هذه دراسة من خمس حلقات لعبد الكريم مطيع، الرئيس المؤسس لحركة "الشبيبة الإسلامية"، حول الاختلاف المذهبي والعودة إلى الأصول في محاولة للتقريب بينها. وقد خص بها مطيع موقع "لكم.كوم"، الذي ينشرها كاملة رغم أنها جاءت في خمس حلقات. محاولة للتقريب 1/5 قال الله تعالى في الآية 104 من سورة آل عمران ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، وقال في الآية 28 من سورة الفتح:﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾. هاتان الآيتان تختزلان الكيانَ السياسي للإسلام في ثلاثة أقانيم: شكلِ الدولة وهو الأمة الواحدة الشاهدة. وجوهرِ رسالتها وهو الدعوة إلى الخير وما يستتبعها من أمر بمعروف ونهي عن منكر. وغايةِ سيرها وهي الظهورُ الخيري حتى لا تكونَ فتنةٌ ويكون الدين لله. يؤكد هذه المعانيَ كلَّها بناءً لغويا، أن حرفَ"مِنْ" في قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ﴾ ليس للتبعيض وإنما هو للتبيين، كأن يقال مثلا:"لفلان من أولاده جند"، أي أن جميع أولاده جنود له، كما يوضحُها شرعا أن الله أوجبَ الدعوةَ إلى الخير على كل أفراد الأمة، ولا تتحققُ هذه الدعوة تامةً إلا إذا كانت أمتُها متآلفةً متَّحدةً متحابَّة متعاونة، ولذلك عقب تعالى على هذا الأمر بقوله:﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ آل عمران 105. إن الأمرَ الإلهي بتأسيس هذه الأمة مُبَيَّن بالسنة النبوية قولا وعملا، وتأسِّيا بوثيقة المدينة وخطبة حجة الوداع وما بينهما، ومعزَّزا بإشارات كثيرة مُنْبَثَّةٍ في ثنايا سور القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ الأنبياء 92. كل ذلك يُضفي على لفظ "الأمة" في هذه الآية الكريمة معناه الأصيلَ مُشَخَّصاً في جماعةٍ واحدة ذاتِ مُنطلَقٍ واحد ومنهجِ حياةٍ واحدٍ ووِجْهةِ سيرٍ واحدةٍ، هي الدولةُ الشاهدة بِقِيَمِها ومبادئِها ونُظمِها، وينفي عن التعبير القرآني "الأمة" كلَّ اشتراكٍ لفظيٍّ مُتَوَهَّمٍ. إن وجوبَ قيامِ هذه الأمةِ له مدلولٌ واحد هو حَتْميةُ نهوضِ دولتها التي تُشرف على تنفيذ ما نِيطَ بها من مهام؛ وإذا كانت الأهداف القرآنية لا تتحقق إلا بتأسيس النظام السياسي الإسلامي، فإن تشخيصَ هذا النظام في كِيانٍ على الأرض واجبٌ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. إن الإسلام باعتباره منهجا متكاملا للحياة، وكيانا عقديا تَدْبيريا لها، جعل قيامَ الدولة جزءاً منه لا يستقيم له أمرٌ إلا به، ولا يَتِمُّ له الدين وتُحمَى بيضتُه إلا بوجود نظامه السياسي ظاهرا على سطح الأرض شكلا ومضمونا، ومُشَخَّصا في أمةِ عدلٍ مُوحِّدة، يشارك أعضاؤها جميعا في التقرير والتسيير والتنفيذ والمراقبة والمحاسبة، وهذا يتعارض مع أي نظام وضعيٍّ فَوْقيٍّ معزولٍ عن شعبه، مُعَرَّضٍ للفساد والتحلل، ومهدَّدٍ بما يُحْتَمَلُ أن يؤولَ إليه أمرُ رئيسه، مُنتَخَبا كان أو مُعَيَّناً أو وارثا، من انحرافٍ أصيلٍ أو طارئٍ. إلا أن وضع المسلمين منذ أن ذر قرن الخلاف السياسي بينهم قد أنتج واقعا من الاختلاف السلبي الذي يشتط حينا إلى حال من التناحر العنيف، ويهدأ حينا إلى حال من الوئام المغشوش، تكون به وحدتهم كَوَرِكٍ على ضِلع، مما أصبح معه الصادقون يحنُّون إلى وحدة صادقة تحقق الخير العام عبادةً ومعاملةً وتنظيما وتقنينا وتطويرا وتنميةً وحريةً وعدالةً ومساواةً. وهي وحدة دونها عوائق من أوضاع سياسية واختلاف مذهبي وتشريعي واحتقان طائفي يزيد جروح الأمة غورا ودماءها هدرا، وقلوب أهلها تنافرا. مما أصبحنا معه نتحدث عن التقريب بدل الحديث عن التوحيد، على قاعدة أن "ما لا يدرك كله لا يترك جله". إن اتساع الخرق على الراقع في أوضاعنا السياسية والعقدية والاجتماعية والتشريعية يجعل الجهد الفردي للإصلاح متعذرا إلا بالنزر اليسير من الاقتراح الاجتهادي الذي لا يجد من ينزله لواقع نظام الدولة والأمة، وذلك ما يثقل كاهل العلماء ويفرض عليهم تبني جهود جماعية للتوحيد والترشيد، كما يفرض عليهم أن يكونوا قادة الاقتراح الاجتهادي الجماعي ودعاة تنزيله في واقع الناس سياسة وتشريعا وتدبيرا للشأن العام. ولئن كانت النظم السياسية القائمة