هوية بريس – الثلاثاء 29 شتنبر 2015 حين خلق الله تعالى آدم، شاء سبحانه أن يُؤنس وحشته وهو في الجنة بخلق حواء من جنسه، كدلالة واضحة أن الجنس الواحد لا يستطيع العيش منفردا، أو بين جماعة من بني جنسه، لأن ذلك يشعره بالوحشة وإن أحاطت به خيرات الجنّة. لهذا كان الزواج سنة كونية وأمرًا فطريا ليس عند الإنسان فحسب، بل سمة كل كائن حيّ. لكن من يتابع وقائع زمننا الذي انفلتت فيه عرى كثير من الخصال الفطرية في الإنسان، يلاحظ عزوفا بيّنًا عن هذه السنة الكونية، وميلاً للعيش المتحرر من كل التبعات التي يستلزمها هذا الارتباط الطبيعي. والذي ينبغي أن نفطن إليه أن هذا العزوف سيّان بين الذكور والإناث، تمخّضَ عنه ارتفاع مهول في نسبة العنوسة بوطننا العربي، بلغت في إحصاءات أخيرة أربعة عشر مليون عانس بالوطن العربي. وتكاد أسباب العزوف تتشابه بين الدول العربية، وفي مقدمتها تعسير سبل الزواج من الناحية المادية، بسبب تكلفته المرتفعة بدءا بالمهر ومرورا بحفل الزفاف وانتهاء بالسكن، فلا يستطيع الشاب، وأنياب البطالة تنهشه، أن يُقْدم على الزواج فيتقاعس إلى حين. كيف لا وقد بِتنا نحيا في مجتمعات غلبتها شهوة المادة وذابت روحانياتها، فصار الحلال صعب المنال، والحرام متاحا على كل الأحوال. وتُطل الأسباب النفسية والاجتماعية فترخي بظلالها على الظاهرة، إذ إن الكثير من الشباب اليوم يتملكه الخوف من الإقدام على الزواج حذَر الفشل، خصوصا بعد تنامي ظاهرة الطلاق بشكل مخيف، وما يتبع ذلك من التزامات مادية مرهقة: فالزواج مكلف.. والطلاق مكلف.. لذا فالتردد يصبح سمةً للكثير من الشباب. كما أن انعدام الثقة بين الجنسين يعتبر سببا مهما من أسباب هذا العزوف، فالرجال يرددون (ذهب زمن النساء العفيفات، وصارت كل فتاة متهمة حتى تثبت براءتها)، والنساء يردّدن المعزوفة التشاؤمية نفسها (أين هم الرجال الخلّص الأوفياء؟). وبين هؤلاء وهؤلاء يقف صنف آخر أقعده البحث عن الكفء سواء من الناحية الثقافية أو الاجتماعية، وذلك بسبب غلبة بعض العادات العقيمة في المجتمعات العربية خصوصا القبلية، وكذا اقتحام المرأة بقوة سوق الشغل وتفوقها في الدراسة، حيث أكسبها الاستقلال المادي والنبوغ الثقافي نوعا من الثقة بنفسها وجعلها أكثر صرامة في اختيار شريك الحياة ولهذا صار ديدن الكثيرات (ليس مهما متى نتزوج.. بل من نتزوج، الكثير يعتقدون أن القطار فات، فليذهب القطار إن شاء الله إذا كان الثمن الذهاب إلى وجهة لا نريدها). لكن ما يحزّ في نفس هذه الفئة الاجتماعية -رغم تعايشها مع وضعها ورضاها بقدرها- تلك النظرة السلبية إلى المرأة التي لم توفق في الزواج، فترى نظرات الألم والحسرة تتعقبها، والألسن تلوك عبارات شفقة اهترأت عبر الزمن، تستشعر المسكينة كأنّها أضحت وصمة بؤس على الجبين، أو كائنا أضاع بوصلة الحياة لأنه لم يجد رفيق درب يؤنس وحدته ويبدّد وحشته. ولا أدري إلى متى سيظل المجتمع ينظر للفتاة التي لم تتزوج نظرة إشفاق وكأن بها عاهة تخرم مروءتها أو تخدش إنسانيتها!! بخلاف الرجل فالسنوات -في نظرهم- لا تزيده إلا نضجا، والحياة تبقى مشرعة أمامه وإن بلغ عقده الخامس أو السادس، فلا شيء يعيبه، ولا تعقيب على عنوسته. ولئن كانت العنوسة اضطرارا عند البعض، بسبب ما تمليه الظروف الآنفة الذكر، فإنها عند البعض الآخر تكون