ورقة الغاز أضحت سلاحاً قوياً في تدبير العلاقات بين الجزائر وإسبانيا، وأيضاً في حسم الصراع الإقليمي بين الجزائر والمغرب، فقد دخلت الجزائر في توتر شديد مع مدريد مباشرة عقب تحول موقفها من قضية الصحراء، وإعلانها دعم المقترح المغربي للحكم الذاتي، ما أغضب الجزائر، ودفعها لوصف إسبانيا بالغدر واللعب خلف الظهر. بعض المحللين، سارعوا إلى الاستنتاج بأن الجزائر ستتوجه إلى استعمال سلاح الغاز ضد إسبانيا لإجبارها على تصحيح موقفها، لكن غضب الجزائر من الموقف الإسباني، والذي ذهبت بعض وسائل إعلامها الرسمية حد وصفته ب(خيانة)، لم يمنعها من التصرف بعقلانية في هذا الموضوع. فمع أنها اتهمت إسبانيا بالتنصل من التزاماتها الدولية في الصحراء بصفتها دولة متصرفة، فإنه لوحظ في خطاب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، الجنوح للتمييز بين الدولة والحكومة، والحديث عن وجود صداقة بين الجزائر وبين الشعب الإسباني، وأيضاً مع الدولة الإسبانية، وليس مع الحكومة الحالية، وأن الجزائر لن توقف إمداداتها من الغاز لإسبانيا. الرئيس الجزائري ألمح في تصريحه لبعض العناصر التي دفعته لأن يميز بين الدولة الإسبانية والحكومة، وإن كان رفض التفصيل في هذا الموضوع، خشية أن يحسب كلامه على التدخل في الشؤون الداخلية للدول، لكن واضح من كلامه، أن قرار الجزائر الاستراتيجي بعدم التوقف عن إمداد مدريد بالغاز، يندرج ضمن علاقة استراتيجية مع الدولة الإسبانية، وليس مع الحكومة، التي يمكن تغييرها في أي لحظة، فالحكومات تغادر، والدولة تمتلك الخيارات لتصحيح الموقف، وإدراك أهمية الجزائر كشريك استراتيجي، لا يتنصل من التزاماته مع وجود ما يوجب ذلك. رد الفعل الإسباني لم يتأخر كثيراً، فقد رد وزير الخارجية الإسباني خوسي ماريا ألباريس على الحجة القانونية التي استندت إليها الجزائر، معتبراً أن موقف مدريد من الصحراء سيادي، ويندرج ضمن قرارات الشرعية الدولية المؤطرة للنزاع حول الصحراء. التطورات اللاحقة زادت الموضوع تعقيداً، وأدخلت المنطقة في مرحلة جديدة من الصراع عنوانها الأبرز سلاح الغاز، فقد دخلت الجزائر على خط الاتفاق التجاري الذي أبرم بين المغرب وإسبانيا، حول الاستعمال المعكوس لأنبوب الغاز المغاربي، لتمكين المغرب من الغاز الذي اقتناه من السوق الدولية، وتقوم المعامل الإسبانية بمعالجته، إذ أعلن وزير الطاقة والمناجم الجزائري السيد محمد عرقاب، أن الجزائر ستقدم على توقيف إمداداتها من الغاز نحو إسبانيا في حال أقدمت على بيع الغاز الجزائري إلى المغرب، وسمحت بالتدفق المعكوس له عبر خط الأنابيب المغاربي. مدريد تعاملت مع هذا الموضوع باحتياط شديد، فقد سبقت أن أعلمت الجزائر بمضمون الاتفاق التجاري بينها وبين المغرب، وأخذت الجزائر علماً بدخول المغرب السوق الدولية للغاز، ثم حرصت عبر وزيرة الطاقة الإسبانية تيريزا ريبيرا على أن تبعث برسالة إلكترونية لوزير الطاقة الجزائري، تخبر الجزائر بعزمها استعمال خط الأنابيب بشكل معكوس، لتزويد المغرب بحاجياته من الغاز، الذي اقتناه من السوق الدولية، وأن المغرب سيقوم بتفريغ الشحنات في مصنع إسباني، لتتم المعالجة فيه، وتتكلف إسبانيا بمقتضى عقد تجاري مع المغرب، بتحويله في مصنع إسباني إلى غاز طبيعي، وإمداده به عبر الخط المغاربي. مدريد اعتمدت احتياطياً آلية الإخبار المسبق، والتوضيح التفصيلي، لطبيعة العقد التجاري الذي يربطها بالمغرب بخصوص الغاز (تصريحات وزير الخارجية الإسباني)، والتعهد القانوني، وأن الغاز الجزائري ليس معنياً بهذا الموضوع، وأن مدريد لا يمكن لها أن تحول الغاز الذي تورده لها الجزائر إلى طرف ثالث. غير أن هذه الطمأنة من جانب مدريد لم تكن كافية للجانب الجزائري، الذي توجس من وجود تواطؤ بين الرباطومدريد من أجل التحايل على تمكين المغرب من الغاز الجزائري، رغماً عن إرادة الجزائر، ما جعل الجزائر، تلقي بهذه الرسالة التحذيرية، وتهدد بوقف إمدادات الغاز لإسبانيا. المثير أكثر في الموضوع أنه في خضم هذه الديناميات، كشفت وسائل إعلام فرنسية أن نيجيريا حسمت موضوع خط أنبوب الغاز إلى أوروبا، واختارت الجانب المغربي بدل الجزائري، وأن الدراسات قد