قد عمل أكثرها على تهميش دور العلماء فلا أقل من محاولة خوض المجالات التي تركت لهم، وفي مقدمتها تحديث الاجتهاد الفقهي الذي لا تقوم حياة الناس إلا به، لاسيما وقد ظل محلَّ نزاعٍ مذهبي وفقهي طيلةَ عهود التخلف التي خَيمت على الأمة بل هو حاليا ثغرة يُمالِئُ منها ضَعَفَةُ النفوسِ والهِمَمِ مراكزَ القوة المعادية داخليا وخارجيا. لذلك وجب إيفاءُ هذا الجانبِ نصيبَهُ من البحث والنقد والسَّبْر، لإحقاق ما به من حق، واستبعاد ما شابَهُ من غَبَشٍ أو تدْليس أو خَلْطٍ وتلبيسٍ. إن إقامةَ الدولة الشاهدة على ركائز العدلِ والحقِ وقيمِ الإيمان والفضيلةِ في أشد الحاجة اليومَ إلى إعادةِ مراجعةٍ للفهم والتَّصنيفِ والتَّقنينِ والتَّحْيِينِ، بما يناسب مُسْتَجدَّاتِ الزمان والمكان، ومستحدثات نظم الحياة وعاداتِ المجتمع وتقاليدِ الإنسان، لا سيما وقد اسْتُبْعِدَ التشريعُ الإسلامي مُبَكِّرا بعد أن استبدَلَتْ أغلب الدول الإسلامية به القوانين الوضعية، عَقِبَ انْكِفاءِ علمائِه مُكْرَهينَ في زوايا البحثِ الفقهيِّ الخاصِّ بالشأن الفردي عبادةً ومعاملةً وعلاقاتٍ وأخلاقاً. لكن هذا الواقع لا يعني إلغاءَ الفقهِ الإسلامي أو الاستهانةَ بجهود علمائِنا الأبرار طيلةَ الأربعة عشر قرنا الماضية، لا يقول بهذا عاقلٌ أو مُنْصِفٌ، فتراثُنا الفقهيُّ على رغم ما قد يُوَجَّهُ له من نَقْد، مَفْخَرة ومَأثُرةٌ نَدَر مثيلُها بين الأمم والشعوب، وما أنْجَزَه من تطويرٍ لوسائل البحث والتنقيب والاستنباط والتدوين يُعَدُّ أداةً فعالةً في مجال تنظيم الشأن العام والخاص، وتزويدِه بمختلف الأحكام الشرعية المستندة إلى النصوص تصريحا وتلميحا، استدلالا وقياسا وقواعدَ وأماراتٍ؛ إلا أن عاصفةَ التحديث والتغيير والتطوير التي نالتْ زمانَنَا بَشَرا وبيئةً ونُظما، قد أحدثَتْ من المشكلات المُعَقَّدة ما احتاج إلى أقْضِيَة جديدة، وأنْشأَتْ من الأوضاع ما فَرَضَ ارتيادَ ساحاتٍ لم تكن مُتَوَقَّعَةً أو مُتَخَيَّلَةً، والتماسَ محاولاتِ رشدٍ يؤَهِّلُ لِمَا نِيطَ بنا مِن مَهامَّ وغاياتٍ، وما حُمِّلْنا من تكاليفَ وواجباتٍ. إن الفقهَ الإسلاميَّ يَحتفِظ في مجالَ تدبيرِ الشأن العام، على رَغْمِ استضعافِه من قِبَلِ خصومه، بما لا يجوزُ التَّغاضي عنه ولا يَجمُل الإعراضُ عن استثْمارِه، من الأحكامِ والتشريعات المسْتَنْبَطةِ من الكتاب والسنة أو المحمولةِ عليهما أو التي لا تتعارضُ معهما، إلا أن تنزيلَ كثيرٍ منها على واقعِ عصرِنا زماناً ومكاناً وحالاً صعْبُ المَنالِ، ومُحتاجٌ إلى كثيرٍ من الجهد المُتَأنِّي الفَعَّال. كما أنَّ حالاتٍ أخرى جديدةً ومسْتَحْدَثَةً، ونماذجَ من الحياة العصرية مُبْتَدَعَةً، لا يكاد يَجِدُ المرءُ للقضاءِ فيها أو تنظيمِها أو تصنيفِها وترتيبِ أوضاعِها مَرْجِعاً في الفقهِ نصوصِه وأصولِه وفروعِه وقواعدِ ضبطِه واستنباطِه، وإن كان فقهُ المذاهبِ كلِّها قد اجتهدَ في دراسةِ بعض منها واسْتَنْبط لما اعْتَرَضَه في أمْرِها أحكاما رَآها شرعيةً وداخلةً ضِمْنَ الأحكام الخمسة، مَما رَفَع مِنْ وَتيرَةِ الخلافِ الفقهيِّ المذهبيِّ حولَها. وزاد شُقَّةَ هذا الخلافِ اتساعاً كونُهُ واسعَ الأكنافِ مُتَشَعِّبَ الأطراف له صلةٌ بعِدَّة علوم، كعلوم القرآن، والحديث، والفقه والأصول، والقواعد الفقهية والتعارض والترجيح، والمنطق والبحث والمناظرة ، كما أن له ارتباطا بواقعِ الأمةِ سياسياً واجتماعياً واقتصادياً . لقد نشأ هذا الخلافُ أولَ ما نشأ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم واضطرارِ المسلمين لاستنباط أحكامِ قضايا من نصوصٍ يوهِمُ بعضُها بالتعارض، أو أحكامِ حوادثَ توهِم بأنْ ليْس لها في الكتاب والسنة حُكمٌ معيَّن. فالخلاف في هذا العهد كان مبنيا على فهم النصوص والحملِ عليها حملاً عفوياً تلقائياً ، ثم أضيف إلى ذلك إجماعُ الصحابة المستنِد إلى النصوص . ثم بعد جيل الصحابة تتابعتْ أدوارُ التشريع واحدا تِلْو الآخر ، فنشأَ علمُ الفقه واتَّسَع الاستنباطُ بكثرةِ الحوادث، ثم بزغ عصر الأئمة المجتهدين فاتضحت أساليبُ الاجتهاد وتميزتْ طرقُ الاستدلال، واتسع الخلافُ بين الأئمة تبعاً