نسبته إلى علم أصول الفقه كنسبة أرسطو إلى المنطق ضاعت يوم 28/10/2002 في حادث اعتبر كارثة بكل المقاييس، مخطوطة كتاب الرسالة للإمام الشافعي، من دار الكتب المصرية، وتعد المخطوطة من أندر المخطوطات في العالم، وهي نسخة أصلية لأول كتاب يصنف في علم أصول الفقه وعلوم القرآن الكريم. حتى قال الرازي في صاحبها نسبة الشافغي إلى علم الأصول كنسبة أرسططاليس إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض. وقد أشار الشيخ أحمد شاكر محقق مخطوطة الرسالة، إلى أن النسخ المطبوعة من الرسالة هي نسخة الربيع بن سليمان حيث قام الإمام الشافعي بإملائها عليه، وكتبها بخط يده. فمن هو الشافعي؟ وكيف ألف كتابه الشهير بالرسالة؟ اسمه ونسبه وتاريخ ميلاده هو أبي عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع ولذلك عرف ب الشافعي، وُلِدَ بالاتفاق سنة (150 ه=767م)، أي في العام الذي توفي فيه أبو حنيفة. والصحيح الذي ذهب إليه الجمهور أنه ولِدَ في غزة في فلسطين. ولِدَ الشافعي في أسرة فقيرة جداً، وبعد ولادته بعامين توفي أبوه فقررت أمه العودة به إلى مكة. وحفظ الشافعي القرآن الكريم، ولم يكن قد تجاوز سبع سنين، بدأ في التردد على حلقات العلم، ورزقه الله شغفًا بالعلم وحبًا في طلبه، فكان يلزم حلقات العلم ويحفظ الحديث، ويتردد على البادية حتى يفصح لسانه ويستقيم نطقه، ولزم في سبيل ذلك قبيلة هذيل سبع سنين يتعلم لغتهم، وكانت أفصح العرب، ولقد كان لهذه الملازمة أثر في فصاحته وبلاغة ما يكتب، وقد لفتت هذه البراعة أنظار معاصريه من العلماء بعد أن شب وكبر، حتى إن الأصمعي وهو من أئمة اللغة المعدودين يقول: صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس. وبلغ من اجتهاده في طلب العلم أن أجازه شيخه مسلم بن خالد الزنجي بالفتيا وهو لا يزال صغير الإهاب. ثم شرع في حفظ أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ،وكان الشافعي يجمع قطع الجلود وسعف النخيل وعظام الجمال ليكتب عليها، لأنه لم يكن لديه مال يشتري به الورق. وكان الشافعي يتقن الرمي، حتى كان يرمي عشرة سهام، فلا يخطئ في سهم واحد منها. الرحلة في طلب العلم تلميذ مالك... كان الإمام مالك قد طبقت شهرته الآفاق، وتناقل الناس كتابه الموطأ، وسمت همة الفتى الصغير إلى الذهاب إليه في المدينة حيث يقيم، لكنه لم يرد أن يذهب دون أن يحفظ كتاب الموطأ، فلما جلس الشافعي بين يدي مالك، وقرأ عليه الموطأ أعجب الإمام مالك بقراءته وفصاحته، وقال له الإمام مالك: إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بالمعصية، واتق الله فإنه سيكون لك شأن.وكان عمر الشافعي ثلاث عشرة سنة تقريبًا، ومنذ ذلك الوقت لازم الإمام الشافعي الإمام مالكا حتى توفي سنة (179ه=795م)، أي أنه لازمه ست عشرة سنة، وفي الوقت نفسه أخذ عن إبراهيم بن سعد الأنصاري، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، ومحمد بن سعيد بن أبي فديك وغيرهم. ولما توفي مالك عمل الشافعي واليا على نجران، وسار فيهم بالعدل، غير أن ذلك لم يجد هوى عند بعض الناس، فوشوا به إلى الخليفة هارون الرشيد، فأرسل في استدعائه سنة (184ه= 800م)، لكنه لما حضر بين يدي الخليفة أحسن الدفاع عن نفسه بلسان عربي مبين، وبحجة ناصعة قوية؛ فأعجب به الخليفة، وأطلق سراحه. وظل الشافعي في بغداد عاصمة دار الخلافة، فأخذ العلم على يد محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة وغيره، ثم ترك بغداد إلى مكة حيث تعلم على يد مسلم بن خالد الزنجي، وسفيان بن عيينة. وفي الحرم المكي