مقدمة : الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. اما بعد : تعود نشأة المذاهب الفقهية إلى بداية الإسلام، وخاصة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم، حيث اجتهد صحابته وأتباعه والمسلمين عامة في تطبيق أقواله وأفعاله ،و مع انتشار الإسلام وتوسعه وتعرضه للكثير من القضايا الجديدة الدينية والتشريعية كانت هناك حاجة ملحة للخروج باجتهادات لهذه القضايا الفقهية المستجدة وتلبية حاجات الناس والإجابة عن تساؤلاتهم ومن هنا نشأت جماعة من المتفقهين ( العالمين ) في الدين تُعلِّم الناس في كل إقليم شؤون دينهم ودنياهم، ثم إن التوسع الجغرافي للإسلام وتنوع البيئات التي انتشر بها،وأيضا قابلية الكثير من النصوص الشرعية الإسلامية للإجتهاد فيها حسب الظروف والحالات أديا إلى نشوء مدارس فقهية منتشرة في الأمصار الإسلامية، وأصبح لكل عالم فقيه أتباع يعملون على نشر فتاواه وحتى العمل ضمن القواعد التي يضعها لإصدار فتاوى جديدة ،والمذاهب الفقهية التي انتشرت بشكل واسع عند أهل السنة وأصبحت رسمية في معظم كتبهم هي حسب ظهورها: مذهب أبي حنيفة النعمان. مذهب مالك بن أنس. مذهب الشافعي. مذهب أحمد بن حنبل. وهذه المذاهب ما هي إلا مدارس فقهية ولا يوجد بينها اختلاف في العقيدة، كما أن هناك مذاهب فقهية أخرى غير هذه الأربعة لكنها لم تنتشر ويحصل لها الاشتهار مثل هذه المذاهب الأربعة. وفيما يخص مذهب الامام محمد بن ادريس الشافعي والذي هو موضوع المقال سنتعرف عليه من خلال المحاور التالية : التعريف بإمام المذهب الشافعي أصول الاستنباط العامة في المذهب تلاميذ الامام الشافعي كتب المذهب الشافعي اسمه ونسبه : هو الامام ابو عبد الله محمد بن ادريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن سائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هشام بن المطلب بن عبد مناف المطلبي القرشي , ينتهي نسبه الى عبد مناف جد النبي صلى الله عليه وسلم , وشافع بن السائب هو الذي ينسب اليه الشافعي . مولده ونشاته: ولد الإمام الشافعي بغزة , وقيل : بعسقلان , وقيل باليمن , سنة (150ه) , وهي السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت , وقيل : في اليوم الذي مات فيه . توفي والده بعد ولادته بقليل, فحملته أمه إلى مكة لينشأ وهو طفل لم يتجاوز السنتين بين بني قومه بني المطلب القرشين. وفي هذه المرحلة من حياته حفظ القران الكريم , ثم (الموطأ) ,وتردد على قبائل العرب ,وخاصة قبيلة هذيل , فتلقى اللغة العربية صافية من ينابيعها دون لحن . أصول مذهب الامام الشافعي : يعد الإمام الشافعي أول من صنف في أصول الفقه, ورسالته التي ألفها في هذا العلم هي أول مصنف فيه وصل إلينا, وبهذا يكون الشافعي قد انفرد بتدوين أصول مذهبه, فكفى أتباعه العبء الذي تحمله غيرهم, باستنباط أصول مذاهبهم من فروعهم, وقد رتب الشافعي أصول استنباطه , وتحدث عنها بالتفصيل وأجملها في أكثر من موضع من كتابيه : (الرسالة) و(الأم) . ومن أقوال الشافعي الدالة على اصول مذهبه: قوله في كتاب (الأم): (إنما الحجة في كتاب, أو سنة, أو أثر عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, أو قول عامة المسلمين, لم يختلفوا فيه, أو قياس داخل في معنى بعض هذا). إذا فالأصول الفقهية للمذهب الشافعي خمسة, وهي على الترتيب التالي: الأصل الأول : كتاب الله تعالى فالقران عند الشافعي هو أصل الدين, والمصدر الأول لتشريع, فقد قال رحمه الله (فليست تنزل في احد من أهل دين الله نازلة الا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها). الأصل الثاني : السنة ولكنه مرة يجعلها في مرتبة واحدة مع القران, فيقول : (العلم طبقات شتى : الأول الكتاب والسنة إذا ثبتت . . .) ومرة يجعلهما مرتبتين, فالأولى: الكتاب, والثانية: السنة فيقول كما مر أنفا: ( . . .