بلغني منذ أيام وفاة الشيخ المحدث البحاثة المحقق؛ أبي الحارث علي بن حسن بن عبد الحميد الحلبي العمانيالأردني، رحمه الله تعالى وتجاوز عنه وأسكنه جناته… هو عالم مشتغل بالحديث، من أهم وأكثر الناس ملازمة للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، وأحد الباحثين المراجعين لمؤلفاته قبل طبعها، أمضى شبابه في ذلك، ثم أصبح رئيس مؤسسة الشيخ ناصر الدين الألباني.. بغض النظر عن التوجهات السياسية، والمنهجية للشيخ، التي لا أوافقه في كثير منها، فقد تألمت لوفاته، نظرا لكوني جمعتني به لقاءات كلها مودة واحترام، عندما كنت أسكن الأردن طالبا في كلية الصيدلة بالجامعة الأردنيةبعمان، منذ 1415ه/ 1995م إلى 1420ه/ 200م. أول ما سمعت به في نهاية الثمانينات الميلادية، من القرن الماضي، في ردوده على شيخنا العلامة عبد الله بن الصديق الغماري، دفاعا عن شيخه الشيخ ناصر الألباني، وكنت أتأسف لتلك الردود، وأنزعج منها لنظرا لشدتها وعدم مراعاتها فارق السن ومكانة شيخنا، وكذلك لتعصبي للشيخ ابن الصديق ومحبتي له… ثم بعد سنوات قليلة حاولت تجاوز العصبية المذهبية، والانفتاح على الآخر، واعتبار تلك النزاعات فطرية بين أهل العلم والرأي، خاصة بعدما أثنى لي على الشيخ الألباني كل من الشيخين عبد الله بن الصديق، وعبد الله التليدي، وكنت أثق في شهادتهما، واعتبرتها شهادة صدق تنم عن شفافية وغمط نفس.. وبالفعل؛ لقيت الشيخ أبا الحارث الحلبي في الأردن، وما إن عرفني وعرف شقيقي الشيخ حسن الكتاني، وأننا أحفاد العلامة الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني، ومن الأسرة الكتانية الشريفة، حتى أحبنا، وأصبح يقدرنا، ويتعامل معنا باحترام وتقدير ملفتين، مما جعلنا نبادله المودة والاحترام.. لقيته مرة في جامع صلاح الدين في عمان، وهو مركز السلفيين تلاميذ شيخنا العلامة محمد ناصر الدين الألباني، وكان خطيب الجمعة حينه الشيخ الخطيب المصقع أبو مالك محمد بن إبراهيم شقرة، والذي كان يحبنا ويودنا أيضا، ويقدرنا تقديرا كبيرا، فكنت أحيانا أصلي الجمعة في مسجده، فوجدت بعد الصلاة حلقة كبيرة، وفي وسطها الشيخ أبا الحارث، حبشي اللون، كث اللحية أسودها، يرتدي لباس علماء نجد، وعليه حدة وذكاء، ويجيب الناس وطلبة العلم على البديهة… وهكذا أصبحت ألتقيه من مرة لمرة، واستدعاني مع شقيقه لمنزله، حيث كان يقيم درسا دوريا، فتعجبت حيث وجدت بيته المتسع كله مكتبة، مكتظا عن آخره بالطلبة والمحبين، وحضرت درسه ذلك…ثم ترسخت العلاقة بينه وبين شقيقي الشيخ الحسن… يرجع للشيخ الحلبي الفضل في تعريفي بكتاب "المعسول" للعلامة المختار السوسي، في عشرين مجلدا في تراجم علماء المغرب، حيث سأل شقيقي الشيخ الحسن عن نسخ الكتاب وإمكانية الحصول على نسخة منه، فسألني شقيقي باعتبار مزيد اطلاعي على تراث علماء المغرب، والغريب أنني – لحداثة سني وقتها – لم أكن سمعت بالكتاب، ففتشت فوجدت منه نسختين أو ثلاثة في مكتبة الجامعة الأردنية، تلك المكتبة التي كانت تحوي نحو مليون كتاب ومخطوط.. فاتخذت الكتاب هجيراي، أقرأه وقت الفراغ، وأتصفحه، إلى أن ختمته نحو ثلاث مرات، ثم صورته كاملا على شكل كتاب، بالمال الذي تبقى لي عند تخرجي من الجامعة، ذلك أن الكتاب لم يكن موجودا بالمغرب إلا نادرا وبثمن باهظ، وكانت المكتبات في الأردن تصور الكتب تصويرا متقنا حتى يخرج الكتاب أفضل من أصله، فدفعت ما كان معي من المال من أجل تصويره وتجليده تجليدا فاخرا، في وقت دفع أصدقائي أموالهم لشراء ملابس التخرج والاحتفالات… من المرات التي علقت ببالي حيث التقيت أنا وشقيقي، الشيخ في أحد مساجد حي الهاشمي الشمال بعمان، فقد كنت في زيارة لشيخنا وصديقنا المحدث المحقق الشيخ عصام هادي، وصلينا المغرب في المسجد، فلقينا الشيخ أبا الحارث الحلبي، وكان جدي الإمام المنتصر الكتاني، توفي من قريب، رحمه الله تعالى، فلقينا الشيخ وكان حوله طلبته، وما إن رآنا حتى أقبل علينا ومضى يعزينا بكلام جميل، من ضمن ما قال فيه: "لقد أول بعض العلماء آية: {أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها}؛ أنها: موت العلماء"، ومضى في هذا المعنى، مترحما على الجد، معبرا عن خسارة الناس بوفاته رحم الله الجميع… توفي الشيخ الألباني من قريب، وحدثت فرقة طويلة بين كبار تلامذته في الأردن، تداخلت فيها أمور سياسية، ومالية وفكرية، فبردت تلك الجذوة العلمية التي كانت من قبل، وكان الشيخ أبو الحارث من ضحايا ذلك، فقل ذكره وضعف إنتاجه – حسب علمي – إلا بين طائفة معينة… ثم عدت إلى المغرب، وانقطعت عني أخباره، سوى ما ينشر في الإعلام الرقمي هنا وهناك، حتى بلغني نعيه من أيام، شهيدا بوباء كرونا، فأسفت لذلك كثيرا، خاصة بعد أن علمت أنه كان أحد أصدقائي في بعض مجموعات الواتساب دون علمي، فرحمه الله تعالى وتجاوز عنه، وجزاه عن الحديث والعلم خير الجزاء، وتعازي لسائر أسرته وتلامذته ومحبيه، وأصدقائه، وإنا لله وإنا إليه راجعون..