بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله المبعوث رحمة للعالمين، وبعد: فهذه سلسلة مقالات نقدية تتناول مجموعة من الاعتراضات والافتراءات التي نسجت حول جمع القرآن الكريم وتنزله بدءا من العهد النبوي مرورا بجمع القرآن في عهد الخلفاء الراشدين وصولا إلى نقط المصاحف وتحزيبها ... فأبدأ فيها بحول الله بأمور تتعلق بجمع القرآن في الفترة المكية وفيه وقفات مع اعتراضات استشراقية كرر بعضها صاحب كتاب المخطوطات. هل كتب القرآن في الفترة المكية؟ يقول المستشرق ريجي بلاشير [1]: "يبدو أن فكرة تدوين مقاطع الوحي الهامة التي نزلت في السنوات السالفة على مواد خشنة من الجلود واللخاف، لم تنشأ إلا بعد إقامة محمد في المدينة" [2]. وعلى نفس النهج سار صاحب كتاب المخطوطات القرآنية : " ... لذا ليس هناك من الناحية التاريخية ما يدعم الأطروحة القائلة بتدوين القرآن أيام محمد، حيث لم يسجل أي خبر عن نقل محمد وصحابته في أيام الهجرة رقعا أو عظاما أو غيرها من المواد البدائية التي دونت عليها السور المكية الست والثمانون" [3]. وفي هذا المقال أجيب -بعون الله- عن هذين الإشكالين الأساسيين: هل كتب القرآن في الفترة المكية؟ وهل نقل هذا القرآن إلى المدينة؟ الكتابة في العهد النبوي: شاع بين المستشرقين وحتى بين بعض من كتب من المسلمين في تاريخ تدوين القرآن اعتماد المسلمين على أدوات بدائية في كتابة القرآن مثل عسب النخل والأقتاب وأكتاف الإبل والأحجار ونحو ذلك ... مما أوجد تصورا ضبابيا عن طريقة كتابة القرآن في العهد النبوي، حتى ظن بعض الباحثين أن نقل القرآن مكتوبا كان يحتاج إلى قافلة من الجمال! وعمدتهم في ذلك حديث زيد بن ثابت عند البخاري في جمع أبي بكر للقرآن حين قال : "فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ وَالأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ"، والحقيقة أن زيدا هنا إنما يحكي واقع الجمع وفق المنهجية التي ارتضاها أبو بكر رضي الله عنه وهو استقصاء كل ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مما كتبه الصحابة لأنفسهم حسبما تيسر لكل واحد منهم قبل جمع الصحف في مصحف واحد، أما كتابة القرآن في العهد النبوي فكانت تتم في كل ما تيسر من أدوات ثم تؤلف في الرقاع من جلد أو ورق على شكل صحف كما قال زيد رضي الله عنه : "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نؤلف القرآن من الرقاع" [4]، يقصد جمع وترتيب ما تفرق نزوله وإلحاقه بمواضعه في سوره بإشارة من النبي صلى الله عليه وسلم. والرقاع: جمع رقعة، وقد تكون من جلد أو ورق أو كاغد [5]، وقد استعمل العرب قبل الإسلام قراطيس من ورق البردي المصري أو الرقاق المصنوعة من الجلود، وإنما استعمل بعض الصحابة غيرها من الأكتاف والألواح واللخاف لوفرتها وسهولة مسحها وإعادة استعمالها خلافا للرقاع من الورق أو جلد الغزال. وإذا علم هذا فإن ما يطرحه البعض من حاجة المسلمين الى أحمال من الإبل لنقل المصحف تصور خاطئ، فقد استعمل العرب القراطيس في الكتابة والمراسلة، وقد راسل النبي صلى الله عليه وسلم ملوك عصره وراسل قبائل العرب وكتب إلى الأنصار قبل الهجرة وكتبوا إليه، ولعل قصة المرأة التي أرسل معها حاطب بن أبي بلتعة رسالة لقريش تؤكد اعتماد الكتابة على قراطيس خفيفة يمكن حملها وحتى إخفاؤها بسهولة [6]! وقد جاء في قصة سرية عبدالله بن جحش قوله : فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – أُبَيّ بْنَ كَعْبٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَأَمّرَهُ رَسُولُ اللّهِ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – وَكَتَبَ كِتَابًا . ثُمّ دَعَانِي فَأَعْطَانِي صَحِيفَةً مِنْ أَدِيمٍ خَوْلانِي [7]. ومما يشهد للكتابة في العهد النبوي وحرص الصحابة على الكتابة نهيه صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يسافروا بالقرآن إلى أرض العدو [8]، ونهيه عن خلط القرآن بالحديث في الكتابة [9] ونحوها من النقول. كتابة القرآن في مكة: نتطرق هنا لشبهة ركز عليها صاحب كتاب المخطوطات القرآنية وذكرها قبله ريجي بلاشير وهي عدم كتابة القرآن في الفترة المكية، يقول: "أما عن اختيار المواد التي كان النساخ الأوائل يرسمون عليها القرآن كجريد النخل واللخاف والعظام، فلم يكن موفقا حيث لم تستخدم مواد عملية أو ذات جودة عالية تقاوم الزمن، ناهيك عن ندرة النساخ الذين يعرفون القراءة والكتابة خاصة في المرحلة المكية الأولى، فالمراجع الإسلامية لا تعطي أسماء نساخ كانوا بين رفقة محمد منذ بداية دعوته على عكس الفترة المدنية حيث ذكر ابن سعد أكثر من عشرة أسماء نساخ للقرآن" [10]. أما عن المواد التي كان يكتب فيها القرآن فقد سبق بيان ما فيه من مغالطة وسوء تصور. أما قوله أن المصادر الإسلامية لا تعطي أسماء نساخ في العهد المكي فكذب محض، أو