والإتباع: إتباع كتاب, فإن لم يكن, فسنة. . .) والظاهر انه إنما أراد بيان أن السنة مبينة للقران ومفصلة له, وهكذا تكون مع القران في مرتبة واحدة, أو هما في مرتبة واحدة من حيث وجوب العمل بهما, وفي مرتبتين من حيث الرجوع اليهما. وقد تصدى الشافعي للرد على فئات ثلاث تنتسب إلى الإسلام, ويجمعها إنكار حجية السنة, أما الطائفة الأولى: فقد أنكرت حجية السنة كلها, وأنكرت الطائفة الثانية: ما زاد منها على القران, وأنكرت الطائفة الثالثة: حجية أخبار الأحاد, أو أخبار الخاصة كما يسميها الإمام الشافعي . فالشافعي يعد كل ما ليس متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم والمتواتر هو بتصريحه: خبر العامة عن العامة, خبر أحاد, وحكمه فيه قبول خبر الصادق ولو كان واحدا. والسؤال: ما مقياس صدق الرواية, وقبولها عند الامام الشافعي ؟ لقد صرح الشافعي بذلك في قوله : (لا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا, منها: أن يكون من حدث به ثقة في دينه, معروفا بالصدق في حديثه, عاقلا لما يحدث به, عالما بما يحيل معاني الحديث من اللفظ. وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع, لا يحدث به على المعنى, لأنه إذا حدث على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه لم يدر, لعله يحيل الحلال الى الحرام, وإذا أداه بحروفه, فلم يبق وجه يخاف فيه احالته للحديث. حافظا إذا حدث به من حفظه, حافظا لكتابه إذا حدث من كتابه. إذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم. بريئا من أن يكون مدلسا يحدث عن من لقي مالم يسمع منه,ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحدث الثقات خلافه عن النبي صلى الله عليه وسلم . ويكون هكذا من فوقه ممن حدثه حتى ينتهى بالحديث موصولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى من انتهى به إليه دونه, لأن كل واحد منهم عما وصفت. الأصل الثالث : الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة فقد قرر الإمام الشافعي أن الإجماع حجة, ويأتي في المرتبة الثالثة بعد الكتاب والسنة, واستدل على ذلك بقوله تعالى: ( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )(النساء:115( ومن قوله في تقرير هذا الأصل على الترتيب المذكور:(والعلم من وجهين: اتباع, أو استنباط . والإتباع: اتباع كتاب, فإن لم يكن, فسنة, فإن لم تكن, فقول عامة من سلفنا لا نعلم له مخالفا). الأصل الرابع : قول الصحابي إذا لم يعلم له مخالف وهو حجة عنده إذا خلت المسالة من كتاب أو سنة أو اجماع, كما مر انفا. قال الإمام الشافعي في كتاب (الأم):(ما كان الكتاب والسنة موجودين, فالعذر عمن سمعهما مقطوع الا باتباعهما, فإذا لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم , أو واحد منهم,ثم كان قول الأئمة أبي بكر, أو عمر, أو عثمان, إذا صرنا فيه إلى التقليد, أحب إلينا, وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف من الكتاب والسنة, فنتبع القول الذي معه الدلالة). ثم قال بعد ذلك معللا: (لأن قول الإمام مشهور بأنه يلزمه الناس,ومن لزم قوله الناس, كان أشهر ممن يفتي الرجل أو النفر, وقد يأخذ بفتياه أو يدعها, وأكثر المفتين يفتون للخاصة في بيوتهم ومجالسهم, ولا تعنى العامة بما قالو, عنايتهم بما قال الامام). الأصل الخامس : القياس, وهو في المرتبة الخامسة, فقد قرر الإمام الشافعي أن الفقيه حين لا يجد شيئا من المصادر السابقة,فإن عليه أن يجتهد في تعرف الحكم الشرعي. و (الإجتهاد) و (القياس):اسمان لمعنى واحد. وقال موضحا مرتبة القياس من الأدلة:(وجهة العلم بعد الكتب, والسنة, والإجماع, والأثار: ما وصفت من القياس عليها) تلاميذ الإمام الشافعي : للشافعي تلاميذ كثر منهم العراقي و الحجازي و المصري، نكتفي هنا بذكر أشهرهم وهم: البويطي : و هو يعقوب يوسف بن يحي البويطي، نسبة إلى (بويط) قرية في صعيد مصر، و هو من أكبر تلاميذ الشافعي، و هو خليفته في حلقته من بعده. و كان من العباد القوامين الصوامين، و قد سجن في بغداد في محنة القول بخلق القرآن، و كان هو في السجن إذا كان يوم الجمعة من كل أسبوع غسل ثيابه واغتسل و تطيب فإذا سمع النداء إلى صلاة الجمعة مشى إلى باب السجن، فيقول له السجان: إلى أين؟