أخذ المغاربة قيم الجود والعطاء عن طريق العلماء ورجال التصوف كأبي العباس السبتي وأبي محمد صالح وغيرهم، لكن أصل ذلك ومنطلقه هو نصوص الكتاب والسنة، وصاغوها في حكم وأمثال شعبية متداولة… أولا: التوجيهات القرآنية والنبوية القرآن الكريم والحث على الإنفاق بإطلاق والزكاة بشكل خاص * الحض على التراحم والبذل والعطاء وفعل الخير في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الأمر بالتحاض على فعل الخير وبالتواصي به من خلال نصوص الكتاب والسنة إن المجتمع المسلم مجتمع تحاض وتحريض على فعل الخير، ورد ذلك في ثلاث آيات من القرآن المدني بهذا اللفظ. ففي سورة الحاقة جعل ترك التحاض قرين لعدم الإيمان باليوم الآخر. قال تعالى:{ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 33، 34]. قال ابن عاشور: "وفي ذلك كناية عن تحذير المسلمين من الاقتراب من إحدى هاتين الصفتين بأنهما من صفات الذين لا يؤمنون بالجزاء، … وهذا إيذانٌ بأن الإيمان بالبعث والجزاء هو الوازع الحق الذي يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة حتى يصير ذلك لها خلقاً إذا شبت عليه". أما في سورة الماعون فجعل من علامات التكذيب بيوم الدين ترك التحاض على فعل الخير والعناية بذوي الحاجات. قال تعالى:{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ . فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ . وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 1 – 3]. أما في سورة الفجر فقد أنكر القرآن الكريم على كفار قريش ما هم عليه من التكاثر والتفاخر، وتبذير المال في المحرمات، في مقابل التقصير في التحاض على الخيرات، {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر: 17، 18]. وأخذ الله الميثاق على بني إسرائيل بجوانب من التعاضد والتكافل التي تتضمن حقوق الاخوة في القرابة والانسانية، لكنهم ضيعوها، وجاء الأمر للمسلمين بالقيام بها أيضا في سورة النساء حيث قال تعالى:: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } [النساء: 36 – 37]. ففي الآية حض على الواجب العيني الذي يتعلق ببر الوالدين، وبصلة ذوي القربى، وفيها الواجب الكفائي، والمندوب إليه من طرف كل المسلمين كسد خلة الفقراء والمساكين وتغطية حاجياتهم الأساسية. ومن عجز عن بعض الاحسان المادي فيسعه ويسع غيره الاحسان القولي – وقولوا للناس حسنا- والقول الحسن يضمر حبا للأخر وحرصا على إسعاده، ولذلك ورد في الحديث الصحيح : «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» . المنهج النبوي في البذل والعطاء….. أما الجود والكرم والبذل والسخاء فقد بلغ فيهم النبي عليه السلام المرتبة العليا، قال عنه عياض:" كان صلى الله عليه وسلم لا يوازى في هذه الأخلاق الكريمة". روى البخاري عَنْ ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:" كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ."[1] روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه – قال: «ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام شيئا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غَنما بين جبَلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلِمُوا، فإن محمدا يعطي عطاءَ من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجلُ لَيُسْلِمُ ما يُرِيد إلا الدنيا، فما يلبثُ إلا يسيرا حتى يكون الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها». روى البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – : «السَّاعي على الأرْمَلَةِ ، والمسكين ، كالمجاهد في سبيل الله – وأحْسِبُهُ قال – وكالقائم لا يفْتُرُ ، وكالصائم لا يُفْطِرُ ». وجعل النبي عليه السلام كافل اليتيم في مرتبة قريبة منه عليه السلام حين قال فيما رواه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي – رضي الله عنه – قال : قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – : « أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا » ، وأشار بالسبابة والوسطى ، وفَرَّج بينهما شيئًا. إن المجتمع المسلم مجتمع تكافل وتضامن، لا يهدأ بال أي فرد منه حتى يرى إخوته في الدين فرحين مسرورين بما أفاض الله عليهم من نعم. ولا يبلغ المؤمن كمال الايمان حتى يتألم لألم إخوته في الدين ويتوجع لما نزل بهم من ضر. روى البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما – : قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : «مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم : مثلُ الجسد ، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى». …. * الشفاعة ودورها في تفعيل العمل الخيري ( منهج السبتي ) من أصول شيوع الجود والتعاضد قيمة الشفاعة والتوسط عند أهل الخير والجود. فقد يكون الانسان لا يملك مالا، لكن عنده جاه وأثر في نفوس الأغنياء فيقوم بدوره في توجيههم للبذل والعطاء. وهو المنهج الذي تبناه أبو العباس السبتي كما سنراه. وقد ترجم الإمام البخاري في صحيحه : (باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها ). وهي صريحة في التحريض على الشفاعة في الخير، والتي وعد الحق سبحانه بالثواب عليها. قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء: 85]. وحض النبي عليه السلام على الشفاعة في الخير فقد روى البخاري عن أبي بردة عن بْن أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ. وباشر النبي عليه السلام التحريض على البذل والعطاء ، فقد روى البخاري عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : " خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عِيدٍ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ ثُمَّ مَالَ عَلَى النِّسَاءِ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ فَجَعَلَتْ الْمَرْأَةُ تُلْقِي الْقُلْبَ وَالْخُرْصَ"[2].. * في المال حق سوى الزكاة وإلزامية العمل الخيري: إن مما يسهم في العمل الخيري التعاضدي أن يعلم المسلم مكانته في سلم الأحكام التكليفية. وأن يعي أنه ليس صدقة مندوب إليها، ولا تطوعا فرديا فقط، لكنه أكبر من ذلك إنه من الواجبات الإلزامية لأمة الإسلام. وقد حاول العلامة التجكاني في رسالته للدكتوراه بدار الحديث الحسنية أن يتقصى جوانب الإحسان الإلزامي في الاسلام وجمعها في ثلاث مباحث كبرى، أولاها إحسان القرابة، والثاني إحسان التساكن والأخوة، والأخير إحسان الدولة. إن أجمع آية تأمر بفعل الخير هي قوله تعالى من سورة الحج: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. وإن فعل الخير في الآية يشمل فعل التطوع والاحسان إلى الغير مما هو دون الواجب؛ كما يتضمن العمل الخيري الواجب بر الوالدين وصلة الأقارب وإحياء النفوس وعتقها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الزكاة منطلق وبداية وليس هي النهاية: إن الزكاة في الإسلام منطلق لفعل الخير وليست هي الغاية، فمن وفق لأدائها وكان ممن تجب عليه فإنه سرعان ما يرى بركتها على ماله فيبادر إلى مزيد من العطاء خاصة في الظروف الصعبة. والسيرة النبوية مليئة بنماذج من الصحابة الذين قدموا الكثير لمصلحة الأمة ولتخفيف العنت عنها. ويكفي في هذا المقام أن نذكر بعض الأمثلة من سلوك الصحابة والتي بلغ فيها الانفاق أكثر من العشر أو نصف العشر، بل وصل للنصف ومقاسمته مع الغير، وأحيانا لبذل كل المال . صنيع عثمان رضي الله عنه: روى الترمذي مسلم عن عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ قَالَ: (لَمَّا حُصِرَ عُثْمَانُ – رضي الله عنه – أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فَوْقَ دَارِهِ) (1) (فَقَالَ: ائْتُونِي بِصَاحِبَيْكُمْ اللَّذَيْنِ أَلَّبَاكُمْ عَلَيَّ , قَالَ: فَجِيءَ بِهِمَا , فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ فَقَالَ:) (2) (أَهَاهُنَا عَلِيٌّ؟، أَهَاهُنَا الزُّبَيْرُ؟، أَهَاهُنَا طَلْحَةُ؟، أَهَاهُنَا سَعْدٌ؟، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَأَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَتَعْلَمُونَ " أَنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -) (3) (قَدِمَ الْمَدِينَةَ " , وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ غَيْرَ بِئْرِ رُومَةَ) (4) (وَلَمْ يَكُنْ يَشْرَبُ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا بِثَمَنٍ) (5) (فَقَالَ: " مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ , فَيَجْعَلَ دَلْوَهُ مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ , بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟ " , فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي) (6) (فَجَعَلْتُهَا لِلْغَنِيِّ , وَالْفَقِيرِ , وَابْنِ السَّبِيلِ؟ , قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ) (7) (قَالَ: فَأَنْتُمْ الْيَوْمَ تَمْنَعُونِي أَنْ أَشْرَبَ , حَتَّى أَشْرَبَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ، قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ وَالْإِسْلَامِ , هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَسْجِدَ ضَاقَ بِأَهْلِهِ , فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ يَشْتَرِي بُقْعَةَ آلِ فُلَانٍ , فَيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ ِبِخَيْرٍ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟ " , فَاشْتَرَيْتُهَا مِنْ صُلْبِ مَالِي؟ , قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ , قَالَ: فَأَنْتُمْ الْيَوْمَ تَمْنَعُونِي أَنْ أُصَلِّيَ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ) (8) (قَالَ: أَنْشُدُ بِاللهِ مَنْ شَهِدَ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – يَوْمَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ , " إِذْ بَعَثَنِي إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ , فَقَالَ: هَذِهِ يَدِي , وَهَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ , فَبَايَعَ لِي " , فَانْتَشَدَ لَهُ رِجَالٌ) (9) (قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ , هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ: " مَنْ يُجَهِّزُ جَيْشَ الْعُسْرَةِ , غَفَرَ اللهُ لَهُ ") (10) (وَالنَّاسُ مُجْهَدُونَ مُعْسِرُونَ, فَجَهَّزْتُ ذَلِكَ الْجَيْشَ) (11) (حَتَّى مَا يَفْقِدُونَ عِقَالًا وَلَا خِطَامًا؟ , قَالُوا: نَعَمْ) (12) . صنيع الأنصار: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار والمناصفة (استلهاما من سلوك الصحابة رضي الله عنهمعقد أبو العباس النية مع الله ألا يأتيه شيء إلا شاطر فيه إخوانه المؤمنين الفقراء) د) البذل والعطاء للجميع: ومن جهة أخرى فإن الزكاة بمقاديرها تجب على من ملك نصابا في مال نام، أما غيره فلا تجب عليه. لكن الشريعة فتحت أبواب الخير والتطوع للجميع، ورغبت عشرات الآيات في العطاء والإنفاق. إن العطاء المطلوب وهو فضيلة نفسية وروحية لا ترتبط حصريا بالمال، لأن النفقة قد تكون كلمة طيبة وقد تكون إفشاء سلام وقد تكون خدمة أو مجرد إحساس كريم تجاه الآخر…. [1]صحيح البخاري، .... [2] صحيح البخاري، كتاب ….