في أحسن الأحوال قصور في الاطلاع، فقد ذكرت كتب السير عددا ممن كتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من السابقين الأولين ذكر منهم ابن كثير في البداية والنهاية: الخلفاء الأربعة: أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وذكر معهم الأرقم بن أبي الأرقم الذي كان المسلمون يجتمعون في داره، و خالد بن سعيد بن العاص وقد أسلم بعد أبي بكر الصديق، والزبير بن العوام، وعامر بن فهيرة، عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكل هؤلاء ممن تقدم إسلامهم في مكة. ومنهم كذلك شرحبيل بن حسنة وهو من أوائل المسلمين ومن مهاجرة الحبشة والعلاء بن عقبة. وبعد ذكر من كتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم نأتي إلى ذكر جملة من النصوص التي تثبت كتابة القرآن في مكة. 1- قال ابن عباس رضي الله عنه عن سورة الأنعام : "هِيَ مَكِيَّة، نَزَلَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، نَزَلَتْ لَيْلَاً، وَكَتَبُوْهَا مِنْ لَيْلَتِهِمْ" [11]. وفي هذا النص الوجيز من الفوائد ما ينقض كثيرا من شبهات القوم، فقد نزلت سورة الأنعام بمكة فسارع كتاب الوحي لكتابتها مما يدل على الحرص النبوي على كتابة القرآن واتخاذ كتاب متخصصين في كتابة الوحي، كما أن الأمر احتاج من الصحابة قراطيس تصلح لكتابة سورة من السبع الطوال إذ يصعب كتابة سورة الأنعام على العسب واللخاف ونحوها. 2- قصة إسلام عمر بن الخطاب: فقد جاء في تفاصيل إسلامه: "فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة، فيها (طه) يقرئهما إياها، فلما سمعوا حس عمر، تغيب خباب في مخدع لهم، أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها" [12]. وفي القصة دلالة على كتابة القرآن في الفترة المكية وأن الصحابة كانوا يكتبون القرآن في الصحف لأنفسهم أو ليعلموا غيرهم. 3- سيرة رافع بن مالك: وهو صحابي جليل من أوائل من أسلم من الأنصار في مكة قبل بيعة العقبة، وأحد النقباء عن بني زريق يوم العقبة، وتردد على مكة قبل الهجرة، وقد جاء في سيرته: ▪️ هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقام معه بمكة فلما نزلت سورة طه كتبها ثم أقبل بها إلى المدينة فقرأها على بنى زريق [13]. ▪️ أول مسجد قرئ فيه القرآن بالمدينة مسجد بني زريق، وذلك أن رافع بن مالك لما لقي النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة أعطاه ما أنزل عليه في العشر سنين التي خلت، فقدم به رافع المدينة ثم جمع قومه فقرأ عليهم [14]. 4- ومن شواهد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على التدوين أنه لما هاجر إلى المدينة حمل معه أدوات الكتابة في أشد الأوقات وأصعبها. فقد ذكرت كتب السير أن سراقة بن مالك لما لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ناداه بالأمان، وقال له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرض عليهم الزاد والمتاع. قال سراقة: فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: اخف عنا. فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، فأمر عامر ابن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم [15]. ولعل فيما ذكر شواهد كافية وبصائر واضحة لمن تأمل، وأسأل الله التيسير على إتمام هذه السلسلة المباركة في نقض جملة من الشبهات حول القرآن الكريم. والحمد لله رب العالمين. [1] : ريجي بلاشير ريجيس: مستشرق فرنسي كان عمل في وزارة الخارجية كخبير في شؤون العرب والمسلمين، ألف كتبا كثيرة، منها: ترجمة القرآن الكريم وتاريخ الأدب العربي، مات سنة 1973 م [2] : القرآن نزوله وتدوينه وترجمته وتأثيره، للمستشرق ريجي بلاشير: 28 – 29 [3] : كتاب المخطوطات القرآنية – ص: 22 [4] : الترمذي: كتاب السنن 5/ 690، والحاكم: المستدرك 2/ 229، وقال: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، والبيهقي: دلائل النبوة 7/ 147، وأبو شامة: المرشد الوجيز ص 44. [5] : السيوطي، الإتقان في علوم القرآن [6] : صحيح البخاري، كتاب المغازي – باب غزوة الفتح وما بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة يخبرهم بغزو النبي صلى الله عليه وسلم [7] : الواقدي 1/14، والأديم الخولاني، قطعة من جلد منسوبة إلى خولان وهي مدينة من اليمن أو توجد كذلك قرب دمشق. [8] : صحيح البخاري – كتاب الجهاد والسير – باب السفر بالمصاحف إلى أرض العدو [9] : صحيح مسلم – الزهد والرقائق/ 5326 [10] : كتاب المخطوطات القرآنية ص: 26 [11] : تفسير زاد المسير ابن الجوزي [12] : جزء من قصة طويلة ذكرها ابن إسحاق [13] : ابن الأثير – أسد الغابة : 2/242 [14] : الاصابة – ابن حجر العسقلاني 2/370 [15] : ابن كثير البداية والنهاية، الجزء الثالث، باب هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة من مكة إلى المدينة