، فيقول: أجيب داعي الله، فيقول له: ارجع رحمك الله،فيقول البويطي: اللهم إني أجبت داعيك فمنعوني. و قد مات في سجنه سنة (264 ه) المزني : هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحي، ولد سنة (175 ه)،وهو مصري طلب العلم منذ صغره، و لما جاء الشافعي إلى مصر اتصل به و تفقه عليه، حتى قال الشافعي فيه: (المزني ناصر مذهبي).و هو يعد فقيها مجتهدا مطلقا، لما عرف له من اختيارات خالف فيها إمامه، و قد ألف كتبا كثيرة من أهمها: (المختصر الصغير) الذي نشر به المذهب، و الذي كان يقرأ أو يعول عليه في الشرح و الفتوى، و كتاب (الجامع الكبير)،و(الجامع الصغير)، و( المنثور)، و (المسائل المعتبرة)،توفي سنة (264 ه). الربيع المرادي : هو الربيع بن سليمان بن عبد الجبار، ولد بالجيزة بمصر سنة (174 ه)، صاحب الشافعي و راوي كتبه،كان ثقة ، روى عنه أبو داود و النسائي وابن ماجه و الترمذي و الطحاوي. والربيع المرادي هو الذي روى كتب الإمام و عن طريقه وصلتنا (الرسالة) و (الأم) و غيرهما، فالدارسون و الباحثون في المذهب الشافعي مدينون للربيع الذي طالت صحبته للشافعي و أحبه الشافعي حتى قال له: لو أمكنني أن أطعمك العلم لأطعمتك، توفي سنة (270 ه). حرملة : هو أبو حفص حرملة بن عبدالله التجيبي المصري، ولد سنة (166 ه) و روى عن الشافعي، و أكثر ما رواه عن ابن وهب، روى عنه مسلم و ابن ماجه و أثنى عليه ابن معين و غيره. كتب المذهب الشافعي: الإمام الشافعي هو الإمام الذي دون آراءه و فقهه بنفسه، و لم يفعل هذا إمام سواه من أئمة المذاهب، و من ثم كانت كتب الشافعي هي المصدر الأول للمذهب، و على رأس هذه الكتب: "كتاب الأم" و هذا الكتاب موسوعة فقهية اشتملت على كل أبواب الفقه المعروفة من عبادات و معاملات، بالإضافة إلى عدة كتب ناقش فيها الشافعي بعض فقهاء العراق و غيرهم في قضايا أصولية و فقهية. و لهذه الموسوعة خصائص منهجية و أسلوبية تنفرد بها، فهي تتميز بجزالة اللفظ و الجواب، و الجمع بين الفروع و الأصول، و لهذا يمثل كتاب (الأم) فقه الشافعي أصدق تمثيل، و يعبر عن عمق البحث الفقهي و شموله لدى هذا الإمام أوفى تعبير. و بعد الشافعي كتب تلاميذه، و فقهاء المذهب على مدة عدة قرون مؤلفات كثيرة منها: مختصر المزني : المزني كما أشرنا من قبل اتصل بالشافعي و تفقه عليه، و هو أول من صنف في مذهب الشافعي، و يعد كتابه المختصر من أهم مصنفاته، و قد قال في مقدمته … : اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله. المهذب : لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي (ت: 476 ه) و قد ذكر فيه أصول مذهب الشافعي بأدلتها، و ما تفرع على أصوله في المسائل المشكلة بعللها. نهاية المطلب في دراية المذهب : لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني (ت: 478 ه)، و هو موسوعة في فقه الشافعي لم يصنف في المذهب مثله كما قال السبكي، و يتعرض الجويني في كتابه إلى آراء الفقهاء من المذاهب الأخرى، و لذا يعد كتاب نهاية المطلب من كتب (الفقه المقارن)، كما يعد من (أمهات) كتب المذهب الشافعي. البسيط في فروع الفقه : لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي (ت: 505 ه) و هو كالمختصر لنهاية المطلب لشيخه إمام الحرمين. المصادر المعتمدة في انجاز المقال: المذاهب الفقهية الأربعة(أئمتها، اطوارها، أصولها، أثارها) تأليف: وحدة البحث العلمي (احمد الحجي الكردي، علي خالد الشربجي، بومية بن محمد السعيد، عدنان بن سالم النهام). تاريخ المذاهب الإسلامية : محمد أبو زهرة. الشافعي: حياته وعصره – آراؤه وفقهه: محمد ابو زهرة.