لمناهجهم، فكان أبو حنيفة ثم مالك ، ثم جاء الشافعي وابن حنبل، وجمع الشافعي مقاصدَ العلم ومناهجَه في الرسالة ، فكان أول من صنف قواعدَ الاستنباط ورتبَها ورسَمَ معالمَها، وجَمَع فيها بين منهجَي النعمانِ ومالكٍ؛ ثم تتابع تطورُ هذا العلم من قبل مدرستَي المتكلمين والفُروعِيِّين، وارتقى الحوارُ والتأليفُ والتصنيفُ فيه إلى نشوءِ علمٍ جديد هو "علمُ الخلافِ" المبنِيُّ على المنطق والمناظرة، وهو علْمٌ يُعْرَف به كيفيةُ إيرادِ الحججِ الشرعيةِ ودَفْعِ الشُّبَهِ وقَوادِحِ الأدلةِ بإيرادِ البراهينِ القطْعِيَّةِ. كل ذلك نشأ في أول أمره على أرضية فقهية مبنية على التطاوع والانفتاح والتسامح والاحترام المتبادل، وأسس موضوعية من الحوار النقدي الذي يبحث عن الرأي الصائب والاجتهاد الأسلم، في إطار أمة واحدة وعقيدة واحدة وهدف واحد وواقع واحد يراد ترشيده وأطره على الحق، إطار أخذ فيه ابن الحسن الشيباني الحنفي والشافعي عن مالك، وابن حنبل عن الشافعي، وتتلمذ فيه مالك لجعفر الصادق وقال عنه: (اختلفت إلى جعفر بن محمد زمانا وما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصليا، وإما صائما وإما يقرأ القرآن وما رأيته يحدث عن رسول الله إلا على طهارة). ولوْ لم تعترضْ طريقَ الأمة محنةُ انهيارِ نُظُمِ الحكمِ والمجتمع، وتوقُّفُ حركةِ العلم والفكر والاجتهاد، وتحولُ المدارس الفقهية إلى مذاهب متنافرة، لكان للفقهِ الإسلامي شأنٌ في حياة البشرية المعاصرةِ على اختلاف أديانها واتجاهاتها ومِلَلِها ونِحَلِها. ومع ذلك، بأدنى مراجعةٍ لتشريعاتِ الغرب الحالية يتضحُ أن مُعظمَ قوانينِها ومساطرِها الإجرائية متأثرٌ بالفقه الإسلامي أصولاً وفروعاً وقواعدَ ومناهجَ. ونحن إذا ما استعرضنا مجالاتِ اختلاف المذاهب في أحكامها الشرعية العمليةِ المستَنْبَطةِ وأسبابِ ذلك على مدار مراحلِ التشريع المتعاقبةِ، ألفَيْنا أنها لا تكاد تخرج عن صنفين من الأحكام: صنفٍ راجعٍ إلى نصوصٍ هي الأدلةُ النقليةُ كتاباً وسنةً وإجماعاً أو حملاً عليها بالقياس . صنفٍ راجع إلى أماراتٍ هي ما سوى الكتاب والسنة والإجماع والقياس، مثل الاستحسان والاستصحابِ وسَدِّ الذرائع والمصلحةِ المُرْسَلَةِ والعُرْف وما سوى ذلك من الأمارات. أما الصنف الأول فمن أهم أسباب الخلاف فيه : - قَطْعيةُ دَلالَةِ النصوص وظَنِّيَتُها. إذ النص قَطْعيُّ الدلالةِ لا يَحتمِل تأويلاً ولا مجال لفهمِ غيره منه. والنصُّ ظَنِّيُّ الدلالة هو ما يكون محتَمِلاً لِأكْثَرَ مِنْ معنى واحد . - النصوصُ الموهِمَةُ بالتعارض مثل أن يحكمَ الرسول صلى الله عليه وسلم حكماً في حالة، وحكماً آخر بالنسبة للمسألة ذاتها في حالة أخرى. فيَتوَهَّم المجتهدُ التعارض، ولا تَعارُضَ لاختلاف الحُكْمين باختلاف الحالتين . - مَنهجُ الفقيه في قَبولِ أخبار الآحادِ وسَبْرِها ونَقْدِها. فمالك مثلا يشترط موافقةَ الصحيح لعملِ أهل المدينة، والظاهريةُ يَعتبرون الآحادَ قطعيةً توجِب العلمَ اليقين في العقيدة والعمل. - قد يُبَيِّنُ الشرعُ طريقتَيْنِ أو طرقاً لبعضِ التصرفات الشرعية، والأخذُ بأيٍّ منها جائزٌ، فيتوهَّمُ بعضُ المجتهدين تَعارُضاً بين هذه الطرق . - قد يكون الخلافُ بسببِ وقوعِ نَسْخٍ لم يعلمْ به الفقيه . - قَدْ يَرِدُ في الكتاب والسنة لفْظٌ عامٌّ يُرادُ به العمومُ، وآخرُ عامٌّ يُرادُ به الخصوصُ، وقد يَرِدُ بصيغةِ الخصوصِ فيبدو من ظاهرِ الألفاظ التعارضُ ولا تعارُضَ. - كيفيةُ تَناوُلِ ألفاظِ النصوصِ كتاباً وسنةً، وتأويلِها، وتمييزِ نَصِّها من ظاهرِها ومُحْكَمِها من مُفَسَّرِها، وخَفِيِّها من مُشْكِلِها ،ومُجْمَلِها من مُبَيَّنِها . - الاختلافُ في تعيينِ دِلالاتِ الألفاظِ وهل هي بإشارةِ النصِّ أو مفهومِ الموافقة أو الأَوْلَى أو الاقْتِضاء، أو المخالفة، أو مفهوم اللَّقَب، أو الوصْف، أو الشرْط، أو الغاية، أو من حيث دلالة الشُّمول في اللفظ عاما وخاصا، مطلقا ومقيدا، حقيقةً ومجازا، وكيفيةِ تخصيصِ العام بالمتواترِ أو الآحاد أو القياس أو المصلحة. - الخلاف العارضُ من جهة الاشتراكِ في موضوع اللفظةِ الواحدة أو في أحوالها التي تعرِضُ لها من إعراب