أخذ الشافعي يلقي دروسه، وحضر مجلسه أناس من جميع الأقطار والبلدان،والتقى به كبار العلماء في موسم الحج، واستمعوا إليه، وفي أثناء هذه الفترة التقى به الإمام أحمد بن حنبل وتتلمذ عليه، وبدأت تظهر شخصية الشافعي ومنهجه الجديد في الفقه الذي هو مزيج من فقه أهل العراق وأهل المدينة. الرحلة إلى بغداد بعد أن أقام الشافعي في مكة نحوا من تسع سنوات استقام خلالها منهجه، واستوت طريقته، ورسخت قدمه، وزادت نفسه ثقة فيما ذهب إليه -رحل إلى بغداد سنة (195ه= 810م) ومكث الشافعي هناك سنتين، نشر بها مذهبه القديم، وألف كتابه الرسالة الذي وضع به الأساس لعلم أصول الفقه، والتف حوله العلماء ينهلون من علمه، ويتأثرون بطريقته الجديدة التي استنها، ولازمه أربعة من كبار أصحابه، هم: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والزعفراني، والكرابيسي. ثم رجع الإمام الشافعي إلى مكة وأقام بها فترة قصيرة، غادرها بعدها إلى بغداد للمرة الثالثة والأخيرة سنة (198ه=813م)، لكنه لم يقم بها طويلا بعد أن صار له أتباع ومريدون ينشرون طريقته، فغادر بغداد إلى مصر. إقامة الشافعي بمصر جاء الشافعي إلى مصر عام 198 ه، تسبقه شهرته وتقدير العلماء له وإجلالهم لمنزلته، وكان في صحبته من تلاميذه الربيع بن سليمان المرادي، وعبد الله بن الزبير الحميدي، ثم بدأ في إلقاء دروسه بجامع عمرو بن العاص، فمال إليه الناس، وجذبت فصاحته وعلمه كثيرًا من أتباع الإمامين أبي حنيفة ومالك. وبقى في مصر خمس سنوات قضاها كلها في التأليف والتدريس والمناظرة والرد على الخصوم. وفي مصر وضع الشافعي مذهبه الجديد، وهو الأحكام والفتاوى التي استنبطها بمصر وخالف في بعضها فقهه الذي وضعه ببلاد العراق، وصنف كتبه الخالدة التي رواها عنه تلاميذه. ومن أشهر مؤلفاته: كتاب الأم في الفقه، وكتاب الرسالة في أصول الفقه وهو أول كتاب فيه هذا العلم. من عباداته ونوافله كان يقسم ليله إلى ثلاثة أجزاء: ثلث ينام و ثلث يكتب وثلث يصلي. وكان يختم القرآن في كل شهر ثلاثين مرة وفي رمضان ستين ختمة. ومن نوافل الشافعي كثرة صلاته على النبي صلى الله عليه وسلم وكان يحضُّ على ذلك أصحابه وتلاميذه ومن يحضره. وكان أسخى الناس على الدينار والدرهم والطعام لا يدخل على مكة حتى يتصدَّق بما معه. من وصاياه و أقواله - ما تُقُرِّب إلى الله عز وجل بعد أداء الفرائض بأفضل من طلب العلم. - طلب العلم أفضل من صلاة النافلة. - من ضُحِكَ منه في مسألة لم ينسها أبداً. - من حضر مجلس العلم بلا محبرة وورق كان كمن حضر الطاحون بغير قمح. - ما ناظرتُ أحداً قط إلا أحببتُ أن يوفَّق أو يسدد أو يُعان ويكون له رعاية من الله تعالى و حفظ، وما ناظرتُ أحداً إلا و لم أُبالِ بيَّنَ الله تعالى الحق على لساني أو لسانه. وفاة الشافعي وظل الإمام الشافعي في مصر لم يغادرها، يلقي دروسه في حلقته المباركة، ويلتف تلاميذه حوله، حتى لقي ربه في (30 رجب 204= 20 من يناير 820م). أصول مذهبه دوّن الشافعي الأصول التي اعتمد عليها في فقهه، والقواعد التي التزمها في اجتهاده في رسالته الأصولية الشهيرة الرسالة، وطبق هذه الأصول في فقهه، فكانت أصولا عملية لا نظرية، ويظهر هذا واضحًا في كتابه الأم الذي يذكر فيه الشافعي الحكم مع دليله، ثم يبين وجه الاستدلال بالدليل وقواعد الاجتهاد وأصول الاستنباط التي اتبعت في استنباطه؛ فهو يرجع أولاً إلى القرآن وما ظهر له منه، إلا إذا قام دليل على وجوب صرفه عن ظاهره، ثم إلى سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى خبر الواحد، الذي ينفرد راو واحد