اختياراً تفرضه قناعات شخصية، كحال من آثروا تكريس حياتهم لطلب العلم ونفع الأمة، لأنهم رأوا أن الزواج بتبعاته ومسؤولياته الجسام سيعيق مسيرتهم العلمية، فهم كما قال عبد الفتاح أبو غدة في كتابه "العلماء العُزّاب": (انصرفوا عن الزواج إلى العزوبة، وجهوا طاقتهم لخدمة الإسلام والعلم والدين، وآثروا بها خدمة الشريعة والمسلمين، فقد آثرونا على متع أنفسهم، وعطش أجسامهم، وراحة أبدانهم، رضوان الله عليهم)، ومثل هذه الاختيارات ليست بالأمر الهيّن على من اختار السير في دروب العلم الطويلة الأمد، بل هي رحلة مكابدة ومشقة لا يستعذب طريقها إلا من آتاه الله صدقا وإخلاصا كبيرين في سبيل خدمة الدين ونشر العلم. يقول الشيخ أبو غدة: (ومن السهل أن ندرك أن التبتّل والانقطاع عن الزواج اختياراً: شدة من أكبر الشدائد في حياة الإنسان العالم، يفقد بها الأنس الروحي، والسكون النفسي، ويتحمل معها مشاق العزوبة في شؤون الطعام والشراب والنظافة وخدمة البيت والمسكن، ويُحرم بسببها من رعاية المرأة وحنانها عند نزول الأمراض والأسقام عليه، وفي وقت حلول الشيخوخة ومتاعبها لديه، وهذه شدائد متراكمة، ومشاق متعاظمة، لا يتحملها إلا من رأى الصبر عليها أهون عليه من فقد الازدياد من العلم وتحصيله وبثه فآثر ما يراه له أغنم وأعظم، على ما يراه له ألذّ وأنعم). وقد تنوعت مشاربُ هؤلاء العلماء العزاب فكان بينهم أهل الفقه والحديث والتفسير والأصول وعلماء اللغة والأدب ومؤرخون وزهاد في عصور مختلفة قديما وحديثا. أذكر منهم: ابن تيمية شيخ الإسلام، والنّووي الوليّ الصالح والعالم الفذ، وابن النّفيس الطّبيب المشهور، وابن الخشّاب النّحوي الماهر، والإمام المجتهد أبو جعفر بن جرير الطبري. وعلى ذات النّهج سارت نساء عالمات، فاخترْن حياة العزوبة على الزواج، ومنهن: فاطمة بنت الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي شغلها طلب العلم وتدريسه عن الارتباط رغم ما اتصفت به من الجمال. ونفيسة بنت أبي العلا بن أحمد بن محمد بن ضيف التي كانت تلقب ب"شيخة أهل زمانها"، وكانت ترفض بشدة تعليم البنات، لعدم مواظبتهن على حفظ القرآن بسبب انشغالهن بعد الزواج. ومن العالمات المغربيات المعاصرات نذكر العالمة الجليلة والمسندة الفقيهة الحاجة بهية بنت هاشم القطبي الفلالية المكناسية، التي عكفت على دراسة العلوم الشرعية على يد مشايخ المغرب وتونس، وكانت تلقي دروسا للنساء في الجامع الكبير بمكناس ولم تتزوج كذلك. ولئن كانت هذه العنوسة إرادية منبثقة من قناعات شخصية، فإنها لم ترقَ إلى مستوى الظاهرة كالعنوسة اللاإرادية التي تعانيها مجتمعاتنا اليوم. فأمثال هؤلاء العلماء -وإن عزفوا عن الزواج- فقد كان لهم من العلم والإيمان ما يمنحهم القوة والمنَعة والحصانة التي تصونهم من الوقوع في الزلل. أما من أجبرته ظروف الحياة القاهرة على التنحّي مع وجود رغبة جامحة في ذلك، فذاك الذي يُخشى عليه، ويُخشى منه كما قال الأديب الأريب الرافعي: "لو تنبهت الحكومة لطردت من عملها كل موظف غير متأهل فإنها إنما تستعمل شرا لا رجلا يمنع الشر، وكل شاب تلك حاله هو حادثة ترتدف الحوادث وتستلزمها وما يأتي السوء إلا بمثله أو بأسوأ منه". وغير خافٍ -ونحن في عصر الانفتاح بلا قيود- ما يعانيه شباب اليوم بسبب انتشار المنكرات ويسر الظفر بها، مما