وغيره، أو من حيثُ تركيب الألفاظ وبناء بعضها على بعض. وهذه الشموليةُ في مجال الاختلاف ليست عيبا في الفقه الإسلامي، بل هي من مميزاتِ كمالِه ومرونَتِه وصلاحيتِه لكل زمان ومكان وحال، ومن خصائصِ شريعته الربانية ودينِه القيم، ونبيِّه الذي ختمت به النبوة، وأحكامِه التي هي حجَّةٌ للناس أو عليهم إلى يوم القيامة . أما الصنفُ الثاني من الاستنباطات الفقهيةِ الراجعة إلى ما سوى الأدلة الأصلية كتاباً وسنةً وإجماعاً وقياساً ، فلا بد في أمره من أن نشيرَ أولا إلى نموذجين لاختلافِ طرقِ الاستنباط فيه، نموذجٍ متشدِّدٍ وآخرَ أشدَّ منه، وهما منهجا المذهبين الحنبلي والظاهري. ذلك أن المذهب الحنبلي يُعَد أشدَّ المذاهب الأربعة حَرْفِيَّةً في تناول الكتاب والسنة والإجماع، وفراراً من الرأي والحِيَل الشرعية والاستحسان؛ حتى إن فقهاءَه لا يقيسون إلا عند الضرورة ، ويفضلون على القياس خبرَ الآحاد أو الخبرَ الضعيف. وأدلةُ الشرع عندهم ثلاثة أضرب : أصل، ومفهومُ أصلٍ، واستصحابُ حالٍ. والأصل عندهم ثلاثة: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة. والكتاب عندهم ضربان: مجمل ومفصل. والسنة ضربان: مسموعة من النبي صلى الله عليه وسلم، ومنقولة عنه. والمنقول عنه صلى الله عليه وسلم متواتر وآحاد، قول وفعل. أما المذهب الظاهري فهو أكثر تشدداً من الحنابلة في هذا الصنف من الاستدلال، لأنه لا يعترف إلا بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ويُنكِر القياسَ والتقليد والاستحسانَ وسدَّ الذرائع وعملَ أهلِ المدينة والمصالح المرسلة، وما في حكم ذلك من الأمارات ... ؛ وفقهاؤه يستندون في رفضهم لهذه الأدلة على ما فهموه من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والمعقول. فمن الكتاب قوله تعالى : {وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكِ بِهِ عِلْمٌ} الإسراء 36، ومن السنة : قوله صلى الله عليه وسلم:( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها). ومن الإجماع أن كثيراً من الصحابة قد ذم الرأي وسكت الباقون، فاعتبر هذا إجماعاً. وقد نقل عن أبي بكر رضي الله عنه قوله: ( أيُّ سماء تُظِلُّني وأيُّ أرض تُقِلُّني إذا قلت في كتاب الله برأيي ). ومن المعقول عندهم أن الله تعالى ذَمَّ المنازعةَ والخلافَ في القرآن الكريم، ونهانا عن الفُرقة والتشتُّتِ فقال عز وجل: {أَنْ أَقِيْمُوا الدِّيْنَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيْهِ} الشورى 13، وصريح القرآن لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً، لأن الاختلاف سببُه اشتباهُ الحق وعدمُ ظهوره، لانعدام العلم الذي يفرق بين الحق والباطل، والقياس عندهم يتضمن اشتباهَ الحق وعدمَ ظهوره لأنه من غير الله، فهو تشريع بشري، والتحاكمُ إليه تشريعٌ بغير ما أنزل الله. وقد سئل داود الظاهري: (كيف تُبْطِل القياسَ وقد أخذ به الشافعي؟) فقال:( أخذت أدلةَ الشافعي في إبطال الاستحسان فوجدتها تبطل القياس) . إن هذين الصنفين معا، الاجتهادَ المستنبط من النصوص مباشرة، أو بالاستناد إليها إجماعا وقياسا، والاجتهادَ الراجع إلى ما سوى ذلك من الأمارات المختلَفِ فيها، لا سيما في القضايا المستجدة المعاصرة، يمثلان أكبرَ معضلةٍ تشريعيةٍ تواجه مشروعَ الدولة الإسلامية وتقتضي سرعة البث والحسم فيها. هاتان المعضلتان، المتعلقةُ أولاهما بضرورة تحيِينِ الفقه الإسلامي المبني على النصوص، وهو ما يمكن أن نطلق عليه (منطقة التشريع النصِّي)، والمتعلقةُ ثانيتُهما بالاجتهاد خارجَ النصوص في مجال التصرفاتِ الفردية والتدبيرِ العام أو ما يمكن تسميتُه ( منطقةَ الفراغ التشريعي )، هما ما ينبغي تركيز الجهد عليهما لاستقصاءِ أمرِهما، وتجليةِ الغموضِ واللبس عنهما، وذلك فَحْوَى المبحثين التاليين بإذن الله تعالى. اختلاف التشريع بين المذاهب الإسلامية – عودة إلى الأصول المبحث الأول: منطقة التشريع النَّصِّي 2/5 ويعني التشريعُ النصيُّ الأحكامَ التي تستنبط من النصوص أو تُحْمَلُ عليها بالقياس والإجماع ، أو بالاعتماد على مختلف الأمارات والقواعد الفقهية، وضروبِ السياقات اللفظية ومفاهيمِ الموافقة والمخالفة وغيرها... هذه الثروةُ التشريعية التي نَدَر مثلُها، تُنَظِّم في إطار الأحكام الخمسة - إيجابا وتحريما وكراهة وندبا وإباحة - مساحاتٍ شاسعةً من العبادات والمعاملات والعلاقات والسلوكيات الفردية والجماعية، وقوانينِ التجارة والاقتصاد والقضاء والحروب، وهو ما يجعل الفقهَ الإسلامي أكثرَ قابليةً للحياة المتجدِّدةِ عَبْرَ الحِقَب، إذا تتبعتْه بالتطوير والتشذيب والتهذيب عقولٌ نيِّرةٌ وأفئدة صادقة مخلصة. إلا أنَّ هذا التشريعَ تَعْتَوِرُه حاليا شوائبُ متعلقةٌ بالخلاف بين المذاهب أولا، والاختلافِ داخلَ المذهبِ الواحد ثانيا، مما يجعل العملَ ببعض بُنودِه في شكْلِه الحالي مَحَلَّ نظرٍ إذا ما أُريدَ تطبيقُه في دولةٍ إسلاميةٍ جامعةٍ، ذاتِ تعدُّدِيَّةٍ مذهبيةٍ ومرجعياتٍ فقهية مختلفة؛ حينئذ يُثارُ أخطرُ سؤال متعلقٍ بهُويةِ هذه الدولة والغايةِ من التشريع فيها، وهل يُشَرَّعُ فيها لدولةٍ مذهبية كما كان الشأنُ في الخلافة العثمانية الحنَفِية، أم لدولةٍ إسلاميةٍ جامعة؟ إن التمزُّقَ المذهبي والطائفي الحالي بين المسلمين لا يُؤدي أُصولِياً وفقهيا وتشريعيا إلَّا إلى دولةٍ مذهبية أو طائفيةٍ، وهو ما نراه حاليا على صعيد أقطارٍ إسلامية كثيرة. هذه المُعضِلةُ تَنْتَصِبُ عائقا في أغلب حالاتِ التشريعِ النَّصِّيِّ، تنتصبُ في مجال الاجتهاد وميدان القضاء وساحة الفتوى، وفَضاءاتِ تدبيرِ الشأن العام، كما يَذِر قَرْنُها عند التَّقْعيد للأصولِ والفروعِ ومناهجِ الاستنباط، وأحكامِ العبادات والمعاملات. هذه الإشكاليةُ هي التي حَمَلَتْ حُكاما أقدمين( مماليك مصر والشام مثلا ) على اتخاذ قاضٍ لكل مذهبٍ في كل ولاية، ومنبرٍ للصلاة خاصٍّ بكل طائفة، فكان الحرمُ المَكيُّ حينئذ تُعادُ فيه الصلاةُ الواحدة بعَدَدِ المذاهبِ الوافدةِ إليه، مالكيةَ وحنبليةً وشافعيةً وحنفية وإماميةً وإباضيةً.... نفسُ الإشكالِ يبرُزُ بحدة في مجال التشريع النَّصِّي لدى الدولة الإسلامية الجامعةِ متعدِّدَةِ المذاهبِ، إذ يتعذر الاتفاقُ على حكم واحد لكثيرٍ من القضايا الخِلافيةِ التي يُرادُ التشريعُ لها، لأن مصادرَ الخلاف والاختلاف تَتَجَلَّى في كافةِ مفاصلِ التشريع المذهبي: تتجلَّى أولا في مناهج التعاملِ مع القرآن الكريم وتفسيرِه، لا سيما وقد اتَّخَذ كلُّ مذهبٍ من فهمِه للقرآن أداةً لنَقْضِ اجتهاداتِ غيره، ملتمسا الحجةَ التي تؤيد رأيَه وتعزِّز اجتهادَه، فاتَّسَعَتْ شقَّةُ التَّنافي بينَ التشريعات القرآنية، ونَشأ بينها ما يمكن أن نُطلِقَ عليه مصطلحَ "التهادم التشريعي"؛ وصار لكلِّ مذهب تفسيرُه التشريعيُّ الخاصُّ به لا يَرجع معه إلى غيره: - للحنفية من تفاسيرها التشريعية "أحكام القرآن" لأبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، وللمالكية"أحكام القرآن" لأبي بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري الإشبيلي، وللحنابلة "الإكليل في المتشابه والتنزيل" لأحمد بن تيمية، وللشافعية "أحكام القرآن" لأبي الحسن الطبري الكيا الهراسي، وللزيدية "منتهى المرام في شرح آيات الأحكام" لمحمد بن الحسين بن القاسم، وللجعفرية "كنز الفرقان في فقه القرآن" للمقداد السيوري، وللإباضية "تفسير كتاب الله العزيز" للشيخ هود بن المحكم الهواري. أما مجال الحديث النبوي فالاختلاف فيه أكثرُ من أن يُحصَر، وعلى رغم أن جَهابذةً من العلماء قد حرروا غوامضه ودقائقه، وأفذاذا من المحدِّثين في كل عصر قد بذلوا من الجهود المضنية ما قرَّبه للأفهام وميَّز أسانيدَه صحيحَها من عليلها، وقويَّها من سقيمِها، فإن الخلاف فيه ما زالت شقتُه متَّسعة، والأحكامُ التشريعية المستندة إلى كثيرٍ من نصوصه لدى المذاهب مختلفةٌ متهادمةٌ تأصيلا وتفريعا. أنا لا أزعُم لنفسي حقَّ نقضِ هذه الاجتهادات المتعارضةِ، ولا القدرةَ والجرأةَ على ذلك، فكلُّ مجتهد إن صدقت نيته له أجره مصيبا أو مخطئا، كما ورد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم، لكنَّ الهدفَ من الإشارة إلى هذه الحالة التشريعية هو التنبيهُ إلى تأثيرها في نظام الدولة الإسلامية الجامعة. كذلك زادَ اختلافُ طرُقِ الاستنباطِ من نصوص