من الأمور التي تحتاجها المؤسسات التي تقصد نيل القبول وتحقيق أهدافها في الناس: المشروعية والمصداقية والفعالية، وعلى قدر ما يتعطل أو يضعف أحد تلك الأركان تبتعد المؤسسة عن تحقيق المقاصد والغايات على الوجه السليم والصحيح، ولعل تدبير المجال الديني أحوج المجالات إلى الحرص على تلك الأسس لما ينبني عليه أمره من قواعد الإقناع وحرية الإرادات وعدم الإكراه. "" وإذ نركز في هذه المقالة على عنصر المصداقية، نبادر إلى القول بأن الممارسة والفعل خير معبر عن المصداقية من أي كلام أو خطاب مهما بذل الجهد في تنميقه وتزينه وترويجه، كما نبادر إلى تأكيد جملة من الإيجابيات المسجلة في المجال إثر الحركية التي عرفها مركزيا ومحليا مثل: العناية بالمساجد والاهتمام بالتأطير وهيكلة المجالس العلمية والزيادة في الإنفاق في عدد من أوجه النشاط الديني والعناية بتحديث آلياته والطفرة التي شهدها الإعلام الخاص به وخصوصا في إذاعة محمد السادس وبدرجة ثانية قناة السادسة.. كل ذلك لا يمكن أن تكون معه الغفلة عن ما يجري من اختلالات واضحة أعتبرها من مهلكات المصداقية وضياعها، وهو الأمر الذي لا يتمناه كل مخلص وليس في مصلحة أحد حدوثه لا في السلطة ولا في الفاعلين الدينيين ولا في عموم المتأثرين بالمجال. ويمكن رصد تلك الاختلالات حسب ما أراه في جملة من المواقف ليس بالضرورة تفصيل الكلام فيها جميعا في مثل هذا المقام. وأول شيء في ذلك التحول الهائل في تدبير مضمون الرسالة التي يراد توصيلها في المجال الديني في تجاه تشجيع اللامعقول، ونقض غزل مصلحين عظام في بلدنا الكريم أعادوا القوة لمرجعية الكتاب والسنة وتوارى معهم صوت البدعة والخرافة، والأمر الثاني التبذير الملاحظ في أموال الأوقاف بما لا يناسب سلم الأولويات فيها، وضعف مراعاة مقاصد الواقفين، وتفويت الكثير منها بثمن بخس فيه غبن كبير. وثالث المواقف، ما يلاحظ ويستنتج من حجر على العلماء وخصوصا في مؤسساتهم الرسمية وتوجيه مسار عملهم ومواقفهم وبياناتهم في كثير من الأحيان بما يفقدهم المصداقية وجاذبية التأثير. ورابع تلك المواقف، تضييق معنى الخصوصية الدينية المغربية بما يجعلها تضيق بالخلاف حتى في الفروع الصغيرة، وإلباسها بعض الأمور الغريبة كما جاء في الدرس الحسني لأخينا الدكتور ادريس بن الضاوية والذي جنح به القول، حتى قال: بأن زيارة ضريح معروف الكرخي هو الترياق المجرب، الأمر الذي قد يوحي بأنه ليس على صيدلياتنا بعد هذا الكشف العظيم سوى أن توصد أبوابها، وليس على أطبائنا غير إعلان الإفلاس. والبحث عن وظائف جديدة في طب الأرواح. وخامس المواقف ما فهم منه طعن مدير دار الحديث في الحديث الصحيح، عندما قال بوجود مرويات مكذوبة في صحيح البخاري وهو عند سواد المسلمين أوثق كتاب بعد كتاب الله وصاحبه عندهم أمير المومنين في الحديث. وقد رد حديثا بما يراه يتنافى مع الحقائق العلمية التجريبية، والحديث بالمناسبة يتكلم عن أمور غيبية تتعلق بسجود الشمس للرحمان عند مغيبها، ويؤكد فقط ما ورد في القرآن الكريم في غير ما آية، مثل قوله تعالى:" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ" . وسادس المواقف تلعثم أخينا الدكتور أحمد العبادي رئيس الرابطة المحمدية للعلماء - وهو من نحبه وإن كان الحق أحب إلينا منه - في أمر منع موظفات المؤسسة السجنية من حقهن في اللباس الشرعي حيث قال كلاما طويلا ولم يكن من حصيلتة نصر الحكم الشرعي ولا إنصاف المظلومات. وسابع المواقف وأخطرها: المعالجة الأمنية لملفات ذات طابع ديني كان الأجدى فيها الإقناع والحوار والتروي والبحث عن سبل أخرى غير القمع والإغلاق والاعتقال، وهو