أمام تراجع فعالية الأساليب التقليدية للتعاون الدولي، التي كانت تهيمن عليها دول الشمال وتعتمد أساسًا على المساعدات والاعانات والمساندة، أصبح من الضروري أن يلعب التعاون جنوب-جنوب دورًا متزايد الأهمية في المستقبل، في ظل عالم يشهد تحولات جيوسياسية واقتصادية واجتماعية عميقة. ومع تطور الديناميات العالمية وتعاظم التباينات في الرؤى الجيوسياسية والمصالح الاقتصادية بين الدول، يظهر التعاون بين بلدان الجنوب كبديل استراتيجي ورافعة أساسية لمواجهة تحديات النمو، والتنمية المستدامة، والتكامل الإقليمي، وتعزيز القدرة على الصمود أمام الأزمات العالمية. كما يوفر للدول النامية فرصة لبناء نموذج شراكة قائم على المساواة والتضامن واحترام الخصوصيات المحلية. السياق العالمي في تحولات عميقة يشهد السياق العالمي تحولات عميقة تؤثر على مختلف جوانب العلاقات الدولية، لا سيما فيما يتعلق بنموذج التعاون شمال-جنوب. فالتغيرات الكبرى التي عرفها المشهد الدولي على مدى العقود الماضية قد ساهمت بشكل كبير في إعادة النظر في طبيعة علاقات التعاون التي كانت سائدة بين دول الشمال ودول الجنوب. ومن بين أبرز هذه التغيرات، يمكن الإشارة إلى التراجع التدريجي للهيمنة الاقتصادية والسياسية لدول الشمال، والتنافس المتزايد بين القوى العظمى مثل الولاياتالمتحدة والصين وروسيا بالإضافة إلى الهند والبرازيل، فضلًا عن أزمة الثقة في المؤسسات متعددة الأطراف، التي باتت تُعتبر غير ملائمة لاحتياجات الدول النامية. إلى جانب ذلك، أدى تزايد الأزمات العالمية إلى إبراز هشاشة بلدان الجنوب أمام التحديات الدولية الجديدة، التي تتمثل في تفاقم التفاوتات الاجتماعية، وارتفاع حدة التوترات في سلاسل التوريد العالمية، والتسارع الملحوظ في ظاهرة التغير المناخي. وفي الوقت نفسه، يشهد الاقتصاد العالمي تحولات جذرية مع صعود قوى اقتصادية جديدة في الجنوب ذاتتأثيرمتزايد، مما يعزز دور الاقتصادات النامية في المشهد الدولي من خلال استثمارات ضخمة في مشاريع التعاون جنوب-جنوب. المقاربة المغربية للتعاون جنوب جنوب بروز استراتيجية شاملة انطلاقًا من وعيه بالتحديات الجديدة الناجمة عن هذه التحولات وتأثيرها على ديناميات العلاقات الدولية، اعتمد المغرب نهجًا استباقيًا ومتعدد الأبعاد لتعزيز التعاون جنوب-جنوب، وخاصة مع الدول الإفريقية. وقد أصبحت هذه المقاربة استراتيجية فعلية تستند إلى إجراءات ملموسة على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، مما عزز دور المغرب كفاعل رئيسي في القارة الإفريقية. فعلى الصعيد الدبلوماسي، وقبل عودته إلى الاتحاد الإفريقي عام 2017، كثف المغرب من الاتصالات وبذل الجهود لبلورة توافقات وإبرام اتفاقيات التعاون مع الدول الإفريقية بهدف تعزيز الحوار السياسي بين الشركاء الإقليميين وتشجيع الحلول السلمية للنزاعات. وقد مكّنه هذا التوجه من لعب دور الوسيط وتعزيز مناخ الثقة، مما ساهم في استقرار المنطقة، بالإضافة إلى تعزيز موقفه في القضايا الوطنية الاستراتيجية، مثل قضية الوحدة الترابية التي تحظى بدعم متزايد من الدول الإفريقية. كما فتح هذا النهج الدبلوماسي الباب أمام المغرب لتوسيع تحالفاته الاستراتيجية، ليس فقط ضمن محيطه القريب، ولكن أيضًا مع تكتلات اقتصادية أوسع في إفريقيا. ويُعد مشروع خط أنابيب الغاز بين المغرب ونيجيريا، الذي يعتزم ربط عدة دول في غرب إفريقيا، مثالًا بارزًا على ذلك. فهذا المشروع، الذي يحمل أبعادًا استراتيجية كبرى، يساهم في تعزيز النمو الاقتصادي لدول المنطقة، وتقوية اندماجها الطاقي، وتقليل اعتمادها على المواردالخارجية مبادرة الدول الإفريقية المطلة على المحيط الأطلسي مشروع بناء كتلة إقليمية متكاملة ومتماسكة ومتضامنة وتندرج مبادرة بناء كتلة إقليمية بين الدول الإفريقية المطلة على المحيط الأطلسي في نفس الإطار، حيث تهدف هذه المبادرة إلى إقامة تحالف استراتيجي للتعاون بين البلدان الإفريقية على الواجهة الأطلسية. وتكتسب هذه المبادرة أهمية متزايدة نظرًا لإمكانياتها الكبيرة في دعم برامج التعاون المسطرةفي أجندة 2063 للقارة الإفريقية. ففي ظل سياق جيوسياسي يتسم بعدم الاستقرار، يمكن لقيام كتلة إقليمية متكاملة ومتماسكة على طول الساحل الأطلسي للقارة أن يلعب دورًا رئيسيًا في تحقيق الاستقرار والازدهار الإقليمي
