" معذرة للقراء الكرام إذا خاب ظنهم في اختياري هذا النص السردي لتكريم هذه السنة المنتهية واستقبال 2014، كذلك أعتذر إذا كنت قد اخترت الكتابة عن القضايا والأحداث التي تؤرقني بالمُتخايل ، وعن مواضيع هي من صلب وجودنا وتحتل صدارة مشروع المجتمعات التي نحلم بها في هذا العالم المسمى بالعربي.. هو عين على حدث من نسج الخيال الواقعي ..وبدل المقال أهديكم/أهديكن هذه الأقصوصة.. كل سنة والإنسان بخير.." في زاوية بيت صفيحي من حي غجري محادي للطريق السيار المُخترق للعاصمة مدريد، توسطت الغجرية نانوكا Nanuka فراشها البسيط والمتهالك وجلست بعض الوقت وهي تشعر بصداع في رأسها، إنها الثمالة وآثار الخمر وسهر آخر ليلة من سنة 1989. بعد لحظات نهضت متثاقلة وتوجهت إلى زاوية خلف البيت القصديري حيث يوجد ما يشبه مرحاض في الهواء الطلق وأخذت في طريقها دلو ماء ومنديل كان أبيض قبل أن يصبح بُنيا بفعل الاستعمال والاستهلاك. بعد ساعات كانت الغجرية نانوكا قد أكملت ما أمرتها به الأم لولاLolaوتوجهت مسرعة نحو بيت صديقتها دوريDori في المنحدر المقابل لبيتها لتقصي أصداء الليلة الماضية. وجدت صديقتها في انتظارها وبادرتها: -" إيه نانوكا تبدو فرحة ومرحة يا كبرونة Cabrona" ضحكت نانوكا دون أن ترد وواصلت صديقتها قائلة: -" تحقّق المراد ويبدو أن رومانو Romanoمغرم ومتيم بك، يالك من عفريتة". حينها اقتربت نانوكا من صديقتها وقبلتها في وجنتها اليسرى وهي تقول: -" شكرا عزيزتي، ولو أنني لم أكن أنتظر أن يعلن رومانو حبه لي في ليلة رأس السنة،وبهذه السرعة وأمام الجميع ". ثواني من الضحك والقهقهات ثم أردفت نانوكا وهي تتنفس الصعداء: -" أنا فرحة، بل أطير فرحا ولا أصدق ما جرى، إنه جميل وفاتن ،ألم تري كيف أتى على دراجته النارية الضخمة وكأنه فارس يركب حصانا وكيف أزاح خودة رأسه ؟ وكيف كان يُبادلني نظرات الحب، ألم تر كيف كان يراقصني ويشدني من خصري ؟ لا زالت رائحته وروائح عطوره تملأ أنفي وتملأني بنشوة لا تنتهي، إنني عاشقة يا عزيزتي ولاأستطيع أن أصبر طويلا". بينما كانت الصديقتان تتبادلان أطراف الحديث والتعليقات عن حبيبيهما سمعتا صراخا وعويلا قادما من الجهة الجنوبية للحي الصفيحي وصوت منبهات سيارات الشرطة. قفزتا بسرعة إلى خارج البيت الصفيحي لاستطلاع الأمر ومعرفة سبب مجيء الشرطة التي كانت زياراتها مألوفة عند سكان الحي. في أسفل المنحدر المقابل لبيت "دوري" اجتمعت النساء تتقدمهن الأم "لولا" وهي تصرخ في وجه أحد أفراد الشرطة: -" ماذا تريدون؟ ارحلوا عنا واتركونا و شأننا، نحن مواطنون أحرار وهذا بلدنا فما هذه العنصرية ؟ لماذا تبحثون عن أتفه الأسباب لمحاصرتنا؟ " في هذه الأثناء كان الشرطي يحاول تهدئة الأم لولا وبقية النساء بينما استمر سيل الملتحقين بالمكان من نساء وأطفال، وبدت حالة من التوتر على أفراد الشرطة التي سارع أحد أفرادها بطلب التعزيزات عبر الراديو اللاسلكي. بعد لحظات التحقت بالمكان فرقة صغيرة من شرطة مكافحة الشغب وأخدت مكانها في مدخل الحي الذى كان يعج بالنساء، فيما تمترس الأطفال في الجهة العليا من الحي وهم يحملون الحجارة وبعضهم يحمل عصي صغيرة وزجاجات فارغة. انطلقت "نانوكا" مسرعة تسأل أمها عن ما يجري، بينما كان قائد كتيبة شرطة مكافحة الشغب يطالب الجميع بالانسحاب وضبط النفس وتلافي العصيان، حينها صرخت "نانوكا" في وجه ضابط الشرطة البدين: -" ما بكم ؟ أنتم البيض تحتقروننا وتعتبرون كل غجري متهم ومجرم ولا تكفوا عن ملاحقتنا ؟ عنصريون ، هذا حالكم وهذا أنتم عنصريون وتعتقدون أن اسبانيا لكم لوحدكم". اقترب الضابط من "نانوكا" تحت نظرات الأم "لولا" الغاضبة وطلب منها أن تهدأ قبل أن يواصل: -" آنستي نحن فقط نمتثل للأوامر ولم نأتِ لإيدائكم ولا علاقة لحضورنا بكم ، نحن جئنا لاعتقال مهاجر سري مغربي يختبئ في الحي ونحمل أمرا قضائيا بذلك وعليكم أن تساعدونا في تطبيق القانون أو على الأقل أن لا تعرقلوا عملنا". لم تمهل الأم لولا رائد الشرطة وقاطعته: -" ارحلوا من حيّنا ، انتم ورؤساؤكم من اللصوص الكبار من يجب أن تغادروا، وليس بيننا أي مهاجر سري " ابتعدت "نانوكا" قليلا وهي تخاطب الجميع " نحن أحرار وإذا كان بيننا مهاجر فهو في حمايتنا ولن يخرج والشرطة هي التي يجب أن تخرج من حينا. وردت النساء بالتصفيق وارتفعت أصوات الأطفال بالصراخ وبدأ بعضهم يرمي الشرطة بالحجارة بينما ضابط الشرطة ينبه الجميع من مغبة العصيان. وبعد لحظات سادها التوتر وبعض الهدوء عاد الضابط البدين مناديا الأم لولا قائلا: " جاءتنا أوامر بالانسحاب لكننا سنعود حتما والقانون يعلو ولا يُعلى عليه ومن مصلحتكم أن تسلموا المهاجر السري " صفق الجميع وعلت مواويل النصر وبدأت فرقة مكافحة الشغب في تكسير صفوفها والانسحاب بشكل منظم وتدريجي ومغادرة المكان، بينما كانت نانوكا تصرخ بأعلى صوتها: " عنصريون تكرهون الضعفاء وتريدون التخلص منا ومن المهاجر المسكين". وأجابتها إحدى النساء الغاضبات: -" لا يا نانوكا ليس المهاجر الذي يبحثون عنه إلا ذريعة لمحاصرتنا والضغط علينا لنغادر هذا المكان وكل مكان نقيم فيه، هذه هي ديموقراطيتهم، إنها ديموقراطية الأقوياء والأغنياء". تفرق الأطفال في مجموعات يواصلون اللعب وعادت الأمهات والنساء إلى أشغالهن بينما استمرت نانوكا إلى جانب أمها تسألها عن حقيقة المهاجر المغربي السري الذي جاءت الشرطة لاعتقاله، ونظرت لولا إلى ابنتها ببعض الحنان وبابتسامة وقالت لها بصوت خافت: -" نعم كيريدا Querida(عزيزتي)، يعيش معنا منذ مدة شاب مغربي مهاجر يسمى محمد وهو صديق ابن جارتنا تيبو Tibo وينام في فناء بيتهم، وسبق أن سألت الشرطة عنه لاعتقاله وطرده إلى بلده قبل أن تأتي اليوم بأمر رسمي " بقيت نانوكا مشدوهة تنظر إلى أمها قبل أن تسألها من جديد " وما معنى سري ومهاجر " أجابتها أمها ببعض الغضب ": هؤلاء البيض يعتبرون كل من لا يحمل هوية فهو سري وبالخصوص إذا كانوا من الموروس*“Moros”، إنهم يكرهون المغاربة كثيرا كما يكرهوننا" بدت نانوكا غير مُصدّقة لما تسمعه وسالت أمها من جديد: - " ماما لولا نحن كذلك لا نحمل هوية وأغلبنا لا يتوفر على عقد ازدياد ، هل هذا يعني أنهم سيطردوننا ؟". تنهدت لولا وأجابت:" لا أدري عزيزتي، لا أعتقد نحن غجر وإسبان أحبوا أم كرهوا والمهم أن هذا الشاب المسكين يعيش بيننا وأخاف عليه إن هو خرج عن حدود الحي، إنه لطيف ووسيم ولا يختلف في شكله عنا، يبدو وكأنه غجري، فقط لغته ولكنته تفضحه " . أنهت لولا كلامها وهي تأمر ابنتها بالعودة لمساعدتها في أشغال البيت وفي تهييء الطعام لإخوانها الخمسة لأنها ستغادر إلى المدينة لجمع بعض المال من قراءة الطالع للمارة. انطلقت نانوكا مسرعة نحو بيتها الصفيحي بعد أن حيت دوري التي كانت تراقبها من بعيد وظلت كل الوقت تفكر في المورو محمد وفي وضعه وفيمن يكون وفي شكله وفي صداقته ل "تيبو" وحتما لحبيبها الغالي رومانو وقررت أن تسأل صديقتها دوري عن التفاصيل، كما شعرت برغبة في التعرف عليه وعلى العالم البعيد الذي أتى منه، كما تخيلت ملامحه على الشكل الذي شاهدته في أفلام السينما عن الموروس وفي الكتب المدرسية وحكايات الرهبان عن الموروس وعن عداوة الموروس للمسيح والمسيحيين. وانتابتها أسئلة لم تجد جوابا عنها ينعكس فيه وصف أمها للمورو محمد اللطيف الوديع المُختبئ في حيها وصور ومشاهد الموروس التي اعتادت على سماعها في الكنيسة وفي السنوات القليلة التي قضتها في المدرسة قبل مغادرتها. وقررت أن تفتح هذا الموضوع مع دوري وأن تتعرف على هذا المورو صديق تيبو الذي يختبئ في بيته ويعيش بين الغجر. * المورو والجمع موروس (بالإسبانية Moros) أو الموريون هو مصطلح ذو استخدام شعبي وعامي يطلق على كل سكان شمال أفريقيا. يطلق من دون تمييز عرقي أو ديني أو ثقافي واضح