الكتاب والسنة أمرَ التشريعِ النصي إشكالا وتعقيدا، فقد كان الإمام مالك يسير على نهجٍ خاص به في الأخذ من الكتاب والسنة بالاستناد إلى عملِ أهل المدينة والإجماع، وعلى ما اشْتَرَطَهُ في روايةِ الحديث من ضرورةِ أن يَصْحَبَهُ عَمَلٌ، وألا يخالفَ عملَ أهلِ المدينة، وعلى قبولِهِ المرسلَ، مرسلَ التابعيِّ وتابع التابعي بإطلاق. أما الإمام أبو حنيفة فمنهجُه الكتاب والسنة وما أجمع عليه الصحابة، فإن لم يُجمعوا تَخَيَّر من آرائهم لا يخرج عنها، ولا يأخذ برأي التابعي وتابع التابعي لأنه يراهُمْ رجالاً مثلَه، كما كان له أسلوبُه في الأخذِ بالقياس والاستحسانِ واعتبارِ العامِّ قطعياً لا يُخَصِّصُه إلا قطعيٌّ أو خبرٌ مشهور، فإن خُصِّص بأحدِهما صارَ ظنيا، أما أحاديثُ الآحادِ فكان يشترطُ فيها إلى جانبِ الثقةِ بالراوي وعدالَتِهِ أَلَّا يُخالِفَ عَملُه روايَتَه، كشأنِ رَدِّهِ روايةَ أبي هريرة في الكلبِ إذا وَلَغ في إناء أَحَدٍ أن يغسلَه سبعاً إحْداهُنَّ بالتراب، لأن الراويَ أبا هريرة كان لا يَعْمَلُ به، أما المرسلُ فمقبولٌ عنده سواء كان مُرسَلا للتابعِي أو تابع التابعي. أما الإمامُ الشافعي وهو أول من صنف قواعد الاستنباط ورتبها ورسم معالمها، فقد كان يَرُدُّ الاستحسانَ ولا يأخذ بالمصالح المرسَلة، ويَعُدُّ العملَ بهما تشريعا بغير ما أنزل الله، ولا يأخذُ من أخبار الآحاد إلا ما استَوْفَى شروطَ الروايةِ الصحيحة، ويشتَرِط في المُرسل أن يكون تابِعِيُّهُ قد لَقِي كثيرا من الصحابة كسعيد بن المسيب في المدينة والحسن البصري في العراق، ولا يأخذ مرسلَ تابعي التابعي. أما المذهبُ الحنبلي فيتميز بالحَرفيَّة في تناول الكتاب والسنة والإجماع، والفرارِ من الرأي والحِيَلِ الشرعية والاستحسان، وباجتناب القياس إلا عند الضرورة القُصْوَى، وتفضيلِ أخبار الآحاد ولو ضعيفةً على القياس. أما المذهب الظاهري فهو أكثرُ المذاهب تشددا في منهج الاستدلال، لأنه لا يعتمد إلا على الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وينكر القياس والتقليد والاستحسان وسدَّ الذرائع وعملَ أهل المدينة والمصالحَ المرسلة، ويُكْثِرُ من الاستِصْحابِ وإبقاءِ الشيء على ما كان عليه ما لم يَرِدْ نَصٌّ. فإذا أضفنا إلى هذه المعضلة، أخرى هي اختلافُ الأحكام التشريعية داخلَ المذهبِ الواحد ما بين أقوال مؤسِّسِه وأقوالِ فقهائه ومجتهديه، ازدادت شقةُ الابتعادِ عن الوحدةِ التشريعيةِ اتِّساعا. ولئن سَعَى كلُّ مذهب إلى محاولةِ وضع مقاييسَ للترجيحِ بين الآراء داخلَه، فإن الإجماعَ على رأي واحد بَقِيَ متعذِّرا لا يحسِم أمرَ الوحدة التشريعية مطلقا، ولو على صعيدِ المذهب الواحد. وإذا ما اتخذنا من المذهبين المالكي والحنفي مثالَيْن لهذا الموضوع، تأكد لدينا ما نذهب إليه في هذا الأمر. ذلك أن الترجيحَ بين الأقوال والروايات والآراءِ داخل المذهب المالكي مُعَقَّد ولا يُحْسَم بمجردِ الاعتمادِ على قول مالك وحدَه أو ابنِ القاسم تلميذِه ، برغْم فضلِ التلميذِ ولزومِه مالكاً رضي الله عنه ما يزيد عن عشرين سنة، وعدمِ مفارقتِه إياه حتى وفاتِه، وعلمِه بالمتأخِّر والمتقدِّم من أقواله. إذ لا بُدَّ أن يُميَّز في القضية بين حال المرجِّح المقلِّد وحال المرجِّح المجتهد، وبين ما إنْ وَرَدَ عن مالكٍ قولان أو ثلاثةٌ ولا يُعْلَمُ المتقدِّم والمتأخِّر منها، وهل الترجيحُ بالنظر أو بالأثَر ... الخ . وعلى كل، فإن ما صار عليه شيوخ المذهبِ أن المسألة إن كانت ذاتَ أقوالٍ ورواياتٍ، فالفتوى بقولِ مالك رضي الله عنه، فإن اختلفَ الناسُ في مالك فالقولُ ما قاله ابنُ القاسم. إلا أن هذا ليس على الإطلاق، فقولُ مالك في المدونة أوْلَى مِن قولِ ابنِ القاسمِ فيها لأنَّه إمامُه. وقولُ ابنِ القاسمِ في المدونةِ أولَى من قولِ غيرِه فيها لأنه أعلمُ بمذهبِ إمامِه. وقولُ غيرِه في المدونة أولَى من قول ابنِ القاسم في غيرها نظراً لصِحَّتها، والمنهجُ المتَّبَعُ عنده في القضاء كتابُ الله تعالى، فإن لم يجدْ فسنةُ النبي صلى الله عليه وسلم التي صحِبَها العملُ، فإن كان خبراً صحبَتْ غيرَه الأعمالُ قضى بما صحِبَتْه الأعمالُ. وكذلك