ذلك أن هذه المنطقة تتميز بمؤهلات متعددة حيث أنها تضم 22 دولة وتمثل ما يقرب من نصف سكان القارة الإفريقية،كما تتمتع بإمكانات نمو هائلة نظرًا لتنوع مواردها الطبيعية، البحرية والمعدنية والطاقية. ومن شأن تطوير برامج استغلال هذه الموارد في إطار التعاون الإقليمي أن يساعد في تحسين إدارتها واستثمارها على المستوى القاري والدولي. كما أن تعزيز التصنيع وتنويع الإنتاج يمكن أن يساهم في إعادة هيكلة الاقتصاديات المحلية، مما يرفع من القيمة المضافة، ويخلق فرص عمل جديدة، ويقلل من الاعتماد على تصدير المواد الخام غير المصنعة على المستوى التجاري، يمكن لدول الواجهة الأطلسية تعزيز نفوذها الاقتصادي عبر التفاوض على شروط أفضل للوصول إلى الأسواق الدولية، وتنشيط تدفقات التجارة مع المراكز الاقتصادية الكبرى في آسيا وأوروبا وأمريكا. كما أن الموقع الجغرافي الاستراتيجي للساحل الأطلسي الإفريقي، المواجه للقارة الأمريكية من جهة، والمجاور لأوروبا من جهة أخرى، يمنحه ميزة تنافسية في تعزيز المبادلات التجارية بين هذه المناطق. وإذا ما تم دمج هذا الفضاء الواسع في مبادرة "طريق الحرير"، فإن العوائد الاقتصادية ستتضاعف، مما يعود بالنفع على المنطقة بأسرها. وعلاوة على المصالح الاقتصادية البينة، فإن هذا التحالف الواسع من شأنه أن يعزز حضور الدول الإفريقية على الساحة الدولية، مما يسمح لها بالدفاع عن مصالحها المشتركة بصوت واحد. كما أن العمل الجماعي ككتلة موحدة يمكن أن يسهم في إقامة شراكات استراتيجية مع مناطق ومنظمات دولية أخرى، بما يحقق مصالح جميع الدول الأعضاء. وفي إطار أجندة 2063، من المتوقع أن تسهم هذه المبادرة في تعزيز اندماج كافة مناطق القارة الإفريقية، وخاصة المناطق المهمشة و الأكثر حرمانًا العلاقات بين المغرب وإفريقيا جنوب الصحراء تعاون متعدد الأبعاد اقتصاديًا واجتماعيًا وإنسانيًا على الصعيد الاقتصادي، يهدف التعاون جنوب-جنوب، وفقًا للرؤية المغربية، إلى تحقيق نموذج نمو مشترك مع الشركاء الأفارقة. وبفضل الجهود المستمرة على مدى أكثر من عقدين، أصبح المغرب أحد أكبر المستثمرين في القارة الإفريقية. وتشمل الاستثمارات المغربية قطاعات متنوعة، مثل البنوك والتمويل، والبنية التحتية والبناء، والزراعة والصناعات الغذائية، والطاقات المتجددة، والاتصالات، والتجارة والخدمات. أما على المستوى الاجتماعي، فيتبنى المغرب مقاربة تضامنية وشاملة تهدف إلى تحقيق التنمية المستدامة. وتشمل مبادراته في هذا الإطار مشاريع السكن الاجتماعي، وبناء المدارس والمستشفيات، بالإضافة إلى برامج التعليم والتكوين التي توفر آلاف المنح الدراسية للطلاب الأفارقة في معاهد التكوين وفي الجامعات المغربية. وفي المجال الصحي، يولي المغرب اهتمامًا خاصًا للتعاون الطبي مع الدول الإفريقية، من خلال تقديم المساعدات الطبية وإرسال الأدوية وتكوين الأطر الصحية. أماعلى الصعيد الإنساني،فإن المغرب يعتمد سياسة هجرة متميزة تهدف إلى دمج المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء اجتماعيًا واقتصاديًا، من خلال تمكينهم من الحصول على الرعاية الصحية والتعليم وفرص العمل. ويتبين مما سبق أن نهج المغرب في تعزيز التعاون جنوب-جنوب يعكس التزامه الراسخ بتنمية شاملة ومستدامة قائمة على التضامن والشراكة الفاعلة مع الدول الإفريقية وغيرها من بلدان الجنوب.فمن خلال تكثيف المبادرات الاقتصادية، والاستثمارات المشتركة، والتعاون في مجالات حيوية كالفلاحة، والصحة، والتكوين المهني، يسعى المغرب إلى ترسيخ نموذج تنموي مبني على المصالح المتبادلة وتقاسم الخبرات. إن تعزيز هذا النهج مستقبلاً يتطلب مواصلة الجهود لتطوير البنية التحتية، وتحفيز الاستثمار، وتوسيع نطاق الشراكات لتشمل مجالات الابتكار والتكنولوجيا. وبفضل موقعه الجغرافي الاستراتيجي، واستقراره السياسي، ورؤيته التنموية الطموحة، يظل المغرب فاعلًا أساسيًا في تعزيز التكامل الإقليمي ودعم التنمية المستدامة في القارة الإفريقية، مما يجعله نموذجًا يحتذى به في التعاون جنوب-جنوب.