ما حدث مع ملف السلفية حيث زج بآلاف الأبرياء في السجون والمعتقلات لمجرد قناعات دينية من غير أن يثبت في حق معظمهم أي ممارسات للعنف والإرهاب، بل هم بالأحرى من عانى من الظلم والعنف والإرهاب، ونفس الشيء يحدث الآن مع دور القرآن حيث أغلقت أكثر من ستين دارا لمجرد رأي شخص في الفروع، فماذا عسانا نقول لأطفال المستقبل من رواد تلك الدور وهم يرون خمارات ونوادي ليلية وأماكن مشبوهة ربما يمرون عليها في غدوهم ورواحهم تنعم بمن يحرس أمنها على أبوابها، في حين أغلقت في وجوههم بيوت يتلى ويحفظ فيها كلام الرحمن؟ ولعل كل موقف من هذه المواقف كاف لوحده لضرب المصداقية في مجال تدبير الشأن الديني، وتنفير قطاع عريض من الشباب المتدين لنقذف بهم بعيدا عنا، ولتتلقفهم جهات متربصة فاعلة توهمهم بتلبية حاجاتهم وتسلك إليهم ألف سبيل لاحتضانهم وغسل عقولهم وتحريف أذواقهم وعواطفهم، فكيف إذا اجتمعت تلك المواقف وغيرها، فستكون من غير شك الحالقة الماحقة للمصداقية. فليس الحل أبدا في تشجيع الخرافة والممارسات البدعية ومواسم الدجل وموروث التدين المغشوش، ولا في بعث مظاهر عصور الانحطاط، وتزويد أوكار السلبية والتواكل والكفر بالسببية وغيرها بأسباب الاستمرار والحياة، وليس البلسم أبدا في الإنفاق السخي على ما كان الواجب تجاهه التوعية والتنبيه والتصحيح كما كان شأن عدد من ملوك الدولة العلوية، وليس الحل أيضا في تجديد الأضرحة والمزارات وما يسمى بأماكن العبادة، والحال أن أهل العلم الصحيح السليم النقي لا يعرفون غير المساجد يصلون فيها ويتعلمون فيها دينهم وغير قبور موتاهم يوقرونها من غير تقديس ولا تبجيل ولا استغاثة ولا حتى بناء أو إيقاد السرج والشموع، بل يسلمون على أهلها ويتذكرون أنهم لاحقون بالسابقين منهم ويسألون الله الرحمة لهم وقبول الصالحات من أعمالهم وتجاوز الرحمن عن سيئاتهم، وإلا فأين هي أضرحة الصحابة وهم من هم في الصلاح والولاية؟ إن الاعتناء بسدنة الشركيات والبدعيات وإحياء مواسم الاستغاثة بالموتى والتمسح بالجدران والتعبد بالجدبة وشق الرؤوس وأكل الزجاج واللعب بالنار وافتراس الجيف..، أمر فيه مخالفة صريحة للكتاب والسنة ومذهب أهل السنة والجماعة ومذهب مالك واختيار أبي الحسن الأشعري في العقائد ونصائح وقواعد الجنيد السالك الذي ما فتئ يندد بالخروج عن منهج الكتاب والسنة وضرورة التزامهما في التربية والسلوك كما في المعاملة والعبادة، وأي مجاملة لطقوس الخرافة فيه ضياع لمصداقية تدبير الشأن الديني. كما ليس من الرشد في شيء الزج بالعلماء في معارك خاسرة تضعف حالهم في الناس ويبعث أمرهم عندهم على الشفقة والرثاء، وإلا ماذا يعني السكوت المطبق الطويل في جملة من القضايا التي هزت الأمة في داخل البلاد وخارجها، والتحرك في أمر فرعي بأسلوب عنيف، ألم يكن الأولى - لو كان لعلمائنا استقلال في الإرادة والقرار - أن يعاملوا الشيخ القرضاوي شيخ أهل السنة في زماننا بما يليق بمكانه ومنزلته ويردوا ما لا يوافقونه فيه بالدليل والبرهان وقواعد العلم المعروفة، ويعاملوا الدكتور المغراوي فيما اعتبروه مخطئا فيه بما عاملوا به مثلا الدكتور أحمد الخمليشي مدير دار الحديث الحسنية، حيث اكتفوا بنشر رد أحد العلماء عليه في موقعهم على الشبكة المعلوماتية، من غير ضجيج ولا صخب يذكر، والحال عند التدقيق أن الهوة كبيرة بين الخطأ في أمر فرعي وبين القول بوجود مرويات مكذوبة في صحيح البخاري. فيغنوا بذلك الساحة بالنقاش العلمي الهادئ الرصين، ويؤسسوا لأدب الاختلاف، مطمئنين إلى أن الزبد سيذهب جفاء " وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الارْضِ"