يؤجّج الشهوة ويدفعها للنهل من مناهل الحرام في غياب الوازع الديني، والشهوة لها سطوتها على اللبيب الفطِن، فكيف بالغافل الجاهل، يقول الشيخ أبو غدة في كتابه "العلماء العزاب": (فإن غريزة الشهوة إذا استيقظت في الإنسان العَزَب، شتّت عليه الفكر والرأي، وأقلقت منه العين والنفس، وقد تزحزحه عن الجادّة والاستقامة، تهوي به إلى السُّقوط في هوّة الإهانة والهلاك). لذا وجب العمل بشكل جدّي لإيجاد حلول سريعة لظاهرة العنوسة، والحدّ من تبعاتها النفسية والاجتماعية. ومهما كان سعينا بعيدا عن أصول ديننا سنرجع بخفّي حنين، لذا فالواجب على كل الأسر الالتزام بتعاليم ديننا الحنيف الذي وضع قواعد وضوابط للزواج تيَسّره وتجعله سهل المنال. ففي عهد سلف الأمّة ما كانت هذه المعاناة من غلاء المهور، إذ إن الإسلام تعامل مع المرأة على أنها كائن إنساني يشعر ويحس، وليست بضاعة معروضة للبيع، فجعل قيمتها في عقلها وخلقها، لا في شكلها وجمالها، و(لو كانت المغالاة بمهور النساء مكرمة لسبق إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم) فالمرأة العاقلة حين تقبل بالزواج (تعتبر نفسها إنساناً يريد إنساناً، لا متاعاً يطلب شارياً، وهذه لا يكون رخص القيمة في مهرها، إلا دليلاً على ارتفاع القيمة في عقلها ودينها؛ أما الحمقاء فجمالها يأبى إلا مضاعفة الثمن لحسنها، أي: لحمقها، وهي بهذا المعنى من شرار النساء، وليست من خيارهن) -الرافعي في "وحي القلم"-. ولهذا فنحن بحاجة ماسة لإعادة ترتيب أفكارنا وإقصاء تلك النظرة المادية من حياتنا، وفسح المجال لإنسانيتنا أن تقول كلمتها، حينها سيصبح المهر أمرا ثانويا، وليس عقبة ومعيقا كبيرا عن الزواج كما في عصرنا. وكم هو عظيم هذا الوعي الذي نثر بذوره أمير الأدب الرافعي في "وحي القلم" حين قال: (فمهرها الصحيح ليس هذا الذي تأخذه قبل أن تحمل إلى داره، ولكنه الذي تجده منه بعد أن تحمل إلى داره؛ مهرها معاملتها، تأخذ منه يوماً فيوماً، فلا تزال بذلك عروساً على نفس رجُلها ما دامت في معاشرته). نحتاج أن نعيد النظر في مسألة التعدد -ولا أتحدث هنا عن الجانب الشرعي لأنه عندي محسوم بما هو ثابت في الكتاب والسنة- بل إعادة النظر من جانب تاء التأنيث، التي تُجرّم بينها وبين نفسها هذا الفعل، وتعتبره ضربا من ضروب الغدر والخيانة مهما بلغ تدينها والتزامها. نحتاج أن تؤوب المرأة إلى أنوثتها وحيائها وحسن احتوائها للرجل وتسديد سيره، نحتاج أن يحِنّ الرجل لرجولته وشهامته وغيرته على محارم ربّه. نحتاج أن يعلم كلاهما أن الغاية العظمى من خلق الإنسان هي تحقيق العبودية لله، وليس الزواج فقط، فالزواج قد يكون معينا على تحقيق هذه العبادة، وقد يكون معرقلا ومانعا لها، وصدق ربنا إذ قال: ﴿إنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾. لذا أختي لا تجعلي الحياة تتوقف عند محطة الزواج، واصلي السير على متن قطارها حتى تحين محطة الوصول إلى برّ الأمان، مارسي عبوديتك لربك بالتزام شرعه، اقرئي، أبدعي في عملك، شاركي في الحياة ولا تجعلي العنوسة قبر حياتك. فالتلهّف الشديد على اللحاق ب"قطار الزواج" والفزعُ الأشدّ من المكوث طويلا في "محطات العنوسة" أنتج زيجات فاشلة وقلوبا منكسرة وفلذات أكباد تسحقها دوامة الصراعات الأسرية. فعيشي حياتك راضية بقدرك ولا تعبسي في وجهها!!