بروايته، وهو ثقة في دينه، معروف بالصدق، مشهور بالضبط. وهو يعد السنة مع القرآن في منزلة واحدة، فلا يمكن النظر في القرآن دون النظر في السنة التي تشرحه وتبينه، فالقرآن يأتي بالأحكام العامة والقواعد الكلية، والسنة هي التي تفسر ذلك؛ فهي التي تخصص عموم القرآن أو تقيد مطلقه، أو تبين مجمله. ولم يشترط الشافعي في الاحتجاج بالسنة غير اتصال سند الحديث وصحته، فإذا كان كذلك وصح عنده؛ كان حجة عنده. تأليف الرسالة وبدأ يؤلف في مكة كتابه الرسالة ، في أصول الفقه وهو شاب، ولم يطلق الشافعي عليه اسم الرسالة، وإنما نجده يسميه بالكتاب أو كتابي. ويرجع سبب تسميتها ب الرسالة إلى كونها جاءت بناء على رسالة تحمل طلب إمام المحدِّثين في بغداد عبد الرحمن بن مهدي (المتوفى سنة 198 ه) إلى الشافعي حين مقامه بالحرم المكي، لكي يستفيد منها هو وغيره من كبار العلماء في كيفية فهم معاني القرآن وشروط قبول الحديث ويوضح فيه الإجماع والنسخ من القرآن والسنة. وقد أكد ذلك علي بن المديني شيخ البخاري الذي قال للشافعي: أجب عبد الرحمن بن مهدي عن كتابه فقد كتب إليك يسألك، وهو متشوق إلى جوابك، قال: فأجابه الشافعي، وهو كتاب الرسالة التي كتب عنه بالعراق، وإنما هي رسالته إلى عبد الرحمن بن مهدي. (الانتقاء في فضائل الأئمة الفقهاء / ابن عبد البر ص 72 73). وذهب بعض الباحثين إلى أن كتاب الرسالة هو مقدمة ضخمة لكتابه الأم مثل مقدمة ابن خلدون لكتابه تاريخ الأمم والملوك، ومقدمة ابن خلدون ليست كتاباً مستقلاُ وإنما هي مقدمة لموسوعة تاريخية ولأهمية هذه المقدمة طُبِعَت طبعاً مستقلاً واُفرِدَت باسم مستقل وأصبحت مقدمة ابن خلدون اسم مستقل تماماً وكذلك كتاب الرسالة فهو في أصله عبارة عن مقدمة كبيرة وواسعة جداً لكتاب الأم وهو عبارة عن سبعة أجزاء، إلا أنَّ الرسالة فيما بعد أُفرِدَت بالطباعة وأصبحت عبارة عن كتاب مستقل لأنه يحوي علماً مستقلاً، وقد تضمَّن ما يلي: موضوع الرسالة أولاً: بيان أنَّ أي علم شرعي لا بد أن يدور على فلك نص مأخوذ من الكتاب أو السُنَّة. ثم أكَّد أهمية وحجية حديث الآحاد (وحديث الآحاد هو الحديث الذي يرويه صحابي واحد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم)، وكان قد ظهر في عصر الشافعي من يدَّعي أنه يأخذ بالقرآن الكريم وحده ويدع العمل بالحديث الآحاد، فردَّ عليهم الشافعي رداً مفحماً وسمّيَ بذلك نصير السُنَّة النبوية. ثم عقد الشافعي باباً سمّاه الدلالات أي كيف تدل النصوص على معانيها سواء كان المفهوم الموافق أو المفهوم المخالف وكيف نستخرج قواعد القياس على نص في كتاب الله تعالى. وأوضح البيان، أي كيف يمكن أن يكون القرآن بعضه بياناً لبعض وأنّ النص قد يكون عامّاً وقد يكون خاصاً وقد يكون مطلقاً وقد يكون مقيَّداً. والنص المطلق يمكن أن يأتي نص آخر في المعنى ذاته فيقيِّده و يفسِّره. وأوضح أيضاً فيما إذا كان يمكن للسُنَّة أن تخصص القرآن العام أو أن تقيِّده وهل يصح العكس. وقد كان المجتمع آنذاك يفتقر إلى هذا العلم ولم يكتب فيه أحد قبلاً، صحيح أنَّ الإمام أبو حنيفة والإمام مالك كل منهما بنى فقهه على أصول ومبادئ ولكن هذه المبادئ لم تسجَّل ولم يُصرَّح بها كلها بل إنَّ تلامذتهما هم الذين استنبطوا الأصول من فروع المسائل. نحن كلما رأينا سيرة إمام قلنا والله هذا أحق بالاتِّباع وكلما سمعنا دليله قلنا والله هذا لهو الدليل المقنع! نعم كلهم أحق بالاتِّباع وكلهم عندهم أدلَّتهم المُقنِعة فلذلك ورحمة من الله تعالى بنا جاز لنا أن نتبع من شئنا منهم و الحمد لله رب العالمين.