موسيقي، وأنك تسمع للموسيقى. وبما أن أمرك، في مثل هذه الحالة، لا يعود طوع يديك، فإن ما يفترض بك فعله هو، ببساطة، أن تغمض عينيك، وتستمتع بما يحصل لك..