القياس عنده مقدَّمٌ على أخبار الآحاد، فإن لم يجدْ في السنة شيئاً نظر في أقوالِ الصحابة فقضَى بما اتَّفقوا عليه، فإن اختلفوا قَضَى بما صحِبَتْه الأعمالُ من ذلك، فإن لم يصحَّ عنده أن العملَ اتَّصَلَ بقوْلِ بعضِهم تَخَيَّر من أقوالهم ولم يخالفهم جميعاً. وكذلك الحُكْمُ في إجماعِ التابعين وكلِّ إجماعٍ ينعقد في كل عصر. فإن لم يكنْ إجماعٌ قَضى القاضي باجتهادِه إن كان من أهل الاجتهاد، فإن كان مقلِّداً على مذهبِ من يرى توليةَ المقلِّد القضاءَ يلزَمُه المصيرُ إلى المشهور، أو ما جَرَى به القضاءُ والفُتيا في المذهب، على اختلافٍ في تعريفِ المشهور، وهل هو الأشهر أو غيره، وهل هو ما قَوِيَ دليلُه أوْ هو ما كَثُرَ قائلُه، وهل هو ما شَهَرَه المغاربةُ والمصريون، أو ما شَهَرَهُ العراقيون . أما في المذهب الحنفي فقد قسَّموا المسائلَ الفقهيةَ إلى ثلاث طبقات ، يختار منها الفقيهُ عند التعارض ما هو من الدرجة العليا، ولا يُرَجِّحُ الدنيا : الطبقة الأولى: مسائل الأصول، وهي مسائل ظاهِرِ الروايةِ المرْوِيةِ عن أبي حنيفة وصاحبَيْه أبي يوسف ومحمد بن الحسن. وكتُبُ ظاهر الرواية، أي كتب الأصول لديهم، هي التي جَمَعها الحاكمُ الشهيد في كتابهِ "الكافي" الذي شرحه السَّرَخْسي في "المبسوط". و الطبقة الثانية : مسائلُ غيرِ ظاهرِ الرواية، وهي التي رُوِيَتْ عن الأئمة الثلاثة في غيرِ كتُب الأصول. مثل كتُبِ محمد: "الكيانات" التى جمعها لرجل يسمى كيان، "والجرجانيات" التى جمعها في جرجان، و"الهارونيات" التي جمعها لهارون، و"الرَّقِّيَات" التي جمعها حين كان قاضياً بالرَّقَّة. أو كتبِ غيرِ محمد، مثل "المجرد" للحسن بن زياد، و"نوادر" ابن سماعة، و"نوادر" هشام ورستم وغيرهم . الطبقة الثالثة : وتسمى الفتاوَى ، أو الواقِعَات، وهي مسائل استنبطَها المتأخرون من أصحاب أبي يوسف ومحمد وأصحاب أصحابهم مثل: "النوازل" لأبي الليث، و"الواقعات" للناطفي، و"فتاوى" قاضى خان ...وغيرها. والمعتَمَدُ في المذهب قولُ أبي حنيفة أولاً، ثم قول أبي يوسف، ثم قول محمد، ثم قول زفر، ثم الحسن بن زياد. فإن خالف الإمامَ صاحباه فالخيار للمجتهد، وقيل الترجيح بقوة الدليل . وفي مجال القضاء عندهم إن اتفق الثلاثةُ (أبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف) لا ينبغي للقاضي أن يخالفَهم، لأن الحقَّ لا يعدوهم، وإن اختلفوا، قال عبد الله بن المبارك: يؤخذ بقول أبي حنيفة رحمه الله، لأنه كان من التابعين وزاحَمَهم في الفتوى، وقال المتأخرون من الشيوخ : إذا اجتمع اثنان منهم وفيهما أبو حنيفة يُؤْخَذ بقولهما، وإن كان أبو حنيفة في جانب والآخران (محمد وأبو يوسف) في جانب فالقاضي المجتهد يتخيَّر في ذلك، فإن لم يكن من أهل الاجتهاد يسْتفتِي غيرَه من المجتهدين. ويزدادُ الأمرُ تعقيدا إذا كان مذهبُ القاضي غيرَ مذهب الإمام، فتُطْرَح قضيةُ شرعيةِ القاضي وشرعيةِ أحكامِه، ولكلِّ مذهبٍ رأيٌ في ذلك، لاسيما إذا اشتَرَطَ الإمامُ على القاضي أن يحكُمَ بمذهبٍ معيَّن، فيكون العَقْدُ والشَّرْطُ باطلينِ لَدَى شيوخ المالكية، لأن هذا الشرطَ يُنافي مُقْتَضَى العَقْدِ الذي هو الحُكمُ بالحقِّ كما يراهُ القاضي، وعند أهلِ العراق تصحُّ الولايةُ ويَبْطُلُ الشَّرْطُ. إن هذا الارتباكَ التشريعيَّ الذي تواجهه الدولة الإسلامية الجامعة تَظْهَرُ آثارُه الخطيرة جَلِيةً في كثير من الأحكام الشرعية التي يمكن أن تصوغَها وتُلْزِمَ بها ، لاسيما المتعلقة منها بالدماء والأموال والحقوق. فمنْ عزَّرَه القاضي مثلا فَماتَ في تعزيرِه يكون دمُه هَدَرا عند أبي حنيفة، ويكونُ الضَّمانُ على الإمام عند الشافعي. والرجلُ إذا قَتَلَ لقيطا يَسْتَوْفي الإمامُ من قاتله القصاصَ عند أبي حنيفة، ولا يستَوْفِي منه عند الشافعي. والمرأة إذا زَنَتْ بِصبيٍّ أو مجنون لا حدَّ عليها عند أبي حنيفة ويُقامُ عليها الحد عند غيره. وأموالُ الأيتام ليس عليها زكاةٌ عند أبي حنيفة، وتُزَكَّى عند غيره. وحقُّ قبْضِ زكاةِ الأموالِ الظاهرةِ للإمام حَصْراً عند أبي حنيفة، فإن بادَرَ صاحبُ المال بإعطائها إلى الفقراء كان للإمام أخذُها منه ثانية، وعند الشافعي ليس