دخلت إلى مرحلة جد متقدمة، وأن الرئيس النيجيري بدأ يستقبل المستثمرين الذين ينوون الاستثمار في تمويل هذا الخط، وأنه استقبل مؤخراً بمكتبه مستثمرين روساً جادين في تمويل هذا المشروع. هذه التطورات تكشف الأسلحة التي يحاول كل طرف استعمالها، في تدبير العلاقات الثنائية (الجزائر وإسبانيا) وأيضاً في تدبير الصراع الإقليمي في المنطقة (الجزائر – المغرب)، فإسبانيا تدرك أن غضب الجزائر لا يطفئه سوى تغيير موقفها من قضية الصحراء (أي تراجع مدريد عن دعم مقترح الحكم الذاتي)، وتدرك أن عودة علاقاتها مع الرباط لم تكن ممكنة من غير بذل هذا الموقف الجديد تجاه الصحراء، ومن غير إبرام اتفاق تجاري يحل مشكلة المغرب مؤقتاً من التزود بإمدادات الغاز، وتدرك فوق ذلك أن السياق الدولي والإقليمي لا يسمح للجزائر بالمغامرة بقطع الإمدادات من الغاز لها؛ لأن ذلك سيجعلها في صراع مع الغرب برمته. فالولايات المتحدةالأمريكية وحلفاؤها من دول الاتحاد الأوروبي يسعون بكل الطرق للبحث عن خيارات لتعويض الغاز الروسي لا سيما بعدما اتخذت موسكو قراراً بقطع الإمدادات عن كل من بلغاريا وبولندا، وإذا كانت الجزائر قد اختارت اللغة التقنية للرد على وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بأنها غير قادرة تقنياً على الزيادة في حجم الإمدادات من غازها إلى أوروبا، فإنها لن تستطيع أن تجد اللغة التي تقنع بها الغرب، بنيتها قطع الإمدادات عن إسبانيا؛ لأن ذلك يعني أنها تصطف بشكل مباشر مع روسيا، وأن ذلك سيعرضها لخطر مواجهة الغرب برمته. الجزائر تدرك هذه الاعتبارات جميعها، ولذلك، فهي غير متعجلة في معاقبة حكومة بيدرو سانشيز، ولا تملك في الواقع خياراً لذلك، سوى ما كان من بعث رسائل تحذيرية، لكنها تتوجه إلى خيارات أخرى، وهي استثمار الدينامية الداخلية في إسبانيا، والجدل القائم حول تحول الموقف الحكومي. وتزامن ذلك مع اتهامات للمغرب، بالتجسس -عبر استعمال البرنامج الإسرائيلي بيغاسوس- على هواتف مسؤولين إسبان، بما في ذلك رئيس الوزراء بيدرو سانشيز، لإحداث رجة سياسية تنتهي بإسقاط الحكومة، وخلق شروط مراجعة للموقف الإسباني من الصحراء. أما المغرب فإن سلوكه الدبلوماسي اتجه في ثلاثة خطوط أساسية، وهي أولاً التوجه إلى السوق الدولية للغاز لتهيئة الشروط للانخراط كفاعل طاقي في سوق الغاز الدولية لا سيما بعد الإعلان عن احتياطات ضخمة للغاز في كل من حقل تندرارة وحقل العرائش، والثاني محاولة استثمار أنبوب النفط المغاربي، للتقليل من كلفة الإمدادات الطاقية، عبر شراء الغاز المسال ومعالجته في مصنع إسباني، وضمان تدفقه عبر هذا الأنبوب، والثالث استثمار الظرف الدولي والإقليمي للدفع في مشروع أنبوب الغاز النيجيري (المشروع المغربي النيجيري) والإقناع بجدوائيته، بل الإقناع بضرورة تمويله بشكل سريع، بما يضمن لأوروبا خياراً جدياً لتقليص ارتهانها للغاز الروسي (نجح في الحصول على قرض من أوبك لإنجاز دراسات لهذا المشروع). التقدير أن الأطراف الثلاثة لا تريد للصراع أن يصل إلى نقطة تصعيدية، وأنها جميعاً تلعب على عنصر الزمن. الجزائر بعثت برسالة تحذيرية ثانية، وهي تخفيض نسبة إمداداتها لإسبانيا بالربع حتى تمنع أي إمكانية للتحايل على غازها، مع الرهان على الوقت، لخلق شروط إسقاط الحكومة الإسبانية. وإسبانيا، تركب لغة الطمأنة والإثبات (تمكين الجزائر من وثائق وفواتير شراء المغرب للغاز من السوق الدولية)، حتى تقنع الجزائر بأنها لن تمكن المغرب من الغاز الجزائري، مع التأكيد أن موقفها من الصحراء سيادي، وأنه يدخل ضمن حسابات استراتيجية دقيقة. والمغرب، يستثمر اللحظة بكل عناصرها، لتقوية موقفه، عبر عودة العلاقات مع إسبانيا، وفي الوقت نفسه، تأمين دور إسباني في تمكينه من ضمان أمنه الطاقي، واستثمار الحرب الروسية على أوكرانيا، لحسم الموقف، في اتجاه اختيار نيجيريا لشريكها المغربي في مشروع أنبوب الغاز نحو أوروبا، وتوسيع خيارات تمويله، وتأمين حاجته من الطاقة من السوق الدولية عبر إسبانيا، ريثما يصير قادراً على تأمين كفايته ببدء الإنتاج الفعلي للغاز من الاحتياطات الضخمة التي أعلن عن عثوره عليها في كل من حقل تندرارة وحقل العرائش.