للإمام ذلك. وفي حال غَيْبَةِ الزوجِ عن زوجته يُؤَقِّت مالك للغائب بأربع سنوات، ثم تُطَلَّقُ عليه الزوجة . أما أبو حنيفة فلا يُفَرِّقُ بين الزوج وزوجته بالغَيْبَة، لقوله صلى الله عليه وسلم في أرملة المفقود :(إنها امرأته حتى يأتيها البيان)، ولقول علي رضي الله عنه:(هي امرأة ابْتُلِيَتْ فلْتَصْبِرْ حتى يستبينَ موتٌ أو طلاق)، ولأن القضاءَ على الغائب وللغائب لا يجوز. وشهادةُ الأطفال تُقْبَلُ في الجراح والقتل، ولا تُقْبَلُ في الأموال لدى البعض، ولا تُقْبَل عند غيرهم في الجميع، والمالكيةُ في ذلك على ثلاثة أقوال: الجواز لمالك، والمنع لابن عبد الحكم، والجواز في الجراح دون القتل لأشهب، وعند ابن أبي ليلى تجوز في الجراحات وتمزيق الثياب التي تكون بين الأطفال في الملاعب ما لم يتفرقوا. والمَنْعُ الأصلُ، وإليه ذهب الشافعي وأبو حنيفة. والجواز لعله للاضطرار، إذ لو لم تُقْبَلْ شهاداتُهم لأدَّى ذلك إلى هَدْرِ جناياتٍ كثيرة، والقولُ بالجواز مقيَّدٌ بأحَدَ عشر شرطاً مفصلة في كتب فقه المالكية. وعن أحمد روايةٌ أنها لا تُقبل، ورواية أنها تُقبل في الجراح إِذا كان الأطفال اجتمعوا لأمر مباح وقبل أن يتفرقوا، ورواية ثالثة أنها تُقبل في كل شيء. إن الاختلافَ في استنباط الأحكام لم يكن في بداية ظهورِه سببا في النزاعِ أو الفُرقة والانقسام، بل كان عبادةً ووسيلةً إلى البحث عن الحق، ثم صار مرآةً تنعكس عليها مبادئُ الإسلام التي تُكَرِّس السماحة والمرونةَ وقواعدَ الحريةِ الفكرية والحوارِ المنتجِ، إلا أنه مع ما آلَ إليه أمرُ المجتمع الإسلامي من تَخَلُّف أضحَى إسْفينا لشَقِّ الوحدةِ وبَثِّ الفرقة والتنازع، وبدأَتْ آثارُه السلبيةُ تُهيمِنُ على الحياة الفكرية والتشريعية والسياسية، وتَعُوق عمليةَ توحيدِ الأمة على منهجٍ رشيدٍ واحدٍ وقيامَ دولتِها الجامعة. لقد كان الخلاف أول الأمر اجتهادا فرديا بناء، ثم صار مدارس فقهية متكاملة متآلفة يأخذ بعضها عن بعض، ثم نشأ عن هذه المدارس ما دعي مذاهب متآلفة وأخرى متنافرة، ثم بتأثير الصراع على السلطة ومحاولة الاستئثار بالحكم ذر قرن الطائفية المتمذهبة فأُلبِست الأمةُ شيعا، واستأثرت كل شيعة ببقعة من أرض الإسلام، أسست عليها دولة مذهبية قمعت مخالفيها وحاولت تصفيتهم واستئصالهم واستباحة أموالهم وأعراضهم ودمائهم، لذلك كان قيام أي نظام سياسي منتمٍ لمذهب واحد في شعب متعدِّد المذاهب، له من المخاطرِ السياسية والاجتماعية والاقتصادية ما يَتَعَذَّرُ حَصْرُه وإحصاؤُه وعلاجه وتَلافِيه. إن فشو المذهبية الطائفية عقيدة وسياسة قضيةٌ ليست بالهيِّنةً، والتخلص منها وعلاجها مَطْلَب إنْقاذٍ عاجل لكامِلِ الأمة، وركيزَةُ قيامٍ لأمرها الجامع، لاسيما وهذا الداء العضال يُفْرِز في كل زمان ومكان عواملَ مزمنةً للتَّفتيت والتقسيم والتَّناحرِ على جميع الصُّعُد: - على صعيدِ المشاعرِ السلبية النفسيةِ والاجتماعية التي تَتَحَوَّل بها كلُّ طائفةٍ إلى كِيانٍ منعزِلٍ عن المجتمع، رافضٍ له، مُخَرِّبٍ لجميعِ وشائِجِه وعلاقاتِه الإنسانية. - وعلى صعيدِ التَّنافِي المُتَعَسِّفِ في مجال أحكام العبادات والمعاملاتِ والتشريعاتِ، ليُصْبِحَ كلُّ مذهبٍ ديناً مستقلاًّ عن بقية المذاهب الأخرى. - وعلى صعيد التناحُرِ السياسيِّ بَيْنَ النُّخَبِ والزَّعاماتِ المذهبيةِ التي تَسْتَثْمِر المشاعرَ السلبيةَ والتنافيَ الفقهيَّ لتكريسِ مواقِعِها وسُلطَتِها، وتوظيفِ ذلك للأهدافِ الشخصية، ولِتخْريبِ وحدةِ الأمةِ تحت غطاءِ الدفاعِ عن المذهب وطائفتِهِ. - وعلى صعيد استِثارَةِ عواملِ التوتُّر الاجتماعي النائمِ والكامنِ في المجتمعِ إذْ توقَظُ أحقادٌ وثأراتٌ تتحول الأمةُ بها إلى شظايا، والمذاهبُ نفسها إلى عرقيات، عرب سنة وعرب شيعة، وبربر سنة وبربر إباضية، وأكراد سنة وأكراد شيعة، وشيعة فرس وشيعة عرب، أفغان شيعة وأفغان سنة... - وعلى صعيد الولاءِ للأمة ودولتِها الجامعة، إذ تنشأ عن الوضعِ إحدى حالتين: أولاهما لُجوءُ بعض المذاهب ردّاً على ما ينالُها من ظلم وتهميشٍ وإقصاءٍ إلى الاسْتِقواءِ على الدولة الجامعة بالقُوَى الأجنبية، كما حدَث ويحدث في حالاتٍ تاريخية سا